السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخيول الجامحة فوق الريح تشابي
نشر في سودانيل يوم 14 - 05 - 2009


حديقة العشاق - 5
الخيول الجامحة فوق الريح تشابي
أحلام إسماعيل حسن
[email protected]
رياح السنوات تحمل إلى مسامعي رنات الطنابير وأنغام الأوتار وتقاسيم الكمنجات وأريج الشعر في مزرعة أبي اسماعيل حسن. دقات طنبور عثمان اليمنى وعمي عبد الرحمن عجيب ونقرشات المطربين وترانيم القصائد أسمعها اليوم حقيقة ترن في مسامعي وتداعب قلبي ومشاعري وقد تداخلت جميعها في جوقة متناسقة مزيجا رقراقا من المياه الصافية العذبة المتدفقة من ساقية ذلك الزمن الأخضر. أيام اسماعيل ومنتديات الفكر والشعر والفن في مزرعتنا بالباقير تمر مشاهدها أمام ناظري بكامل مفرداتها وشخصياتها وتفاصيلها وأتفاعل معها حتى هذه اللحظة. حين يقترب المساء كنا نفترش البساط بالقرب من ضفة النيل الأزرق نجلس ونتسامر ونستمع إلى النقاش الممتع والشعر ورنين الطنابير وأغنيات كبار وشباب المطربين. كان أبي اسماعيل يتوسطنا بقامته الفارعة وجسمه النحيل يتلو قصائده وينثر الحبور ويشعّ فرحا يغمر الجميع. وتمتد دعابات اسماعيل حتى إلى نفسه، فقد كان يصف قامته السمهرية ويقول دائما عن نفسه "أنا الرِقيّق خيت الشَلّه" ! في تلك الجلسات والأماسي المترعة بالفرح والسرور نهضت الكثير من فصول الثقافة والفكر وشهدت ميلاد أولى الترانيم بأغنيات خالدة تطرب الأجيال تلو الأجيال.
أيام ذلك الزمن الجميل ومنتديات أبي اسماعيل وقصائده التي لعبت دورها في تشكيل الوجدان العام، كان لها أيضا الفضل في تشكيل شخصيتي ووجداني وعلاقتي بالناس. أبي اسماعيل كان صديقا لنا يلعب ويمرح معنا بخفّة روحه الشاعرة المرهفة ودعاباته وتعليقاته خاصة معنا نحن بناته. لقد جمع اسماعيل بين صفات الأب والصديق، وبين والزوج والعاشق مع وزوجته وحبيبته فتحية. ربّانا اسماعيل على الصراحة الكاملة معه وعوّدنا أن نصارحه بكل شيء! كنت أظن أن العلاقة بين الآباء والأبناء كلها مثل علاقة أبي اسماعيل معنا. وعندما كنت أتحدّث إلى زميلاتي بالمدرسة عن علاقتنا بأبي اسماعيل كن يبدين دهشتهن ويتمنين أن يكون آباؤهن مثل أبي اسماعيل. وعندما يحضر اسماعيل لمدرستي ليعود بي إلى البيت تهرع زميلاتي إلى نافذة سيارته يمرحن معه وينادينه .. عمي اسماعيل .. عمي اسماعيل .. جد فخورة أنا بأبي.
جاوز اسماعيل بدعاباته محيط أسرتنا وغمر المجتمع بالفرح عبر عشرات القصائد والأغنيات ومئات المربّعات الشعرية الزاخرة بالدعابة والفكاهة في لوحات شعرية نابضة بالحياة. ففي جلسات مزرعتا المتواضعة في الباقير وفي منتديات صالون منزلنا المتواضع في حي السجانة بالخرطوم كنا نشرق ضحكا عندما يقرأ أبي اسماعيل بأسلوبه المسرحي قصائده التي يصور فيها بعض الشخصيات الاجتماعية. منذ طفولتي الباكرة كان اسماعيل يأخذني معه إلى الندوات الشعرية ويطلب منه الحضور تلاوة هذه القصائد التي تملأ القاعات بالضحك والفرح والحكمة. من تلك القصائد المعروفة رائعة اسماعيل "الجواب نُصّ المشاهدة" ومطلعها "في درب البنات يا يُمّه ما اتغربتَ ما اتبهْدلتَ دابي .. أنا اتغربتَ في بلداً بناتا بلا الخيول الجّامْحَهَ فوق الرِّيح تَشَابي" في هذه القصيدة يصوّر اسماعيل تجارب هجرة الشباب من الريف إلى المدينة للبحث عن فرص عمل مناسبة. رسم اسماعيل بشعره حكاية ذلك التربال (المزارع) الذي حضر إلى الخرطوم من ديار الشايقيه وشغلته فتيات العاصمة الجميلات عن أهله ونسى هدفه الذي جاء من اجله! كتب اسماعيل هذه القصيدة وكأنه يرد على أم بعثت برسالة إلى ابنها الذي هاجر إلى العاصمة وانقطعت أخباره تطلب منه أن يرسل لها مبلغا صغيرا من المال يعينها في معيشتها. لكن يبدو أن الابن كما صوّره اسماعيل قد غرق في أمواج جمال بنات الخرطوم ولفتحه "شيمة" من الحسن حتى انتهى به الحال إلى غناي مفلس! ويشيع خطأ بين الناس أن هذه القصيدة رد لأغنية "رَسّلتَ السّلامْ بَغريكَ يا الزّينْ" والحقيقة أن عبد الرحمن اليمني غنى قصيدة اسماعيل "في درب البنات" قبل أن يطلع على قصيدة ""رَسّلتَ السّلامْ بَغريكَ يا الزّينْ "
من الهجرة داخل الوطن إلى الهجرة خارج الوطن. فقد صوّر اسماعيل في مربعاته الشعرية المرحة الناقدة حال الشباب الذين تغربوا خارج السودان لطلب العلم وعاد بعضهم يعمل شهادة طب أو هندسة أو غيرها. أما البعض الآخر فقد ضاع في أوروبا، أو "في بَلد في التُّرُكْ" كما يقول أهلنا! صوّر اسماعيل حال أولئك الفتية في قصيدة كتبها على لسان أم بعثت برسالة إلى ابنها في الغربة خارج الوطن يقول فيها: أبوك تعبان يغزغز في الهواليقْ .. يسوق الساقيِ في الفجراوي فكّتْ ريقو دِفّيقْ
يِفتِلْ في الحُبال ما خَّلا شِيتاً اِسمو أشميقْ .. يرسّل ليك عشان تقرا العِلِمْ .. تلحقنا في الضّيقْ
إتْ اتاريكَ في بَلد التُّرُكْ .. ولداٌ مِطيليقْ. يا خسارة عيشنا .. ما أكلو الجراد والحِكْمَه مِتّيقْ!
واليوم أجلس مجلسي في حديقة العشاق أتأمل زهورها واستنشق عطر أزهارها ورياحينها بعد أن تفقدّتُها ورويتها وردة تلو زهرة. ورود الحديقة اليوم في أزهى حللها يغطيها الندى ويعطر شذاها الزمان والمكان وصوت الساقية الحنون لوحة خلفية عميقة الصدى تحرك الفرح بدلا عن الشجن، ورائحة الدفّيق وعطر التراب تغمر أنفاسي ويحتوى قلبي حنين كبير وفرح كبير حتى أنني أكاد أن أضحك فرحا. رنات الطنابير والأوتار في حديقة العشاق لم تتوقف منذ أسبوع. لكن أنغام اليوم غلب عليها طابع الجزالة والمرح حتى أنني أرى الألحان تتقافز تخاصر بعضها وتمسك بأيدي بعضها البعض ترقص جزلة فرحة وهي تدور حول شجيرات الورد. رقصة الأنغام الدائرية تذكرني زمن الطفولة عندما كنا نتماسك حلقة ونحن نضحك ونغني للمطر .. قيرا قيرا يا مطيره .. صبّى لينا في عينينا .. فرح الأنغام يعيد إلى حاضري المشاهد الكاملة لحلقات منتديات أبي اسماعيل في ذلك الزمن الجميل وهو ينشد قصائده التي تشع فينا فرحا سحريا خالدا. وعند هذه اللحظة اتجه بصري إلى السماء فأرى نجما بعيدا لفت انتباهي ضوءه اللامع، فإذا بالنجم يقترب رويدا رويدا حتى غمر ضوءه كل أرجاء حديقة العشاق وسكب دغدغة من الفرح وأيقظت دعابات اسماعيل في صدري. ضيوف الحديقة تغمرهم نشوة غريبة من الفرح وتنفلت عنهم الضحكات الهامسة. سكرة المنظر الجميل تعيد ذاكرتي بغير إرادتي إلى ارض الشايقيه الحنونة، إلى جبل كلونكاكول وجلاس والبار والقلعة وغيرها من المناطق والقرى الجميلة التي زرتها بصحبة أبي اسماعيل، وأذكر في حسرة تكاد تبتلع فرح يومي هذا غابات النخيل داكنة الخضرة التي ابتلعها النهر المقدس بعد أن تلاعب البشر وحولوه عنوة عن مجراه الأبدي الذي أمره الرب أن يهبط فيه. في تلك الرحلات غمرت قصائد اسماعيل نفوس أهلنا البسطاء بفرح دافق وقرقرات من الضحك.
أعود من تلك الذكريات المفعمة وانظر مرة أخرى إلى زوار حديقة العشاق وقد انضم إليهم اليوم مجموعة من الشعراء الشباب من مريدي اسماعيل، فأرى مختار دفع الله ثم ود بادى وأزهري شرشاب ومحمد الحسن حميد والسر عثمان الطيب. تعمر "الدارة" ويقف على طرفها عثمان اليمنى وعبد الرحمن بلاص وعبد القادر سالم والنور الجيلاني وصديق احمد والنعام ادم وأحمد فرح وعبد الرحمن عجيب وعدد لا أحصيه من المطربين والعازفين وهم يتناوبون الغناء. القومه ليك أيها الفرح الجميل، فالجميع وقوف في حضرته، زوار حديقة العشاق انتظموا وقوفا في دوائر حول "الدارة" والطرب والفرح يأخذان بمجامع النفوس فأرى مجموعة من الفتيات بينهم أختي غاده يندفعن إلى وسط الدارة يرقصن ويجاوبن النغمات في حركة سريعة في غير ابتذال. رقصة المرأة الشايقيه تشبه عندي رقصة الخيل حتى خيّل لي أن الفتيات في وسط "الدارة" مجموعة من الخيول الجميلة في ميدان فروسية كبير يرقصن ليس على ظهورهن سرج ولا فارس. المشهد يبعث في قلبي دفء الإحساس بهويتي فاشعر باعتزازي وفخري بانتمائي إلى هذه الأرض وهذا الوطن.
قلت في نفسي: ذلك الزمن الجميل كان له الفضل في تشكيل الوجدان العام، وله الفضل أيضا في تشكيل وجداني. فالحب الذي امتلك فؤادي منذ ذلك الزمن لم يبرح مكانه ولم يطمره غمار تلك الأحداث التي مرت على حياتي .. حُبٌّ كبر معي وترعرع فخرجت فروعه القوية الندية من بين تضاريس الزمن تلفّني وتعانقني، وها هو في هذا اليوم من شهر ديسمبر يقف حقيقة ملموسة إلى جواري على طرف "دارة" الفرح. ألتفِتُ إليه وأقول له: رغم مرور الزمن وعظائم الأحداث فقد بقي طعم الفرح في النفوس مثلما بقي حبنا منذ ذلك الزمن الأخضر الجميل. قال لي: أنظري إلى تلك المرأة الأنيقة التي تزور اليوم حديقة العشّاق .. إنها ليلى المغربي .. تذكرين يا حبيبتي برنامج (إشراقة الصباح) الذي كان يقدمه صباح كل يوم من إذاعة أم درمان على ما أظن الإذاعي حمدي بولاد .. السودانيون في مدنهم وقراهم كبارهم وشبابهم كانوا لا يغادرون بيوتهم إلى مواقع العمل أو إلى مدارسهم قبل أن يستمعوا إلى مربع اسماعيل حسن الشعري "يا سلام" بصوت ليلى المغربي .. ليلى ذلك الصوت الذي وضع فيه الله دفء الشموس الاستوائية وعطور الصنوبر .. ذلك الصوت الذي صعد إلى السماء من حيث مهبط الوحي .. اشتعال معاني شعر اسماعيل في صوت ليلى المغربي كان وقودا لدبيب الحياة والنشاط والفرح في أرواح الناس وأوصالهم عند كل إشراقة شمس وصباح.
كلامه الساحر في حق أبي اسماعيل لمس شغاف قلبي وكاد يسرقني عن "دارة" الفرح الراقصة، فقلت له وكأنني أحرضه على المزيد: كنا في ميعة الشباب الباكر في ذلك الزمن الأخضر، لكني أراك تذكر الكثير من تفاصيل كأن الزمن لا أثر له على ذاكرتك. قال: اسماعيل حسن يكتب النكتة بالشعر! أذكر تلك الأبيات التي كتبها اسماعيل في النائب البرلماني الذي قدم اقترحا، وعندما جاء وقت التصويت صوّت النائب نفسه ضد اقتراحه! فقال فيه اسماعيل: يا جِدوّ .. حصان النصر ليك شَدّو! .. يجيك عديل تقول قِدّو .. تقِدّو براك تقول سِدّو! .. وعندما نصّب رئيس الحكومة العسكرية نفسه راعيا للجامعة كتب اسماعيل مربع "يا سلام" : زمان وصّوني أكبر وابقى راعي .. أسوق غنّومي واسرح في المراعي، ويختم المربع بقوله "بدل ما أرعى شوف كايسين لِي راعي !" ثم المقطع الذي يقول "بقينا نخاف إذا ما الرّاعي ساكت بالكضب هَبَشْ القُراف ..!" ثم مربع يا سلام الذي يختمه اسماعيل بمقطع "زي النَّمِلْ مِتْلَمّي فوق كوم الدّريش .." الكثير من جيل ذلك الزمن الجميل يذكرون هذا المربع لأن الحكومة بسبب هذا المقطع أمرت بوقف "يا سلام" من الإذاعة والصحف! وحرمت الشعب تلك النشوة الصباحية من كلام اسماعيل وصوت ليلى المغربي ..
أصمت أنا ويستمر هو في كلامه العذب عن أبي اسماعيل ليقول لي: اسماعيل حسن بيده ربّابة سحرية هيكلها الحب وأوتارها من مشاعر الشجن والفرح والحزن والعتاب والحنين والخير والجمال .. إذا ضرب على وتر الغرام والشجن ذابت الأفئدة، وعندما يحرك وتر الحزن واللوعة يبكى الناس، وحين يلاعب وتر الفرح يضحك الناس وعندما يغني اسماعيل للوطن يكاد يستنهض جنود التاريخ عن مراقدهم، وعندما يعزف شعرا على أوتار العتاب والحنين يفعل بالناس الأفاعيل! اسماعيل حسن لم يكن شاعرا غنائيا فسحب، اسماعيل حسن حالة كاملة. فلا تستغربين أن أشجار الفرح التي غرسها أبوك اسماعيل في ذلك الزمن الأخضر الجميل تظل تطرح ثمارها الحلوة الباردة وتلقي بظلالها الوارفة بردا وسلاما على نفوس الناس فتلطّف عنهم شيئا من هجير هذا الزمن ..
قلت له: إنك تدوّخني بهذا الكلام وتعيدني روحا وجسدا إلى ذلك الزمن الأخضر الجميل قبل أن تفرق بيننا أيادي القهر والظلم والطيلسان والعوالم السفلية التي قهرتنا أمّة بحالها .. لكن إلى حين انتشب فيه القيد على معاصم الظلم وانقلب السحر على الساحر فعدنا. السنوات التي أبعدتنا عن بعضنا مثل جزء تالف من العمر، وكلامك يربط حاضرنا بتلك الأيام الخضراء، ويا ليت مقبل الأيام تستأصل كل تالف وتربط حاضرنا بذلك الزمن الأخضر الجميل. ثم أسأله: هل كنت تذكرني أنا في سنوات الغياب؟ قال:
طريتك؟ .. أصلي ما ناسيك عشان ما أبقى طاري
لأنِّكْ إنتِ ياكي القُدْرَه بِتكَيّفْ مَساري
وياكي ألفي الأزلْ مِن بَدري مكتوب لى وداري
تصوري إنتِ ياكي الجَنّه .. بَرضِكْ ياكي ناري
وفي الحالتين رضيت بالقِسْمه .. والمقسوم ده أكبر من خياري
بتعذريني لو بتعرفي كيف الحال بعد ما خلّيتني في سِكّة وَداري
بِقيت مَصْيوبْ وما قادِر أداري البَيّا .. ما قادِرْ أداري!
ثم سألني: هل تذكرين أنتِ يا حبيبتي حكايتنا مع هذا المقطع من شعر اسماعيل؟ أنتِ قلت لي هذا الأبيات التي لم تفارق ذاكرتي من ذلك اليوم.
وانتبهنا على صمت يعم حديقة العشاق إلا من نقرشات خفيفة على أوتار طنبور وحيد. "الدارة" خلت عن الفتيات الراقصات وبقي كل زائر في مكانه على حال من الانتظار. يتقدم عثمان اليمني إلى وسط الدارة وهو ينقرش على أوتار الطنبور ويشرع في أداء تحفة اسماعيل حسن "الجواب نصف المشاهدة" ...
في درب البنات يا يُمّه ما اتبشتنت .. ما اتبهدلت ما اتغربت دابي
أنا اتوكّرتَ في بلدا بناتا بلا الخيول الجامحة فوق الريح تشابي
وجوهن يُمّه كان شفتي القَمَرْ .. لَجْلَجْ يضاحك في الرّوابي
عيونن يُمّه زي بحر المحيط الموج يولول .. والعِرِقْ لافِحنى فايت وا خرابي
سنيناتِن بلا شُخُب الحليب الصافي يرهج في الكبابي
ريقِنْ يُمّه زي خمر التمور المِنْ زمان طامْرِنو في جوف الخوابي
رقيباتن رقاب الريل .. على الحَدَب البعيد شَرَفَنْ علي هِوهيو كلابي
العرجون يصارع في السبيط .. مِندلّي في قَلْب الجريدْ هتّان ينقّط في العسل يا ريت شرابي
ولونِن يُمّه زي لون القمِحْ ضَرّوه شوف ضراني كيف ..
الله يضاريكَ يا الضَرْضَرْ صَوابي
دريباتِن عُقاب التِّيه .. ما في خبير يشق التِّيه على بلد الدوابي
مهورِن غاليْ ما بقدر عليهن .. وحاتك انت ما بقدر عليهن
كمان شوفي المصيبه نفيستي فيهن
منو البقدر يمد ايديهو لي كيس المرابي
دحين يايمه راجع لي دريبك أنا الغرقان وفي الموجات أشابي
أصارع في الهلاك يايمه قاسي ..
بعد قربت لي قيف الشرق تلفحني شيمه كاسحه مغربا بي
مشاكل الدنيا من ما فتّ منّك ..
إلى هادا الوَكِتْ وأيضا كذلك إلى ما بعدو ضدي مبشتنابي
قعدتَ الليله زي فاقداً مزوزو أجرجر في التراب .. ودّرْ حجابي
وان كان للقروش إن شا الله طايري
معلّم الله لي حولين اسم فرطاقه ما دخلت جرابي
أنا لا مالاً لقيتو عشان أشوفك ..
أجيك أقدل مع الجنيات تجيكي العافي بس فضل شبابي
والخبر المهم ما قلتو ليك يا يمه قبّال أنسى في آخر جوابي
دا شيتاً أصلو ما فكّرتَ فيهو .. وحاتِك ضُمّه ما كان في حسابي
إرادة المولى مو خافي عليكن .. وكان دسّيتا لابدْ من تجيكن
خبيري مع البنات والليل يهوّد .. أهزْ ضرعاتي وارفع في حجابي
أنا بقيت غناي ألعلع في البنادر .. مِتِل ناس ود صليليح .. طنبرابي
عدل بواسطة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.