كثر الكلام حول قضية دارفور؛ إذ تكلم فيها كل من هب ودب بالحق والباطل في جميع وسائل الإعلام المحلية والعالمية، كما طرقت في جميع المحافل الإقليمية والدولية بحسبانها من أعقد المشاكل الأمنية والسياسية والإنسانية على مستوى السودان وعلى مستوى العالم كله على حد سواء، بل لعلها ببداياتها الدرامية وتطوراتها المأسوية ونتائجها الكارثية تعد اليوم أعقد المشاكل وأكبرها وأسوأها على الإطلاق بعد انتهاء مشكلة الجنوب إذا يسر الله إسدال الستار عليها في التاسع من يوليو القادم . ظهرت البدايات الأولى لقضية دارفور في منطقة وادي هور بأقصى الشمال الغربي لحدودنا مع ليبيا وتشاد، بأحداث صغيرة وعدد قليل نسبيا، ثم ما لبثت أن انداحت إلى جبل مرة في الجنوب الغربي ثم سرعان ما عمت دارفور وامتدت ألسنة لهبها إلى المناطق المجاورة في كردفان بل السودان كله وبعض الدول المجاورة له،كما مرت محاولات حلها بتطورات متسارعة مقارنة بمثيلاتها من قضايا العالم في مناطق متفرقة من الكرة الأرضة، فمن مفاوضات أولية داخلية وبجهود فردية وأهلية بجبل مرة ووادي هور إلى محطات أبشي وإنجمينا في تشاد مرورا بأبوجا في نيجيريا وصولا إلى منبر الدوحة اليوم في قطر، وإن كانت جذور القضية أقدم من ذلك وأعمق حيث بدأت تتشكل منذ خروج المستعمر، من الشعور المتنامي لأطراف السودان البعيدة بالإهمال المتعمد من قبل الحكومات الوطنية المتعاقبة على حكم السودان؛ إذ لم يكن لدارفور وأخواتها حظ يذكر في تلك الحكومات منذ خروج المستعمر وسودنة الوظائف الحكومية التي اقتصرت على من كان قريبا من المستعمر، فورثها منه وظل يورثها كل لأهل بيته وقبيلته وجهته في أحسن الأحوال إلا في حالات نادرة لا تكاد تحقق معنى الدولة القومية الوطنية المبنية على الحقوق والواجبات المتساوية بين مواطنيه دون تمييز بسبب العرق أو الجهة. وقد ظل هذا الإحساس الطاغي بالظلم والتهميش والتمييز العنصري والجهوي والقهر السياسي والإداري لدى أهل دار فور والهامش السوداني عموما ينمو ويضاعف يوما بعد يوم حتى تفجر أخيرا في صورة المشكلة بصورتها الحالية التي تضخمت كثيرا وتمددت وتوسعت لأسباب محلية وإقليمية ودولية معروفة للجميع . من نافلة القول أن هذا الإحساس العميق بالظلم والقهر بعدم التوزيع العادل للسلطة والثروة والتنمية المتوازنة هو جوهر المشكلة والسبب الحقيقي وراء هذه القضية العويصة؛ فلا داعي لدفن الرؤوس في رمال المشكلات القبلية والبعد الجغرافي عن مركز القرار وطول الحدود مع الدول المجاورة مع عدم الاستقرار في بعض تلك الدول، إلى آخر المشكلات الجانبية التي يحاول البعض عبثا حصر قضية دارفور فيها. نعم لتلك المشكلات أثر لا ينكر في إذكاء نار القضية وتحويل أمطارها إلى سيول وحماها إلى طاعون ولكنها ليست السبب الأول أو الرئيس أو الأساس الذي نمت عليه القضية، كما أن التدخلات الأجنبية والمطامع الدولية بأهدافها السياسية والاقتصادية ووسائلها العسكرية والإنسانية والاستخبارية وغيرها ليست من مسببات المشكلة في بداياتها بل وجدتها فرصة سانحة فتداعت علينا؛ إذ من عاداتها المعروفة وطباعها المعهودة وإستراتيجيتها الثابتة الانقضاض على أمثالنا من الدول الضعيفة البنيات الهشة التكوين العديمة التخطيط والاستقرار ما وجدت إلى ذلك سبيلا . وقد أتحنا لهم هذه الفرصة فلا نلومنَّ إلا أنفسنا حكومة ومعارضة وشعبا . أكتب عن قضية دارفور، ولم أكن يوما – علم الله - من جُناتها وقد ظَلْتُ في قلبها أصطلي بنيرانها الملتهبة في نفسي وأسرتي الصغيرة والكبيرة وأهلي وشعبي ووطني وأمتي،من أول يوم وإلى اليوم، ولعلي من أعلم الناس بتاريخها القريب والبعيد وحاضرها المتفجر وبواعثها الظاهرة والباطنة وشخوصها الأمينة والخائنة والمغرضة وشركائها المتوافقين والمتشاكسين وآثارها المدمرة ومكوناتها المتشتتة ومساراتها المتقاطقة واتجاهاتها المتعارضة ومنابرها المتعاقبة وأطرافها المتنازعة . ومع ذلك كنت قليل الكلام عنها خاصة بعد اغترابي عن وطني منذ ما يقرب من سبع سنوات هي تقريبا عمر المشهد الأخير من مشاهدها الشديد التنوع والاختلاط، السريعة التمدد والتفجر بالأحداث الجسام التي يصعب متابعتها بدقة، فضلا عن التنبؤ بمساراتها ومصائرها المستقبلية ومآلاتها النهائية. ولم يكن سكوتي عن كثرة الكلام فيها يوما سكوت المشدوه عقدت الحيرة لسانه، ولا سكوت الجبان سكن الهلع جنانه، ولا سكوت الغافل تفجعه الأحداث؛ فيجم لها ويطرق ويعيى، ولكنه سكوت المعتد بإيمانه ويقينه المتبصر في مآخذ ومتارك شؤونه . وبناء على ذلك أحاول هنا، عبر سلسلة من المقالات التاريخية والتحليلية، أن أقدم خلاصة ما أرتئيه من أفكار وأرتضيه من آراء في سبيل سعينا الحثيث إلى إيجاد حلول عاجلة ودائمة شاملة لهذه المشكلة التي صارت معضلة، مُسْهِمًا بذلك مع غيري من أهل الفكر وقادة الرأي وحملة الأقلام، في إيجاد تلك الحلول المناسبة للمشكلة . والله المستعان . وفي هذا المقال الافتتاحي حول القضية الكبرى أحب أن ألقي نظرة على آخر ما كتب حولها من مقالات جادة تحمل حلا جديدا مناسبا في نظري . ومن تلك المقالات بل على رأسها مقال المفكر السوداني الكبير الكاتب الرصين العبارة العميق الفكرة الخبير بخلفيات القضية وتطوراتها ومآلاتها الأستاذ الدكتور/ عبد الوهاب الأفندي الذي كتب مقالا عن الحل الديمقراطي للقضية في عصر الثورات العربية، في جريدة «الأحداث» السودانية بعدد يوم الخميس 14 أبريل 2011م، دعا فيه إلى تجاوز الحلول المطروحة حاليا بما في ذلك منبر الدوحة، ودمج القضية برمتها في الوضع السوداني العام المتأزم؛ لإيجاد حل شامل للمشكلة الوطنية كلها. وقد كتب الأستاذ الدكتور/الطيب زين العابدين أستاذ العلوم السياسية والكاتب القدير المعروف بالجراءة في طرح رأيه وتحليله والشجاعة في قول ما يراه حقا ، مقالا أشاد فيه بدعوة الدكتور الأفندي مؤيدا هذا التوجه الجديد الذي يقوم على استبعاد خيار العمل المسلح كلياً واعتماد النهج الديمقراطي وسيلة وحيدة للخروج من الأزمة المستفحلة في دارفور بخاصة والسودان بعامة . وقد وضع الكاتبان الخبيران بالشأن السوداني في مقاليهما كثيرا من الأسس التي تمثل خارطة طريق للخروج من التيه الدارفوري والسوداني عموما. ولعمري إنها لدعوة جديرة بالتوقف عندها والنظر إليها بعين العقل من كل وطني عاقل غيور متجرد من مطامع النفس الأمارة بالسوء ونوازع المصالح الشخصية والحزبية والقبلية الضيقة التي أضرت بالبلد كثيرا وقعدت به طويلا عن ركب الشعوب الجادة في السعي الدؤوب إلى بناء دولة المواطنة الحقة والواجبات والحقوق المتساوية وتأسيس حياة العزة والكرامة والحرية والديمقراطية وكفالة حقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة والتوزيع العادل للثروة والإسهام الواضح في تطوير المعرفة والحضارة الإنسانية العالمية . ولا أدري ما الذي يمنع أطراف النزاع المسلح وغير المسلح في السودان من إنعام النظر في هذه الدعوة الوطنية الكريمة، وهذا الحل الإنساني العادل، وهذه الرؤية السلمية الشاملة ؟ خاصة أن الجميع على اتفاق بأن الحرب لن تكون حلا نهائيا لأية مشكلة، ولم تكن كذلك يوما على امتداد التاريخ البشري القديم والحديث، وقد أحدثت في دارفور والسودان عموما أوضاعا كارثية من إشاعة القتل والتشريد ونشر الخوف والرعب واستباحة الأرض والدار من كل من هب ودب، وخلق الشحناء والبغضاء بين مكونات الإقليم والبلد، كما خربت الحياة بكل جوانبها المختلفة؛ فلا أمن ولا صحة ولا تعليم ولا تنمية كما ينبغي، ولا خروج من هذا الظلام الدامس المستمر إلا بالاتفاق الشامل الذي لا يأتي إلا بالحوار الجامع . وفي الحروب المماثلة في العالم من بريطانيا ونيجريا وسيريلانكا وأسبانيا والمغرب وأثيوبيا وإريتريا ... في تلك الحروب الأهلية المدمرة وغيرها عبرة لمن اعتبر، وما حرب الجنوب عنا ببعيدة؛ فلا تضيعوا الوطن والأهل والأجيال القادمة بتضييع الزمن في جدل بيزنطي عقيم وصراع حزبي بغيض وحرب مدمرة لا يُدْرَى نهايتها ولا يمكن أن تنتهي بنصر كاسح لطرف على آخر، كما لا مصلحة لأحد في استمرارها إلى ما يعلمه إلا الله . ولا يمكن لأحد من أطراف هذا الصراع بشقيه السلمي والعسكري في أوضاعها العامة الظاهرة للعيان أن يتوهم أنه يمكنه حسم النزاع لصالحه منفردا لا سلما ولا حربا،ولا ينكر هذا إلا من ينكر حسه ويغالط في الحقائق نفسه . على الحكومة أن تبادر إلى الاستجابة لهذه الدعوة المخلصة الصادقة التي جاءت في وقتها المناسب تماما، وعلى الإطراف الأخرى في المعارضة السلمية وحركات دارفور وغيرها السير على هذا الطريق الذي لا طريق غيره، ولتكن استجابة الجميع لذلك كاملة شاملة مخلصة صادقة لا مراوغة فيها ولا مغالطة ولا مماطلة؛ إذ لا حرب أهلية ولا نزاع وطني في تاريخ البشرية انتهى إلى انتصار كاسح لطرف على آخر أو إلى حسم عسكري؛ فلا مناص من الحل السلمي؛ ففيم التردد ؟! وإلام الانتظار ؟! وعلام الاختلاف والتقاتل والتشرذم ؟! ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد . عبارات جانبية لتنسيق للمقال : 1- من نافلة القول أن هذا الإحساس العميق بالظلم والقهر بعدم التوزيع العادل للسلطة والثروة والتنمية المتوازنة هو جوهر المشكلة والسبب الحقيقي وراء هذه القضية العويصة . 2- مشكلة دارفور اليوم هي أكبر مشاكل السودان وأعقدها وأسوأها على الإطلاق . 3- التدخلات الأجنبية في السودان لم تكن هي السبب الأول للمشكلة ابتداء، ولكن بعضها حاول تحويل أمطارها إلى سيول وحماها إلى طاعون . 4- الدعوة إلى الحل الديمقراطي السلمي لمشاكل السودان، وعلى رأسها مشكلة دارفور، جاءت في وقتها المناسب تماما . 5- لا يعرف في تاريخ العالم كله حرب أهلية أو نزاع مسلح أو صراع وطني انتهى بانتصار كاسح لطرف على آخر أو إلى الحسم الحربي ؛ فلا مناص من الحل السلمي .