[email protected] يُحِبُّ العَاقلوْنَ على التّصَافي وَحُبُّ الجَاهليْنَ على الوَسامِ وآنَفُ مِن أخي لأبي وأمّي إذا أنا لَمْ أجِدهُ مِن الكِرامِ أبو الطيب المتنبي ( 1 ) لماذا تتأرجح وقائع تاريخنا القريب ، بين ألسنة تشافه وقائعه، وأخرى تكتبه مموّهاً في أحيان ومبتوراً في أحايين أخرى . ليس عام 1924 بزمانٍ غابر، فيتعسّر على كُتّاب التاريخ ودارسيه التقصّي العميق، وجمع الحقائق من أفواه أبطال هذه الوقائع ، أو من أبنائهم أو أحفادهم أو من المشاركين بدورٍ فيها، قصُرَ أم كبُر . أحدّثك عن عبد الفضيل، وقد شكّل استشهاده شرارة أولى في مسيرة الحركة الوطنية المعادية للوجود الاستعماري الذي فرضته اتفاقية الحكم الثنائي اقتدارا: سيطرة بريطانية ومشاركة صورية بلا لون، من قِبَلِ مصر. وفيما نحنُ على أعتاب خروج جنوب السودان دولة مستقلة، إثر الاستفتاء الذي اسْتُطبخَ استجابةً لاجندا غامضة على المواطن السوداني، فإنك تسمع مِن غُلاة السياسيين في الخرطوم هذه الآونة، من يجاهر بالقول صراحاً، أن الجنوب جنوبٌ، والشمال شمالٌ، ولن يلتقيا، قولاً ما تخيّرهُ الشاعرُ الانجليزي "كيبلينغ" في قصيده الشهير. بعضُ أولئك الغُلاة لا شك قد تمنّى، أن لو كان مجرَى النيل من الشرق إلى الغرب ، حتى تُرسّخ الطبيعة "مجرَى" الإنفصال. وإنْ كانت البُلدان تنشأ بين أُطُرٍ وحدود، فإنّ الأمم تنشأ بانتماءٍ وجداني يتغذّى من تماثل اللغة والثقافة والعقيدة والعادات ، عبر مدىً زمانيّ متصلٍ وعميق الجذور في مساره التاريخي. أرى السودان الذي نعرفه أمّةً واحدة ، أمّا الإنفصال فقد أفرز بلدين لهذه الأمّة . بهذا المنطق، لن ينجح غُلاة المتطرفين في استنشاء أمة سودانية بلا هُويّة، أو بلداً من "البدون" لا يحمل "سودانيته" في وجدانه. الماظ في استشهاده، هو اللبنة الأولى في صرحِ الحركة الوطنية، ولن يكون، لسببٍ طاريءٍ من توترات سياسية في حيّز زماني معيّن، مواطناً بلا هوية، مواطناً من "البدون". لنا أن نتذكّر هنا ما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأممالمتحدة عام 1948 ، في مادته الخامسة عشرة : - لكل فرد الحق بالتمتع بجنسية معينة ، - لا يجوز حرمان أيّ شخص من جنسيته وانكارها عليه أو حقه في تغييرها . ولا أرانا نستهدي بما فعلت الكويت تاريخياً، بقبائلها المشتركة مع العراق، تمنّعت عليهم بهويّةٍ، فشكّلوا ظاهرةً اسمها "البدون". من بين كل الملفات العالقة، يظلّ ملف المواطنة الأكثر حاجة للتدارس، الأكثر حاجة لتلمّس وجدان السودانيين في البلاد، قبل البتّ في أمره. ( 2 ) نجد متخصصاً في الشأن السوداني هو د. تيم نيبلوك، وقد عمل محاضراً في سنوات السبعينات يُدرّس العلوم السياسية في جامعة الخرطوم، لا يكاد يأتي على ذكر اسم عبد الفضيل الماظ ، فيما هو يرصد تفاصيل التمرّد الكبير الذي كانت شرارته حادث اغتيال السير "لي ستاك"، حاكم السودان وسردار الجيش. يقول د.نيبلوك في كتابه "صراع السلطة والثروة في السودان"،(الصادرة ترجمته عن دار الخرطوم للطباعة والنشر والتوزيع ، عام 1994): ((كان المتمردون على ما يبدو يعتمدون على الحصول على دعم وتأييد من وحدات الجيش المصري المتمركزة في الخرطوم بحري، ولكنها لم تجد الدعم الذي تتوقعه وقامت القوات البريطانية بقمع التمرد. . )) ليس من ذِكرٍ لإسم عبد الفضيل الماظ في كتاب الدكتور نيبلوك، لكنه أشار إلى مذكرة مخزية وقّعتْ عليها عليّة الزعامات السودانية ، تتبرأ فيها ممّا وقع، وكادت المذكرة أن تدمغ الذين قادوا انتفاضة 1924 وكأنهم من حثالة المجتمع، ولا يمثلون رأيا سودانياً يعتدّ به في البلاد. تلك مذكرة تكاد العين السودانية أن تتجاوزها عمداً، وكأنها حملت في أحشائها ذلك الاستعلاء الذي دفع بنا إلى أنفاق المفاصلة المأساوية . وفي رصدٍ تاريخي آخر، أشار الدكتور حسن عابدين في كتابه "فجر الحركة الوطنية" ( صفحة 63 من الترجمة العربية ،الخرطوم، 2005)، إلى أنّ بين مؤسسي وروّاد جمعيتي "الاتحاد السوداني" و"اللواء الابيض" الأوائل ، ضباط في الجيش السوداني..(( لذلك كان من الطبيعي أن تكون لهم أراؤهم السياسية وطموحهم الوطني، شأنهم في ذلك شأن رصفائهم من المدنيين، ولم يكن سبب مساهمتهم النشطة في الأحداث والتنظيمات الوطنية، هو انتماؤهم إلى الطبقة المتعلمة فحسب، وانما أيضاً لأن تصرفاتهم كانت تنبع من موقع فريد ، كانوا يحتلونه في سلم السلطة الاستعمارية وفي البنية الاجتماعية للبلاد .)) ومضى د.عابدين ليشير إلى كون أكثرهم ينتمي إلى طبقة اجتماعية جديدة من أبناء الأرقّاء السابقين ظهرت في السودان، في بداية القرن العشرين..(( لذا يجدر بنا قبل أن نتحدث هنا عن دورهم السياسي أن نتطرق إلى أصولهم الاجتماعية والعرقية، وإلى تقاليد الانخراط في الخدمة العسكرية التي جذبت الكثيرين منهم ..)) ( 3 ) عن خلفية التمرّد الذي قاده عبد الفضيل الماظ، حكى د. نيبلوك ود. حسن عابدين، إشارات مسهبة إلى ما هو معروف عن أهداف غزو السودان منذ محمد علي باشا : المال والرجال. جاء من د.عابدين في كتابه المشار إليه وفي صفحة 69 ، ما يلي: (( ويلزم بدءاً أن نذكر شيئاً عن الأصول العرقية والإجتماعية لهؤلاء الضباط السود فقد كانوا من أبناء وأحفاد الأرقاء الذين خدم بعضهم ضباطاً وجنوداً في الجيش التركي والمصري أو الجيش الانجليزي المصري، كما ذكرنا من قبل . وعند التقاعد من الخدمة استقرّ معظمهم في المدن الكبرى مثل امدرمان والابيض ومدني(...) كان أكثر الرقيق المحرّرين الذين عاشوا في أمدرمان مركز النشاط الوطني، من الدينكا فقد بلغ تعداد سكان مدينة امدرمان 43520 نسمة في عام 1921، منهم 1090 من الدينكا، أي حوالي 4% من سكان المدينة، ولم يكونوا فقط سابع أكبر مجموعة عرقية في مدينة تقطنها ستون مجموعة عرقية مختلفة، وإنما كانوا أكبر جالية غير عربية فيها . لم يكن من قبيل الصدف أن يكون الضباط السّود أمثال علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ وزين العابدين عبد التام، من أصول دينكاوية. (...) كما كان ينظر إليها باعتبارها أكثر احتراماً من أي عمل آخر يمكن لافراد هذه الفئة ممارسته. ولم يكن العمل في الجيش يتطلب تعليما يذكر ، بينما يتيح فرصاً للترقي في السلك الاجتماعي لا يتيحها أي عمل آخر..)) فيما يقول د.عابدين بأن أصل عبد الفضيل الماظ يعود إلى قبيلة الدينكا ومصدره في ذلك كتاب ريتشارد هيل:"قاموس السير الذاتية للسودان" ( صدر بالانجليزية - لندن ، 1967) نجد أن حسن نجيلة في كتابه "ملامح من المجتمع السوداني"،(طبعة دار عزة – الخرطوم ،2005)، يردّ أصوله - نقلاً عن ابنه الوحيد جار النبي- إلى قبيلة النوير، وهي ثاني أكبر قبيلة نيلية بعد الدينكا في جنوب السودان. وإني هنا أرجّح الذي جاء من نجيلة، لاستقائه المعلومة من أسرة عبد الفضيل التي أشار إلى أنها كانت تقيم في حي بانت بجنوبأم درمان، وألاحظ أن كتاب نجيلة، لم يكن من بين المراجع التي نظر فيها د.عابدين. كتب د.حسن عابدين، ( ص63 من كتابه) يصف بداية التمرّد : (( في الخرطوم شرعت القوات البريطانية في تنفيذ اوامر الاخلاء فحاصر الجيش البريطاني يوم 24 نوفمبر الوحدات المصرية المكونة من 3 كتائب وامرها بالاستعداد للمغادرة. وبعد صعوبات جمة وتهديد من البريطانيين باستعمال القوة ، انصاعت احدى الكتائب المصرية للاوامر بينما اصرت الكتيبتان الاخريان على تلقي اوامر مباشرة من الحكومة المصرية قبل المغادرة. وقد أدى جلاء الوحدات المصرية الوشيك الحدوث الى ردود فعل سريعة ومفعمة بروح التمرد وسط عدة كتائب سودانية وخاصة الكتيبة 11 في الخرطوم ، والتي نفذت تمردها ..)) ( 4 ) تناولت صحيفة "الأهرام اليوم" في تحقيق صحفي أعددته الاستاذة نادية محمد علي في اكتوبر من عام 2010، والمعروض في موقع سما بورتسودان، www.samaportsudan.com بتاريخ 3/11/2010،وكتبت أنها التقت بالسيدة خديجة جار النبي، حفيدة البطل عبد الفضيل الماظ، التي حكت لها : (( كيف توفي البطل وهو شاب لم يتجاوز الثلاثين وكان قد وُلد ونشأ في مدني، وترك وراءه ابنه الوحيد جار النبي. تقول خديجة : نشأتُ على سيرة جدي وأسرتنا كغالب الأسر في السودان، جذورها مختلفة من جنوب السودان من قبيلة الشلك ولها جذور مختلطة في جبال النوبة..) وكتبت الصحفية نقلاً عن حفيدة عبد الفضيل، أن الرئيس الأسبق جعفر نميري كان مهتما بأسر شهداء ثورة 1924 حيث استقبلهم بالقصر الرئاسي وقلد زوجة عبد الفضيل ألماظ وسام الشجاعة. . فيما تشير مصادر أخرى، إلى أن السيد اسماعيل الأزهري رئيس مجلس السيادة في عام 1966، هو الذي احتفى بأسر شهداء ثورة 1924 ، وبينهم أسرة عبد الفضيل الماظ. وفي موقع جبل أولياء الالكتروني www.jabalalawlia.com ، كتبت الأستاذة مي عبدالله، تفاصيل كثيرة عن عبدالفضيل الماظ ، وبرغم عدم ذكرها مصادر معلوماتها، إلّا أن من الواضح أنها استقتها من كتاب الأستاذ حسن نجيلة: "ملامح من المجتمع السوداني" ، الذي صدر حسبما أذكر، في أواخر ستينيات القرن العشرين، وأعادت دار عزة نشره، في الخرطوم في عام 2005 . ولا نجد عند معظم روّاد الكتابة الالكترونية، حرصاً لتوثيق كتاباتهم، وذكر المصادر التي نقلوا عنها. إن استسهال الكتابة الالكترونية من طرف البعض، يفضي حتماً إلى بلبلةٍ وارباك في التوثيق، ينبغي أن نلتفت إلى إحكام كتابته ، خاصة إذا اتصل بوقائع تاريخية حساسة. ها نحن نسمع أن عبد الفضيل دينكاوياً مرة (د. عابدين- د.نيبلوك) ، ثم شلكاوياً في أخرى، كما جاء على لسان حفيدته ، حسب الصحفية من جريدة "الأهرام اليوم"، وذلك خلافاً لما أورد حسن نجيلة من كون أصله من النوير . والأوثق عندي هو ما جاء من نجيلة ، ومعروف عنه أنه لم يكن يكتب إلا بعد تقصٍ وتمحيص. أما يوم الاستشهاد، فلا تذكر التقارير ولا الكتب، أين كان يقيم عبدالفضيل في العاصمة . القصص التي أشارت الى مقامه في تلودي وفي واو وفي مدني ، لم تشر أبداً إلى مدينة أم درمان ، وإلى الفتيحاب تحديداً. هنا تتواتر روايات أهل الفتيحاب عن الضابط الذي أقام مع خالته في حوش أحمد ود الشقليني القديم في الفتيحاب ، وكيف ودّع يوم الخميس 27 نوفمبرعام 1924، أهل الحي كبارهم وصغارهم، وداع من يعرف أنه إلى سفر طويل بلا عودة . يقول الأستاذ الطيب نور الدائم، وهو من أهالي الفتيحاب، أن معمّراً تجاوز المائة أخبرهم أنه (( وبينما كان في طريقه إلى مزرعته على شاطيء النيل الأبيض قبالة منطقة أم درمان العسكرية الحالية ، شاهد الضابط عبدالفضيل الذي كان يسكن حوش الشقليني مع خالته "حواء"، يقود مجموعة من الجنود، في طريقهم إلى قرية "بروكة" فلم يعر الأمر التفاتاً لأنه اعتاد أن يراهم جيئة وذهاباً إلى تلك القرية، ولكنه فوجيء بأن عبد الفضيل في ذلك اليوم، اقتحم الخرطوم وقتل عساكر الانجليز..)) وتمضي الرواية الشفهية تحكي عن اصطحاب الضابط عبدالفضيل لسريتين تحت قيادته من الخرطوم إلى قريته في الفتيحاب، وكأنّه في مشوار تدريب روتينيي، وقضى نهار ذلك اليوم يعدّ الخطط لجنوده، ثم غفل عابراً جسر النيل الأبيض إلى الخرطوم. رواية الفتيحاب، جديرة بالنظر بلا شك . ( 5 ) هانحن أمام وقائع لم تزل هشّة ولم تتنزل مصداقيتها في كتب التاريخ ، ولكن بأيّ حبرٍ سنكتب، وأيّ مخطوطات ستتلى والتاريخ إلى انشطار، وجسر النيل الأبيض الذي عبره عبد الفضيل، لن يكون ذلك الجسر الرابط، ولا الخرطوم هي الخرطوم، ولا النوير هم النوير، وعبد الفضيل عرضة لمصير "البدون" . ما أتعسها من أمّة تلك التي تتغافل عن أمجادها ، غير أن كتابة التاريخ لن تكون رهناً بجيلٍ واحد، يحمل مصائره تحت إبطيه. كلا. . ! ثمة تاريخ في أحشاء المستقبل، تكتبه أجيال تحمل في جيناتها وجدان أمّة السودان.. الخرطوم- 18مايو 2011