تقديم: هذا مقال لأستاذ انجليزي كان يعمل مدرسا للغة الإنجليزية في مدرسة سنار للبنين في عام 1987م. نشر المقال (الذي لا يخلو من سخرية مرة، ونقد لاذع للحياة في السودان آنذاك) في المجلة البريطانية "دراسات سودانية" العدد 12 في عام 1992م. من فوائد الإطلاع على مثل هذه الكتابات التعرف على آراء "الآخرين" عنا، وكيف ينظرون إلى كثير مما نغفل نحن عنه، بحكم الألفة والتعود. وصدق من قال إن المعاشرة حجاب. لعل البعض منا يبغض أن تأتيه سياط النقد من غير أهل البلاد، خاصة ممن حكمونا في العهد الاستعماري. ونحن قوم يضيق صدرنا بالنقد أنى كان مصدره. صادف ما كتبه الرجل البريطاني عن عام 1987م هوى خاص في نفسي، إذ كان ذلك العام "عام عسرة" لا يدانيه في ذلك الوصف إلا أعوام مايو الأخيرة (1980م – 1985م)، وسنوات التسعينات الأولى. قد تجد أن كثيرا مما شكا منه الرجل البريطاني لا زال يلازم حياتنا من روتين قاتل، وبطء سلحفائي، وقليل اكتراث. فلنشكر من أهدى لنا عيوبنا، ولنعمل على إصلاحها. غادرت سنار ذات صباح باكر متوجها للخرطوم لأكون في المطار في استقبال والدي القادم من بريطانيا لزيارتي. مرت رحلتنا بالباص (الحافلة) من سنار إلى الخرطوم، والتي استغرقت ست ساعات بسلام، بيد أن الباص الذي أقلنا من "السوق الشعبي" لوسط البلد توقف بنا قبل أميال من هدفه النهائي لنفاذ الوقود، مما دعا الركاب لإكمال الرحلة مشيا على الأقدام. لسبب ما، لا تجد عادة في الفنادق الرخيصة غرفة شاغرة! بيد أن الحظ حالفني (هذه المرة) فوجدت غرفة تناسب دخلي (المحدود). لطالما عرفت الخرطوم مدينة باعثة على الاكتئاب. تجد هنالك أطفالا صغارا يغطيهم التراب والغبار يلتحفون الثرى وينامون على جوانب الطرقات (وفي داخل المجاري)...لا يكاد الحال في المدينة يتحسن رغم استمرار عمليات البناء. حتى الناس في الخرطوم تجدهم أقل ودا ولطفا من غيرهم في أماكن أخرى. قضيت بقية عصر ذلك اليوم في مكتبة جامعة الخرطوم بحثا عن كتب تتحدث عن السودان والتنمية والتطور فيه، ولكني لم أجد ضالتي. رغم كل ذلك لاحظت أن القوانين المقيدة لأزياء النساء في الجامعة أقل صرامة من تلك المطبقة على بقية النساء في البلاد، فالفتيات – على وجه العموم في الجامعة- يلبسن ملابس غربية الطراز تبدي أذرعهن والأجزاء السفلى من سيقانهن. كذلك رأيت بعض النسوة يقدن السيارات، وهذا أمر لن تراه في سنار. جلست في غرفتي بالفندق مساء ذلك اليوم أقرأ كتابا حين فوجئت بضجيج عالي النبرة يأتي من الخارج، ويختلط هدير الأصوات بأبواق السيارات العالية الصخب. فكرت في أن الأمر لا يعدو أن يكون واحدا من اثنين: إما انقلاب عسكري ظل الناس يتوقعون وقوعه، أو مباراة كرة قدم. دلفت إلى المطعم الخانق الجوالملحق بالفندق حيث علمت أن الهلال قد انتصر في المباراة وتأهل لنهائي كأس افريقيا. استيقظت مبكرا صباح اليوم التالي وأخذت عربة أجرة (تاكسي) إلى المطار. انتظرت في قاعة المطار الأنيقة في مقهى يسمي "داون تاون" ذا ذي طاولات بيضاء ناصعة البياض وكراسي خضراء تشابه في لونها نباتات الزينة المبثوثة في أرجاء المحل. تتوسط المكان نافورة صغيرة لامعة ذات ألوان تتغير مع كل نفثة /ضخة ماء.عجبت كيف أن مثل هذا المكان العصري الفسيح والمكيف الهواء هو أحد مشاريع "التنمية والتقدم" التي لا تفيد أحدا من فقراء السودان. تجولت في المطار قليلا، ثم ذهبت إلى غرفة الاستعلامات لأسأل عن طائرة والدي القادمة. فوجئت بمن يخبرني أن المطار "مغلق بسبب أعمال الصيانة"! لم أصدق أذني فأعدت السؤال لأتلقي ذات الإجابة. سألت مرة أخرى عن رحلة الخطوط الجوية السودانية رقم 113 القادمة من لندن، فأجابني الموظف بأن هنالك رحلة للخطوط الجوية البريطانية يتوقع وصولها في نهاية الأسبوع. سألته: "وماذا عن رحلة الخطوط السودانية؟". رد على الموظف (في غير اكتراث): "ربما بعد يومين، وربما بعد أسبوع". منعتني الصدمة من الكلام، فقفلت راجعا إلي سنار وأنا أكاد لا أصدق ما يحدث أمامي. لم أكن لأعجب إن حدث هذا في أي منطقة في السودان...ولكن مطار البلاد الدولي؟! تصورت (لغفلتي) أن المطار الدولي سيكون بمنجى من ما يحدث، بيد أنني أدركت مقدار خطأ تقديراتي. بعد وصولي لسنار قضيت ساعتين كاملتين في مكتب البريد في محاولاتي للاتصال الهاتفي بوالدي في انجلترا، حيث أخبرني والدي بأنه قرر أن يغير حجزه للخطوط البريطانية في الأسبوع التالي، وأنه سوف يجد طريقه بنفسه لمدينة سنار. مرت أيام قليلة على تلك المحادثة لأسمع ذات يوم صوت رجل آت من خارج الدار التي كنت أقيم فيها مع اثنين من المدرسين البريطانيين ويونس صاحب المنزل السوداني. كان ذلك الصوت هو صوت سائق عربة الأجرة التي أقلت والدي لبيتنا، بعد أن طاف به على كل مدينة سنار، بل وذهب به – خطأ- إلى منازل يقيم بها رجال من شرق أوروبا، كل ذلك وهو يزعم أنه يعرف مقصد الراكب! طالب السائق بمبلغ كبير أثار احتجاجي، بيد أن والدي بدا سعيدا بوصوله سالما لدارنا. ورغم الصدمة الأولي التي واجهته، فقد أصر على أن يدفع للسائق ما طلبه وهو في تمام الرضا، ولم يلق بالا لاحتجاجي. كيف لا وهو لا يكاد يصدق أنه وصل أخيرا لمقصده النهائي...بيتنا في سنار. يبدو أن أبي – ولعدم رؤيته لبيوت سنار الأخرى، لم يقدر مقدار النعيم الذي كنت أعيش فيه، إذ كان البيت مبنيا من الطوب الأحمر وبه ثلاجة عتيقة ومروحة سقف تعمل. بلغت به السذاجة أنه سألني إن كنت قد أبلغت السلطات المختصة عندما أخبرته بأن الماء مقطوع عنا ذلك اليوم! اختفت في بطوننا في أقل من نصف ساعة الكيكة الطرية التي جلبها معه والدي، وفرحنا بالكتب والمجلات والصحف والرسائل التي احضرها أيما فرح. قضيت بقية يومي معه في فناء الدار وهو جالس على كرسي، يسب الحر ويشرب قوارير لا حصر لها من البيبسي كولا. بدأ اليوم الثاني للزيارة بما انتهي عليه اليوم الأول من تذكير والدي لي، وهو يهجم على الثلاجة العتيقة، بأن الحرارة لا تطاق. ذهبنا جميعا نطوف السوق، وجلسنا في أحد المطاعم لتناول وجبة الإفطار. التهمنا جميعا أطباقا من العدس والكبد، إلا أن والدي، والذي اكتفى بقليل من حبات الفول السوداني، واجهته عقبة أخرى لم يستطع التغلب عليها، إلا وهي استعمال "بيت الأدب" السوداني، وقد يفسر ذلك عزوفه عن تناول الطعام. لم ننقطع عن العجب والتعجب، والضحك أيضا من أسئلته وتعليقاته عن كثير مما يمر أمامه من الناس والأشياء والأحداث، والتي كشفت عن توقعاته التي كثيرا ما كانت بعيدة كل البعد عن الحقيقة. فلقد سألني مثلا وأنا استعد للذهاب لممارسة هوايتي المعتادة في لعب كرة القدم إن كنت سأتناول دشا في حمامات معلب الكرة! بدا وكأنه لا يصدق فقر ذلك المكان. بعد يوم أو يومين بدأ والدي يلين قليلا ويتواءم مع الواقع. اعترف أخيرا بأن البقاء في المنزل الهادئ هو الخيار الأفضل، فصنع لنفسه كوبا من الشاي بالليمون وتناول كتابا ليقرأه. ذهب بعد ذلك مع يونس (مالك البيت) لزيارة محطة تنقية المياه، وبدا رويدا رويدا في التعرف على الشخصية السودانية، وبدا أنه يقدر حميميتها ودفئها. قرر أن يطبخ طعامه بنفسه، إذ أنه كان يحب ما يصنعه بنفسه، وتخلص أخيرا من عقدة استعمال المرحاض السوداني. وتنامت شجاعته أكثر فقبل دعوة الأساتذة في المدرسة لتناول طعام الإفطار. كان الإفطار في المدرسة مناسبة تستحق التوقف عندها والتأمل، خاصة عند ذكر سلوك "الخير" مدرس الجغرافيا. كان المدرسون يتحلقون جميعا حول "صينيتين" كبيرتين توضعان في منتصف طاولتين منفصلتين. كان "الاتكيت" السوداني يستوجب أن يأكل المرء بسرعة وتواتر معقول من ذلك الطعام الجماعي بحيث يراعي حاجة زملاء المائدة للأكل. كان معظم المدرسين في غاية التهذيب والمراعاة الدقيقة لذلك " الاتكيت ". فقط كان "الخير" هو الاستثناء. كان رجلا ضخم الجثة، شديد الشهوة للطعام. كان يقبل دوما على الطعام بدافع نهم شديد وكان له أسلوبه الخاص (والفعال) في التنقيب عن "المطايب" وتناول لقم ضخمة من الطعام يلفها بالخبز بيده المضمومة بمهارة لا نظير لها. كانت عيناه تنتفخان ببهجة عظيمة وهو يعبئ اللقمة الضخمة في فمه. عندما تحين ساعة الإفطار، كان المدرسون يتسابقون للجلوس حول الطاولة التي لا يجلس عليها "الخير". كان عزاء سيئي الحظ ممن يجلسون معه حول تلك الطاولة أنه – وبذلك الحجم الضخم- كان يستغرق بضع دقائق حتى يهب من السرير الموضوع قرب الطاولة. ولمثلي من البسطاء الذين لا يجيدون الأكل بيد واحدة، فإن أفضل شئ نفعله هو الأكل جيدا في المنزل! لم يكن "الخير" يأبه لسخرية المدرسين من عاداته في تناول الطعام. وفي يوم احتفال المدرسين بزيارة أبي، أضيف لصحن العدس طبق ساخن من الشعيرية يتصاعد بوخه. لم يكن "الخير" – خلافا لزملائه- ممن يأبهون للحرارة في الطعام، مما جعل الحيرة تملأنا: إن توقفنا عن الأكل حتى ندعه يبرد، فسوف يقضي عليه صاحبنا بلا ريب، وإن أدخلنا أيدينا فيه احترقت أصابعنا وأفواهنا به. لمعالجة الوضع رفع البعض طبق الشعيرية عاليا حتى يبرد، بينما اكتفى البعض الآخر بأقل القليل من ذلك الطبق الحار. وعلى كل حال، لم يلحظ أحد أن والدي لم يكن شديد الحماس لكل ما كان يحدث ولم يأكل إلا القليل مما كان أمامه. في اليوم الأخير لوالدي معي قمنا بزيارتين أوضحتا له بجلاء الفرق في مستوى الحياة بين السودان وأوروبا. كانت زيارتنا الأولي هي لبيت زميل لنا اسمه يحي. كان يحي رجلا عزبا يعيش مع أخت له. جلسنا في غرفته نحتسي شراب عصير الليمون ونتفرج على صور الرجل أيام الطلب. كانت غرفته غاية في التواضع ليس فيها غير سرير واحد ودولاب ملابس وطاولة صغيرة، إضافة إلي صندوق كرتوني به كتب وصور فوتوغرافية. صدم والدي لتلك الدرجة من الفقر المقدع لرجل في مثل تعليم ووظيفة ذلك الأستاذ في بلد كالسودان. على النقيض من تلك الزيارة أتت زيارتنا الثانية لرجل ألماني وزوجته يعملان في مركز تدريب للشباب. كانت دارهما ذات الغرف الأربع باهية التأثيث، مكيفة الهواء، وبها وسائل عصرية غربية الطابع في المطبخ (مثل فرن الغاز وخلاطات كهربائية) ولديهما جهاز استيريو. بدا والدي -ولا عجب - أكثر ارتياحا في ذلك البيت، وصرح (وهو يتأهب للمغادرة لبلاده) بأنه يجد نفسه في مثل تلك الأجواء السودانية المريحة، بيد أنه يعد غياب حمام "صحيح" وحانة قريبة أمرا منغصا للغاية. أسر إلينا الزوجان الألمانيان بأنهما تغلبا على مشكلة غياب الحانة بجلبهما عدداً من أدوات التخمير اللازمة لصنع المشروبات الكحولية على أساس أنها خضروات أوروبية معلبة، لا سيما وأن الطقس في السودان يساعد على التخمر! كذلك تغلبا على مشكلة "المرحاض السوداني" بتركيبهما لحمام أوربي الطراز عند حضورهما للبلاد. عندما غادرنا والدي صباح اليوم التالي متجها لإنجلترا أخذ معه ذكريات لا تمحي عن السودانيين كشعب دافئ وودود وكريم، وذكريات مغايرة عن صور لحياة صعبة التصديق، وقصص مثيرة، لا شك أنها سيرويها لأصدقائه (في حانته المفضلة). نقلا عن "الأحداث" badreldin ali [[email protected]]