تمتلك مدينة كونستانس، هذه الدرة النفيسة التي ترقد على بحيرتها كالمهمزة على سطرها في أقصى الجنوب الألماني، مسجدا في غاية الروعة والجمال. عندما تدخل بهوه تستحوذك الصور الجمالية للخط العربي والنقش الإسلامي المنمق. كنت حينها حاضرا عندما آتى أربعة من الفنانين الأتراك وقاموا بوضع التصاميم الفنية ذات الطابع التركي البحت. لقد ذهبت بالأمس لصلاة التراويح وعلى عادته يأمنا الأمام التركي حياتي فولكان. أنت لا تستطيع سماع صوته البديع عندما يرتل القرآن إلا وتقف جلدة شعرك من الهيبة التي تصيبه لهذا المشهد النوراني الأخاذ. بدأنا بصلاة العشاء وما فتئنا أن انتهينا من هذه الأخيرة حتى وقف الأمام فجأة ينظر إلى الوراء ملتمسا أثر أحد المصلين. فإذا به يؤشر لشخص من الصفوف الخلفية ليتقدم المصلين. لم أر ذلك طيلة حياتي هنا في مدينة كونستانس الألمانية. أستعجب المصلون لانقطاع الصلاة بعض الوقت. لكنني رأيت شابا أسمرا، ضعيف البنية. كان الشاب طويل القامة، أسمر البشرة مائلا للسودان، خجولا في حركته. لوّح إليه الإمام بأن يتقدم، لكنه أشار برأسه رافضا عدة مرات بأنه لا يريد. لكن الإمام أصر على موقفه فاستسلم الشاب الأسمر للأمر. واذا بالفتى يتقدم فاجا لصفوف الخلق في تأني وطمأنينة. فما أن وصل مكان المحراب حتى خلع الإمام حياتي جوخه وعمامته الأزهرية وأعطاهما للشاب الصومالي. تقدم حينها الشاب المصلين قائلا استووا يرحمكم الله. وما أن بدأ يقرأ بصوته آيات بينات من الجزء 19 من القرآن حتى أصبت بالدهشة البالغة ولم اسطع أن أتمالك نفسي من الهيبة والكمال. كنت أحسب نفسى أمام شيخ الشريم أو شيخ السديس بالحرم المكي. يا للجمال ويا للروعة! كان الشاب الصومالي يتنقل بين صوتي هذين الشيخين ويتفنن في النبر بسلاسة وسهولة ممتنعة كما يشاء. أنتشى المصلين في هذه الليلة بهذه الدرة الثمينة التي أتت إلى ألمانيا طالبة للجوء. عرفني الإمام به قائلا: صديقنا من حفظة كتاب الله. حفظ القرآن بالصومال وجوّده بها. ثم صقل مواهبه القرأنية بالدراسة والعلم بالسودان بجامعة أفريقيا وكلية القرآن الكريم. يرجع الشاب الأسمر بعد قضاء الفرض إلى غرفة وضيعة يتقاسمها مع ثلاثة من حفظة القرآن بمدينة كونستانس. تراهم قابعين دونما مال أو جاه، منتظرون أمر الفصل في قضية اللجوء السياسي واضعين أمالهم بين يدي الله.