ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من ذاكرة العنقريب ... بقلم: د. إشراقه مصطفى حامد
نشر في سودانيل يوم 18 - 05 - 2009


[email protected]
{1}
عند مدخل العمارة التى اسكن توجد سبورة صغيرة تعلق عليها الاخبار المهمة والتى تخص كل ساكنى المبنى..
انتخابات النقابات,
وفيات وتواريخ التشيع
محاضرة فى دار الحزب الاشتراكى
قراءات شعرية وحوار فى مكتبة الحى
و..
و..
منذ ان مرضت جارتى ذات الثمانين عاما, اركز عند خروجى وعند دخولى الى المبنى على اى خبر عنها, واتنفس الصعداء انها مازالت تنعم بالحياة. سألتنى الشابه النمساوية التى تسكن ذات الطابق الذى اسكن ان كنت قد سمعت عن جارتنا المشتركة فراو كليمت خبرا, اذن لست وحدى التى تشتاق لطلة جارتنا ذات الثمانين زهرة.
ذات يوم رنّ جرس الشقه, لم تكن لىّ اى مواعيد ولا زيارات مخططة, يوم انام فيه قليلا, اطبخ فيه وجبة سودانية للصغار حين عودتهم من دروب المعرفة, اقرأ فيه بمزاج و امط جسمى المنهوك من طواحين الحياة. كانت الزائرة شقيقة جارتى, بابتسامة مرسومة على وجه حزين اخبرتنى ان شقيقتها ماتت وانهم لايرغبون فى الاعلان عن موتها لجميع مافى العمارة وستكون طقوس التشييع مختصرة على افراد الاسرة وانهم يرغبون فى دعوتى وجارتى الشابة وذلك تقديرا لصلتنا الطيبة بالمرحومة فراو كليمت.
ما حبست دموعى, فجارتى كانت نسمة طيبة, تسأل عنى وعن صغارى وتقدم لهم الهدايا الصغيرة فى اعياد الميلاد والفصح, كما نفعل حين اعيادنا, الفطر والاضحى والانتفاضات المجيدة. دعتنى اكثر من مرة لتناول القهوة معها وحكتنى كثيرا عن زوجها المرحوم الذى يمت لها بصلة القربى ومن نفس العائلة, الذى مات فى استراليا بعد هجرة دامت خمسين عاما, فقد اضطرا للهجرة بعد الحرب العالمية الثانية. كانت تحكينى عن تفاصيل الامكنة وطبيعة الحياة فى الحى السادس عشر حيث نسكن. تفرجت فى الصور, شابة مليحة, زوجها يلف خصرها كخاتم عرس حبيب. تمازح مرافىء بحنية وتجيب على كل اسئلتها بروح طيبة و {سلبة}.
سالتها ان كان لها اطفال؟
ردت فراو كليمت ان لها قطة وكلب, كان لهما حجرة انيقة وكانت العلاقة ودودة بينهما..
اذن ماتت جارتى ذات الثمانين , وستموت بعدها زهور الثالوث التى تسمح خاطرى كلما غمرتنى الوانها عند كل صباح وانا القى نظرة متعمدة على نافذتها – لافتح نفسى- لدروب تحفظ معى حكاياتى.
بكيت واحتضتنى شقيقتها ذات الخمسة وسبعين عاما, قدمت لىّ الدعوة مكتوبة..
---------------------
السيدة دكتور حامد
ببالغ الحزن والاسى تدعوك اسرة كليمت الى مراسيم تشييع جثمان شقيقتهم مارقريت كليمت الى مثواها الاخير
بعد صعود روحها الطاهرة الى رب رحيم
الزمان الثلاثاء الموافق الثلاثاء السادس من يناير 2009 حيث سيتم حرق الجثمان وسيقام دفن الرفات فى يوم الاحد الموافق الحادى عشر من يناير 2009 وذلك بمقابر الحى الرابع عشر.
ولكم جزيل الشكر من اسرة كليمت..
--------------------
وعدتها بالحضور وشكرتها على الدعوة وان تكون لىّ مكانة عندهم.
فى اليوم الموعود تقابلنا والشابه سيمونى وسالتها فى الطريق اى انواع الورود ينبغى ان اشترى, وكيف هى الطقوس ثم قلت فى سرى { وكأن للحزن طقوس مرسومة ينبغى الالتزام بها}. الزهور تتناثر عى التوابيت والحانوتين يرتون زيا موحدا, يشبه الابواب التى تفتح مرتين, مرة حين الحياة ومرة حين نعبر الى الضفة الاخرى حين موت- حياة اخرى- ماعاد منها احد ليحكينا.
فى قاعة جميلة ومزينة بالورود والنجف والرسومات ذات الوحى الدينى على الجدارن. وقف القسيس فى زى يشبه الموت, فى يده كوب فيه ماء ثم على ركن خلفنا جلست فرقة موسيقية وبدأت عزفها الحزين..
كان الحضور قليلا جدا اختصر على اسرتها المكونة من شقيقتين وشقيق وزوجات ابناء شقيقها وابنائه. كنت {فحمة} فى صحن لبن نمساوى. سودانية منها محنة كانون قهوة امى الصباحية. بدأ العزف الجنائزى وعيونى معلقة على التابوت المسجى امامنا, غمضت عيونى وتركت مسام روحى للعزف الحزين, واناشيد الموت والوداع التى رددها الكل بينما كان طمى روحى ينخج بالبكاء وياللروح حين تنسرب خفافا حيث الاحبة ورائحة التراب والأمكنة التى تسكننى ليل نهار.
{2}
البنطون يعبر الضفة من الحصاحيصا الى تلك المدينة الوديعة رفاعة, أمى حليمة تقبض على شنطة الحديد الفضية بيد وبالاخرى تمسك يدى الصغيرة, النهر صغير وكان لهذا البنطون ان يعبره فى دقيقة واحدة لولا انه يلف طوليا ليعدل وجهه فى اتجاه الضفه الاخرى, وما ان اراها الاّ ويطمئن قلبى ويفرح كشقهة ام بوليدها الجديد. افرح حين اجد مقعدا امامى مع امى فى {اللورى} التى ينقلنا من البحر الى تمبول. الاشجار الصغيرة على الطريق وخيوط الماء التى تلوح وتبدو قريبة , وكلما نقترب تبعد اكثر.. اذن هو الرهاب الذى يقولون عنه!! عرفت ذلك بعد اعوام من مقاومة رهاب الحياة..
يعبر اللورى {الحلال} الصغيرة والتى يغادر اليها بعض من الركاب, يجلبون الماء بالجرادل للمسافرين ويودعونهم بطيب الكلام.
فى سوق تمبول تسالم امى حليمة من تعرف ومن لا تعرف, توب زراقها النظيف وشلوخها التى تلمع اخاديدها بفرحة لقائها بشقيقتها عشه. كانن ثلاثة شقيقات, بنات محمد اب شاليه, ابوهن الذى كان يتلفح بالشال الدمورى الذى احتفظت به امى حليمة الى ان توسدت الجابرة. حبوبتى عشة اكبرهن. حجمها كان صغيرا, وقلبها كان اكبر حنية فى العالم. {حباب بت امى, حباب بنية مصطفى ولدى}, يتقالدن بالدموع , عيونى ترقب مجرى الدمعات على شلوخهن, و تدمع وحبوبتى عشة تحتضننى بحنان مازال يشرقنى كما كانت تفعل حبوبتى بلاله, اصغرهن.
على عنقريب صغير تجلس وتجلسنى قربها, مازالت الساعة الواحدة وعلينا الانتظار ثلاثة ساعات اخريات حتى تتنهى حبوبتى عشة من بيعها وشرائها اذ ان اليوم يوم السوق الكبير وباب الرزق مفتوح, وسعفات يفرهدن بين اصابعها. ثلاث ساعات انتظار ثم نسافر الى الفادنية, القرية التى تبعد قرابة الساعة من تمبول حيث عاشت حبوبتى عشة الى ان فارقت الدنيا.
اجلس على طرف العنقريب, ابدأ فى متابعة حركة السوق, الدكاكين ذات الحوائط المستطيلة والمطلية بجير اصفر بهت من القدم. حركة الماعز, الدجاج واصوات الباعة والمفاوضات فى السعر وحرم وطلقّ وحاة شيخى الفاضل...جدى فى {الحسب والنسب..}
ما ان سمعت اسمه- الشيخ الفاضل- فى تلك القرية- الضندب- يجلس على عنقريب ووجه مضىء بالقناعة والايمان, يقرأ آيات تحفظنا ثم صوت معاوية شقيقى فى احدى الزيارات يقول { يابا كلمو قول ليهو مايتفتف فينى} ويضحك ويمسح بيدة الطاهره على رأسه وهو يقول الله يخليك يالمبروك.
امامنا يجلس رجل مشلخ { سلم, تحول ذات فلهمة بندر الى إتش}, اتابع حركة يديه المعروقه بتعب واحلام وامنيات الرزق الحلال, تداخلت صورة اصابعه مع انامل خالتى آمنه وهى تمشط فى شعر بت الخفاجى, يالهذا الفن الجميل. رغم {سموم الحر} الاّ ان {شحموطتات} النعاس تلدغ عيونى. امى حليمة تنادى الرجل ذو الاصابع المعروقة.. {تعال آعشايا, جبد الكراب ده لبنيتك دى خليها تنتكى شوية, يعلم الله من دغش الرحمن نحنا مسافرين}.
يأتى ويبدأ فى شدّ كراب العنقريب,,,
مازلت اراقب حركة اصابعه تتناوب فى {شتم ينقر ويخلف} وهو يجلس على طرف امشاطه على طرف العنقريب يمشط الحبال التى تركت ضفائرها تنسدل تداعبها تلك الجروة التى تلهث من الحر وتلوذ بالظل تحت العنقريب. يجبد الحبال والحر يجبد عرقه على وجهه الطيب, يغسل عنه غبار كده وتعبه وفرحه تغمر وجه صغاره حين يعودهم بحلاوة سمسميه وقزازة سمنه بلدية تخبز به مرآة حياته كعك العيد. اقتسمت معه يومها الكسرة والروب الطازج وآثار اصابعنا على صحن الفخار الطوبى تنقرش بطفولتى وبساطته.
اصبح الكراب مشدودا, وروحى الصغيرة مرخيه حبالها ومبلولة بدمع الناقة التى سالت حين لمعة سكين الجزار فى عينيها...
صوتها اناخ انهار الدمع فى عيونى التى نفضت عنها {رتيلات} النعاس وتعلقت روحى فى {مشلعيب} عنقها ومن اذنيها الصغيرتين غمرتنى ريح الحزن وهى تبكى, ذبلت عينيها وشحنت الصحراء عيونى برمال ذاكرة تنفض عن {مناخير} ناقة الحنين اللعنة التى اصابتنى.
كان الصيف الذى سبق دخولى للمدرسة الابتدائية فى ذلك العام من 1969 ومازال صوت الناقة ينوح كلما عصف بىّ الحنين وهجيره . كيف يكون لحمها حلالا وهى تبكى حين سكين؟!!
بكيت يومها بكاء مريرا, وحين أفقت كانت حبال العنقريب خرائطا على يدى التى توسدتها, ومازلت اجتلى فى سر دموع حنينها الباكى. الناقة انتمت لذاكرة العنقريب الذى يشهد عليه سوق تمبول, هناك حيث ضفرن حبوباتى خطاويهن لحنية الأهل وخرير {الكنار}- تلك الترعة الكبيرة التى يشهق قلبى و {البرنسة} تتعفرن على الطرق الملتوية, لايمهدها الاّ الناس الطيبين وتعبدها خطاويهم بحكايات شجية أغرقتها بنجم بحرى وخيالى المجنون.
{3}
ذاكرتى مشحونة بروائح العنقريب المتكول على على صفحة تلك القطية التى ماتت داخلها بنت خالتى فى عمر زهرها النضر وهى تنزف حينما كانت تنجب طفلتها الثانية..
كنت فى ثالثة متوسطة.. احاول ان اتعلم الخياطة {الكورشى}, لنعد لها الغرفة التى ستلد فيها. طربيزتين وثلاث عناقريب, اثنين مشدودات بالحبل والثالث بحبال بلاستيك, تلك التى غزت الحياة حينها.. كنت احس بالحبال اكثر صدقا, فروائحها تعبق فى الرئة حين تمطر السماء اما البلاستيكية فلا رائحة ولاطعم لها, تماما كالزهور الغير طبيعية, جميلة من خارجها وداخلها بلا ذاكرة.
مازالت آثار الحبال مغبشة ايادى عم سعيد, يمشط حبالها, جديدها قليل وقديمها مهترىء , يباصره لتتحول العنقربين بقدرة قادر الى جديدة استعدادا لقدوم زهراء ابنة خالتى.. ام مساير الفائح كركارها. العنقريب ابو حبال مصطنعة تمّ طلاء اقدامة بلون لبنى ليتماشى مع ملايات الدمورية المصبوغة ايضا بذات اللون.
كان اليوم الاول فى رمضان.. اجلس بالقرب من أمى عشة اتجرف رائحة بنها, رجلى تنزل من الفسحة الوسيعة فى كراب العنقريب الهبابى ومابى صبر يبل آبرى رمضان ونحن فى انتظار عم ميرغنى ليؤذن لصلاة المغرب. كنت امسك بلحة ولم تطاوعنى يدى الصغيرة حينها لاحلل بها صيام يوم غائظ فى حره.
{ انا حاسة انو زهراء بت خالتى ماتت}.... قلت لامى وبى كدر غريب..
{تفى من خشمك يابتى, زهراء ليها شبابها... صوت امى حليمة يلفحنى بحنية.}
لم تمر ساعة وجاء ابى يحمل الخبر الذى هزّ دنيتنا ومازال...
{ زهرة ولادتها متعسرة وجابوها مستشفى كوستى}... وذهبنا..
ابى كان مصرا ان نذهب فى اتجاه بيت خالتى آمنة وهو اتجاه مخالف للمستشفى الوحيد فى كوستى..
اصوات ضاجة ونواح عالى اصطك فى دمنا وخطواتى تتعثر وابى يقول لامى.. الدوام لله... قالها وانفجر باكيا..
وسافرنا بقطر نيالا المتجه غربا, فى اتجاه تلك القرية- ام كويكة- التى لاتبعد كثيرا عن كوستى, قرية ككل القرى التى تناثرت حوالين المدينة تسند {ضهرها} وتنعش اسواقها بالذرة وروائح الكجيك والفسيخ والفريك والفول السودانى وقصب السكر.
مشهد القرية وهى مسجية فى حزنها المريب كان قادر على اغتيال اى نسمة فى ذلك اليوم اللافح سموما طفحت بعد يوم ماطر... كان يوم دفنها الذى تأخر كثيرا وكلما حفروا قبرا {طمره} المطر الذى انهال من سماء الحزن يومها.
زهرة كانت قريبة الى نفسى, تعرف ان تشرك لود ابرق اى حزن يطل فى حياتنا, تضحك بفرح وتبكى بعمق وتغنى و ترقص وتدوبي..
لا ادرى اى عقل صحا فينى يومها والكل مغمور فى البكاء والفقد الذى هزّ اركان الروح, سألت احدى الجارات ان كانت الطفلة التى ولدتها زهرة حية ترزق..
لم ينتبه احد..
دخلت الى القطية..
{الطشت} مازال فيه ماء الغسل..
رائحة الحنوط وفرير دمور تملأ المكان .. وكل الامكنة التى مكثت فيها ولو لبرهة شجن.
ماء ملون بالاحمر, نزفها والداية البلدية تؤكل الامر الله وارادته ان تغادرنا زهرتنا الى جنة تشبه روحها.
خيوط من دهن بانت فى الماء الذى كان فى {الطشت}, لاشك كانت مسايرها معطونة فى دهن المجموع او الكركار حين داهمها المخاض, فى قطعة على طرف القطية كانت تنام الطفلة ذات الوجه الملائكى, وكأن شيئا لم يحدث..
كانت حية ترزق.. مازالت بدمها ...
لم استطع حملها فى يدىّ وكنت ارتجف وشكل العنقريب المبلول بالماء الطهور, ورائحة الدلكة التى كانت {تكفى} فيها استعدادا لسفرها لكوستى والكل كان يستعد لمقدمها.
على ظهر القطية كان هناك عتقريب متكول, مسدوح على قفاه وكنت مسدوحة على قفا الحزن وفجيعة غيابها.
لن انسى الحفرة التى احتضنت فى بطنها بقايا اعواد الطلح والشاف التى كانت تعدهم كل يوم وتعدّ ايامها سرا لترحل.
خالتى فاطمة , شقيقة امى الكبرى لم تبكى بنتها- صبروها وماتت متوسدة كفة يدها فى عنقريب تحكى حباله آهاتها حين تنام الخلوق...
حكتنى الحبال.. حبال عنقريبها- ان خالتى ماتت بعد ان تحجر كبدها حزنا على بنتها الوحيدة..
لو تركوها تبكى لامطرت كبدة الابل التى رجفت حين ذبحها وحين بكى ومازال يبكى فىّ الحنين...
{4}
البرش المضفور بالحنان مفروش على عنقريب مكربة حباله بالفرح, لتجلس عليه حياة يوم مشاطها وحنتها وجرتقها..
فى البيت المجاور لبيتنا يرقد فى عنقريب هبابى عم عبدالله ابو دقن. يفتح الراديو باعلى صوت وجدى يتوسد فردة امى حليمة- رفيقة ايامه وينادى عبدالله { ياولدى وطى الصوت شوية, خلينا نسمع معك مونتوكارلو...}.
البيت الذى يليه , تتلاصق عناقريبه الاربعة لينام عليها الاطفال العشرة.. يستدفأون فى الشتاء برائحة رحم المحبة التى تنثرها ليلا آهات امهم وابيهم الغائب – حجة وزوغه- لم يجد بعد عملا يوفر لهم عناقريبا وبيت ايجار اوسع- الوسيعة ذاتها ضاقت بينا- تطمئن نوارة روحها..
عم الزبير الجناينى الذى اخضرت جنائن كوستى على يديه, يعود عصرا الى البيت, بتوقيت عودة الراعى وعصاه ينش بها اغنام التعب والانهاك.. عم الزبير يمدّ جسده المنهك على عنقريبه وفى ذلك الحوش الواسع الذى تسكنه خمسة اسر من اصل الشجرة التى جذرها عم خميس الذى مات ذات يوم تحت شجرة وهو يجلس فى عنقريبه فى جبال النوبة..
عنقريبين تحت شجرة النيمة الظليلة فى حوش بنات دلدوم, ضعف بصرهن وقوى نور قلوبهن بالايمان, اذهب اليهن محملة بالعصيدة وملاح الويكاب الذى يستطعمنه حين تفركه امى- ام الكل...
اتوهط فى العنقريب وامط جسمى الصغير وانام, جسم منهوك بالملاريا ومعدّ لتعب قادم فى عمرى... كانت اشارات الروح تدق على باب قلبى المصنوع من حبال الريدة..
بت هيرون لها ايضا عنقريب متهالك اهترأت حباله وتدلى بعضها ليلامس حقتها المنمقة بزراكش رسمت على جباه اهلنا في اعالي النيل , تنام عليه بعد ان تلقط حدايد الدنيا والآخرة, وتمرّ من بيتنا ولا تحىّ سوى امى.. حباب عشة بت ريا.... لا تسمح لاحد يدخل قطيتها المركونة فى فسحة مهملة سوى لامى..
عنقريب محاسن جنب حفرة دخانها, الدخان بيطلع التعب من العضام, تقول وبوخها يلوى حبال العنقريب, تتمدد عليه وتنام وظل النيمة مشرور فوق طهرها اللامع بلون الطلح..
خالتى مكة بت خلف الله, بفردتها البيضاء النظيفة ووجها المليح وحديثها الطاعم, تجلس على عنقريبها وتفرش امامها هبابات وبروش غزلنها نسوة قرية الطويلة والوساع والفشاشوية, نساء عرفن قيمة العمل ودروب الرزق الكريم..
عنقريب جلست عليه خالتى نفيسه تلاوى فى {كنش} الحياة وهو يسوط فى {عصيدة} دخن روحها لتربية الصغار- خالتى نفيسه, {شلوفتها المدقوقه والزمام الكبير فى انفها وحجول المحبة فى ساقيها الجميلات , الخرز والسوميتة والودع يلمعن فى ليل فيينا الساكن, فانام وكلى طمأنينة.
عنقريب تحت شجرة النيمة فى سجن كوستى, حين ساقتنا دروب الاتحاد النسائى لندعمهن.. بعد عمر اتأكد باننا ما دعمنا الاّ روحنا المعذبة فيهن. على العنقريب تجلس السجّانة وعلى بروش جلسن السجينات ينظفن فى الخدرة, وصغارهن حولهن, فروع الخدرة فى يد السجّانة, تشحط به ميرى وكلتوم وفطومة..
{5}
كراب الروح يحتاج ايضا لشد,
ارتخت حبالها ذات هجرة وروائح العناقريب التى لازمت حياتى تصحو كلما اتى الليل وتفرهد فى منتصف ليل يعرف كيف ينبهنى على طول المسافات. معسم جسمى والسرير- الوثير- المصنوع باتقان فى بلدان الصناعات المتينة- يعسمنى اكثر..
اؤنس روحى بسيرة عنقريب- عرسى- ورائحة الحناء تنفرش فى الليل الفيناوى صفقا {مدروش فى فندق} الفقد ومبلول بدموع الغياب.
كانت حين تمطر {تكلكلنى} رائحة الدعاش, تصحو رائحة القش والحبال المبلولة بالمطر حين بلل على اطراف اصابع قدمى, للحناء ايضا رائحة متفردة حين تختلط بروائح الحبال.. كان ذلك قبل ان تصبح قطرات المطر قنابل ليلية, تقتلنى حين طرقعة سماء وتحيينى حين سكون موج بحر الروح..
حين ماتت امى حليمة وانا اموت فى غربتى كل يوم والدنيا ابتكرت وسيلة تواصل قربت المسافات..
قلت لابى وصوتى منتحب وعيونى بلا دمع, كان حصحاص فقدها يحرقص فى عيونى ودمى..
{ ماتتصرفوا فى اوضتها, وخلوا لىّ عنقريبها لحدى ما اجىء راجعة}.. ووعدنى ابى...
فى الاوضة التى كانت لها ولىّ قبل ان اسلم نفسى طيعة لانياب الهجرة وابوابها التى انفتحت امامى بلا رحمة..
حين عدت بعد ستة اعوام انقطع فيها مجرى عبير القلب.. دخلت تلك الاوضة..
مسكت فى الشعبه - الامينة- التى حمتنى وامى لسنوات طويلة ومطر كوستى لايعرف الرحمة كان...
شميت حبال العنقريب حبل حبل
وربطة ربطة
وعقدة عقدة..
وبليت كل حتة فيه بدموعى..
قلت لهم ان يتركونى وحدى.. ولم يفعلوا..
فمازلت انتظر ان ابكيها كما منحتنى الحنان والامومة والامل والسند وطمبرة الحياة التى لا تكف عن الغناء..
{6}
تحت شجرة النيمة. عنقريب للحنان..
لرجل- قيل فى العرف انه نسيبى-
وقال قلبى انه ابى..
فى تلك القرية التى تعرف طرب خطوى وانتشاء روحى
اجلس قربه, يمازحنى, يغرس سنابل القمح طمأنينة فى مهجتى..
ظلّ يفعلها الى ان ذهب الى جنة فيها من روح زهرة- زهرتنا التى غابت فى ملكوت الرحمة..
اكثر العناقريب حنية تلك التى جلست فيها ست البنات... ست روحى .. روحى التى ضاعت حين مضت
على عنقريب ظله يتبعنى ودمعى يدرّ حليب تلك الناقه التى اناخت فى ايامى الانين, انين تعرفه ليالى البلاد الباردة..
مضت وخنقّت فرحتى بقمر حفيدتها- مرافىء- وكانت تمرح فى بطنى, وتفرح ست روحى فى البلدات... القمح
ذكرى عنقريبها..وقصة {فستون} حناء الحلم وكشكشة فستان ليلة { كانت فيها سماء القرية سقفا للروح}
{7}
عنقريب لىّ ولجبريل...
عنقريب ياجبريلى من حبال روحنا الطويلة
المفرورة فى بيوت الطين والكرتون والخيش الطيبانة
مفرورة فى المدرسة ومبنى البريد
اتوسد سمرتك واكتب ليك حين تغيب {{ بالله ياساعى البريد سلم على الزول البريد
قول ليهو غيرك مابريد}}
ياجبريل يابساطة الحليب فى قدح البسطاء
تحت الشجرة يحكون حكايات البن والقطن طويل تيلة الشجون
ويعدون لنا القهوة ويلعب رجالها الضمنة والسيجة
ولا ضمان الاّ لعنقريب نحمل عليه الى تربتنا الاخيرة وليس سوى ذلك من يقين
لنا عنقريب فى الحلم
تمتص حباله وحبال روحى عرق تعبك والرهان
نستجم فيه ونستكين لظهيرة الحزن وصمت خيولك عن الصهيل يافارسى
ورفرفة الغناء ومدايح الدراويش
ياحمحمة اغانى الناس البسيطة وقت الحصاد
ونوار البساتين...
فى عنقريب الحلم ضع رأسك الموجوع بصداع البلد المزمن بحنين ناسه لحياة تشبه بساطتهم
{{ كعنقاء قد أحرقت ريشها
لتظل الحقيقة ابهى
وترجع حلتها فى سنا الشمس أزهى
وتفرد اجنحة العيد
فوق مدائن تنبض من ذكريات الخراب}}- اقرأ الجنوبى دنقل الذى احببت و نام فالوقت ظهيرة شجن
نام جيدا لتصحو فى الليل فرسا تشهد عليه حبال روحى طويلة السيرة
جلد بها ما ارتخى من شدو الحياة
شدّها ولاتلجمنى...
مهرتك حرة ياحبيبى فلا ترهنها للسراب..
وبسيطة كعنقريب تسكن فيه الروح ويتوادد فيه ليلنا
يقرئنى من الكتب دروبا نشتاق
ويكتبنا كما نشتهى ان نكتب..
عنقريب, نأتية حين نداء للسكينة وعطش للمودة والرحمة...
{8}
افقت على رزاز الماء التى رشها القسيس فى وجوهنا, ماء الحياة..
كانت حوالى اربعين دقيقة, ذكرت فيها محاسن الفقيدة, حنيتها وتواصلها مع اسرتها..
لم تنفك السيرة الحزينة, ورحلت الشابه سيمونى لتسكن مع صديقها وفضلت وصغارى الله ورقبتنا فى طابق يحتوى على اربعة شقق..
سيمونى قالت لىّ وهى تودعنى وتحضن صغيرتى ان الدور سيأتى عليها, لان الجارتين ماتتا وشقتها فى الصف ولهذا ستخلى الشقة..
ضحكت ثم ..علقت على قولها: مايهمنى حين اموت ان اجد عنقريبا, كرابه حبال روحى المشرورة لنشر المحبة فى العالم, هذه وصيتى وانت تعرفينها الآن..
عنقريب عليه اتيت للدنيا ذات شمس وعليه اشتاق ان احمل الى قبرى ذات شمس ايضا..
الحياة والموت صنوان فى دائرية الخلق..
كل ذاكرة العنقريب كانت حضورا
هذا التابوت يخنق فضاء روحى فى سمواتها الرحيمة..
ولاشوق بى كان سوى ان اعود الى الارض محمولة على عنقريب..عنقريب هبابى, بحبال طبيعية..
وان ينثر على قبرى رمال جوى انسربت بين اصابع الرهان ذات صى وصهد
وعلى حبيبى أن يرش عليه من ماء روحه الطهورا,,,سا ينبت عشبا يسر الناظرين...وتعشقه البنات..
----------------------------------------
فيينا- ذات شوق للعنقريب....


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.