جاء قرار مجلس الأمن بخصوص ليبيا من العدم...تقريباً، فقد كان الجميع يتوقعون فيتو من روسيا أو الصين - الأعضاء الدائمين - ، و لكنهما آثرا الامتناع عن التصويت، إلى جانب الهند و ألمانيا والبرازيل...وكلهم من الحاصلين على عقود ضخمة من القذافي والمستفيدين من النفط الليبي، مثلهم مثل الكلب الذي يعوي حرصاً على ذيله، ويالها من حسابات متهافتة ينقصها بعد النظر! و فجأة تبدّلت الصورة ليس فقط بالنسبة للوضع في ليبيا، و لكن بالنسبة لكافة الدول بالمنطقة التي كانت تتأهب لاستقبال التسونامي التونسي/المصري، خاصة الجزائر و موريتانيا و السودان؛ أما المغرب فإن مليكها من التعقّل و الرزانة بمكان... إذ قرأ الأوضاع قراءة صحيحة و شرع في الإصلاحات الدستورية استباقياً حتى تتدرّج مملكته نحو ترتيبات ديمقراطية تضعها في مصاف اسبانيا (التى ولجت باب الديمقراطية قبل أربعين عاماً فقط ) وغيرها من ممالك غرب أوروبا، ربما بسبب التأثير اللبرالي الفرنسي، أو التأثير الايجابي لزمرة من المستشارين الأذكياء و الشجعان (بعكس مستشارى والده من أمثال السفاح أوفقير)، أو ربما لأن الملك محمد السادس أكثر تأثّراً بجده الثائر الوطني محمد الخامس من أبيه الحسن ربيب الاستعمار و صنيعة إسرائيل الذي كان يتقاضى راتباً ثابتاً من المخابرات المركزية الأمريكية. ما يهمنا في حقيقة الأمر هو الجار بالجنب - السودان، فلقد صعق نظام الخرطوم بقرار مجلس الأمن و ارتجّ عليه وفقد وقاره متكالباً(و ضاع منه الدرب في الماء)، إذ كان مستثمراً في نظام القذافي و متعاوناً و متهادناً، شأنه شأن بعض الدول الأفريقية التي وفّرت للقذافي المرتزقة الذين تغلغلوا في صفوف الجيش الليبي و كانوا أشد فتكاً بالمواطنين و الثوار الليبيين. و من ناحية أخرى فإن حكومة الخرطوم تريد للتسونامي التونسي/المصري أن يكتفي بما التهم من نظم شمولية، و أن يتكسّر موجه و يتلاشى في الصحراء الكبرى التي تفصل شمال إفريقيا عن السودان؛ لذلك، و تبعاً لتصريح علي كرتي وزير الخارجية في أول أيام الحراك الذي حرّض من خلاله نظام القذافي على أبناء دارفور الموجودين بليبيا باعتبارهم متعاطفين مع الثوار، مضى بعد ذلك شهر كامل على الثورة الليبية صعوداً و هبوطاً، و انكساراً و انحساراً - ثم أخيراً، و بفضل "ترس القوة"، أي قرار مجلس الأمن، يستشرف الشباب الثائر باب العزيزية، مروراً بسرت و كافة ديار القذاذفة، و ما هي إلا بضع أيام حتى نرى العقيد المتسلط القذافي و رهطه... كأنهم حمر مستنفرة.. فرّت من قسورة. و ماذا يا ترى سيفعل نظام الخرطوم؟ طبعاً سيسعى لتبديل موقفه، و يتبرأ من القذافي كما تبرأ من حسني مبارك أبيهم الروحي و سمسارهم لدى الأمريكان. والمصيبة الكبرى بالنسبة للبشير و جماعته أن الأمريكان أنفسهم غير مضموني الجانب، و مهما تسترضيهم و تتّبع تعليماتهم... قد ينقلبون عليك فجأة، مثل الدنيا، رافعين شعارات حقوق الإنسان، إذ كلما أيقن البيت الأبيض أن الثورة الشعبية في أي بلد هي ثورة أصلية organic نابعة من الشعب كله، أو جلّه، و ليست نبتاً أجنبياً أو انقلاباً فوقياً تكمن خلفه القاعدة أو أي من ملحقاتها الإسلاموية، فإن البيت الأبيض و الخارجية و مندوبتها بمجلس الأمن، تلك الحرمة "الكلسة" الدكتورة سوزان رايس، يهبون هبة رجل واحد لنصرة تلك الثورة. فلن يجدي حكومة الخرطوم هذا الصمت الشرّير كأن شيئاً لا يحدث في الجارة العربية المسلمة ليبيا، و كأن شعبها لا يسطر صفحات من نور على كتاب التاريخ.. و يزجي دمه فداءاً للحرية...... ، ولن يجدي ركوب الموجة فجأة كما فعل خطيب الجمعة بالمسجد الرئاسي د. عصام أحمد البشير بلا أدنى حياء أو خجل، و لن يفيد نظام البشير هذا التأرجح بين دعم القذافي و الوقوف مع الثوار بعد قرار مجلس الأمن؛ و لكن المفيد حقاً بالنسبة لهذا النظام هو تمثّل الحكمة التي تقول: (العاقل من اتعظ بغيره)، و النموذج الجدير بالاحتذاء هو الموقف المغربي، و ليس الجزائري.... هو الشروع فوراً في الإصلاحات الدستورية الجذرية التي تقود لديمقراطية حقيقية و انتخابات غير مزوّرة و حرية تعبير و تنظيم و إلغاء كافة القوانين الاستثنائية المقيدة للحريات، بل إلغاء جهاز الأمن الحالي و تقديم سدنته للمحاكمات على ما ارتكبوه من فظائع و انتهاكات.. و تشكيل حكومة محايدة من التكنوقراط ذات أمد محدود (لا يزيد عن سنتين)..الخ. خير للنظام أن يقوم بهذه الخطوات بنفسه قبل أن تجبره على ذلك التسونامي القادمة لا محالة، (يأبونها مملّحة..فيأكلونها ناشفة!). و لكن، هذا النظام من نوع نظام القذافي الذي أبا و استكبر و كابر حتى آخر لحظة، فالسلطة حلوة و مفارقتها أمر عسير على النفس، و لم يحدث في تاريخ البشرية أن تنازل عنها أحد بطوع بنانه إلا نادراً، و النادر لا حكم له. و لقد ظل نظام البشير في الحكم لنيف و عقدين من الزمان، تمرّس خلالها في كيفية الالتفاف حول أي ململة أو حراك في الشارع، و تمترس خلف التحصينات الأمنية المركبة و المتشعبة و ضاربة الغور و باهظة الكلفة... و في نفس الوقت، فتّ النظام في عضد المعارضة و شتت شملها و خرّب ديارها و دجّن قادتها، إلا من رحم ربك، و هكذا فهو يتلقى انباء التسونامي التونسي/المصري/الليبي بكثير من الثقة في النفس والصهينة، وهو فى سكرة الحكم وسكرات الموت. بيد أن الأمر هذه المرة مختلف جداً؛ فلقد تعلمت الجماهير وبسرعة فائقة أن انتظار القيادات التاريخية إلى يوم الدين ليس أمراً ضرورياً، فالقيادة موجودة في أحشائها، وستخرج للملأ في الوقت المناسب. المهم هو أن تبدأ الانتفاضة، وكما تقول المسنجات والأخبار الإسفيرية فان موعدها هو يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من الشهر الجاري، بدءاً بتظاهرات احتجاجية على ممارسات الأجهزة الأمنية، ثم تنداح الدوائر بكافة الحواري والزنقات فى العاصمة المثلثة، ثم كافة المدن والقرى والدساكر بجميع أرجاء السودان الشمالي، انتشاراً أفقياً ورأسياً ...وتطوراً نوعياً وكمياً.......، كما حدث فى تونس ومصر. هنالك أسباب تدعو السودانيين للانتفاض أكثر من تلك التى دفعت المصريين والتوانسة والليبيين؛ فعلى الأقل ليس هنالك نقص في الغذاء أوالدواء أوالمحروقات البترولية بتلك الدول، و لا تعانى البنية التحتية لديهم من التخلف والاهتراء، ولم تتعرض بلادهم للتقسيم أو الحروب الأهلية كما يجرى في الجنوب ودارفور وجنوب كردفان؛ أضف إلى ذلك أن السودانيين متمرّسين في الثورات والتمرد على السلطان الجائر، كما تشهد ثورة اكتوبر 1964 وانتفاضة ابريل 1985، وقبل ذلك ثورة الإمام المهدي ضد الأتراك العثمانيين عام 1881. وهناك سلسلة من الانتفاضات المجهضة طوال العقدين المنصرمين، وما انفك الشعب السوداني يعبر عن رفضه لممارسات النظام القمعي الراهن باستمرار حتى أضحى هذا النظام مهلهلاً ومخلخلاً....بانتظار الدفعة الأخيرة التى سترسله إلى مقبرة التاريخ. لهذا، فان يوم الثلاثاء القادم ، الموعد المضروب لبداية حركة المسيرات السلمية بشوارع الخرطوم، سيكون بإذن الله صفحة جديدة في تاريخ السودان يخط عليها شبابه سطوراً من نور...والمجد معقود لواؤه بأهل السودان. والسلام .