بينما كنت أتابع نتائج انتخابات الأسبوع الماضي في الكويت، حيث مني الإسلاميون بأجنحتهم المختلفة (شيعة وسنة، إخوان وسلف ومستقلون) بخسارة مؤلمة أوشكت أن تمحوهم من الخارطة الانتخابية، تذكرت تطوراً مماثلاً شهده عام 1985، حيث أصيب إسلاميو الكويت بنكسة ذات حجم مقارب. ولم يكونوا وحدهم، فقد أصيبت الحركات الإسلامية في طول العالم الإسلامي وعرضه في ذلك العام بنكسات انتخابية فهمها بعض محللي وزارة الخارجية الأمريكية على أنها تمثل بداية نهاية ما كان يسمى وقتها بالمد الإسلامي. وقد استند هذا التحيل إلى نتائج انتخابات في مستويات مختلفة وفي أوقات متقاربة في كل من مصر والسودان والباكستان والكويت. ففي مصر تراجع عدد مقاعد البرلمان التي حصل عليها الإخوان المسلمون وحلفاؤهم، وفي الكويت تراجعت كذلك مقاعد الإسلاميين لصالح الليبراليين، وفي الباكستان لم تحصل الجماعة الإسلامية التي خاضت الانتخابات على أكثر من 10% من الأصوات. أما في السودان فقد خسر الإسلاميون قيادة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم الذي ظل تحت سيطرتهم لأكثر من عقد من الزمان. علقت وقتها على هذا التحليل في مجلة "آرابيا" التي كنت أتولى إدارة تحريرها بأن هذا التحليل يفتقر إلى الدقة. ففيما يتعلق بالانتخابات التي تميزت بقدر من النزاهة، كما في الباكستان والسودان، فإن الإسلاميين هناك يستحقون ما وقع لهم، بل والمستغرب أن هزيمتهم كانت أقل مما يجب. ففي السودان تحالف الإسلاميون مع حكومة الرئيس الأسبق نميري التي كانت تفتقد إلى الشعبية والمصداقية، في الوقت الذي كانوا بنوا فيه شعبيتهم في الجامعة على معارضة تكل الحكومة والدفاع عن الحريات ضد توجهها القمعي. فالعجب ليس في هزيمتهم، بل في أنهم بقوا ينتخبون لقيادة الاتحاد بالرغم من ذلك لسنوات متتالية. بل والأعجب من ذلك أن الإسلاميون لم يهزموا إلا بعد أن تحالفت ضدهم كل الاتجاهات السياسية، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، في قائمة واحدة، ومع ذلك لم يكن الفارق بين الطرفين في الأصوات كبيراً! أما في الباكستان، فإن الجماعة الإسلامية هناك ظلت تتبع نهجاً صفوياً استعلائياً سيضمن إذا ما استمرت فيه، أن تبقى على هامش الحياة السياسية. وقد أشرت إلى مقابلة كنا أجريناها في وقت سابق مع زعيم الجماعة آنذاك ميان طفيل سئل فيها عن عضوية الجماعة فأجاب بأنها ثلاثة آلاف وخمسمائة عضو. فإذا كانت هناك جماعة سياسية لا ترى، بعد قرابة نصف قرن على تأسيسها، أنه لا يوجد من بين مسلمي باكستان الذين يناهز عددهم ثمانين مليوناً من يستحق عضويتها سوى بضعة آلاف فإنها تكون واهمة إذا خالت أن هؤلاء الملايين سيتزاحمون على صناديق الاقتراع لانتخاب هذه الفئة المتعالية المعجبة بنفسها. الأمر يتخلف بالنسبة لمصر والكويت، حيث أن حكومات تلك البلدان ألقت بثقلها ضد الحركات الإسلامية، ولم يكن بالإمكان مهما بلغ بنا التساهل أن نعتبر تلك الانتخابات حرة أو نزيهة. ففي مصر نجد أن حركة الإخوان كانت وما زالت محظورة، مما اضطرها إلى التحالف مع أحزاب أخرى حتى تدخل الانتخابات. وهي وبقية قوى المعارضة محرومة من المنابر الإعلامية التي يهيمن عليها حزب الحكومة. إذن فالانتخابات لا يمكن أن تعتبر بحال مقياساً دقيقاً لشعبية أي تيار سياسي، ولكنها تعتبر مقياساً لمدى نجاح الحكومة في قمع المعارضين والتحايل على إرادة الشعب. في الكويت يختلف الأمر قليلاً، إذ أن القمع والحظر على الحريات لا يبلغ ما بلغه في مصر، ولكن النظام هناك يختلف من أنه نظام ملكي يحتل منطقة يصعب تحديدها بين الملكية الدستورية والحكم المطلق. ولهذا السبب طغى التنازع بين البرلمان والحكومة على الحياة السياسية في الكويت، وهو ليس تنازعاً على السلطة، إذ أن السلطة المطلقة هي في يد الأمير، ولكن على الجزئيات والشكليات. فالحكومة لا تريد للبرلمان ممارسة أبسط صلاحياته، مثل استجواب الوزراء. ومن نفس المنطق، خاصة في ظل هيمنة الأسرة الحاكمة على الثروة، فإن الحكومة لا تتورع في استخدام أدواتها المالية والسياسية والإعلامية في التأثير على نتيجة الانتخابات. وقد أشرت في تعليقي السابق ذكره كيف أن النظام في الكويت وقتها وظف كل موارده لهزيمة الإسلاميين، كما حدث عندما قدم دعمه للقوميين بقيادة الدكتور أحمد الخطيب من أجل تحجيم الإسلاميين. وكان من آيات ذلك على سبيل المثال فتح قنوات التلفزة الرسمية للخطيب الذي كان مغضوباً عليه في السابق، وإعادته إلى الواجهة كجزء من حملتها المضادة للإسلاميين. الطريف أن الدكتور الخطيب وصف في مذكراته التي نشرت على حلقات في "الجريدة" الكويتية العام الماضي انتخابات عام 1985 بأنها مثلت "عودة الوعي"، في مقابل انتخابات عام 1981 التي خاضها الإسلاميون لأول مرة وأحرزوا فيها نجاحاً مقدراً، والتي حكم عليها بأنها كانت مشوهة لعدة أسباب، منها التدخل الحكومي. أي التدخل الحكومي كان حلالاً مباحاً عام 1985، ومكروهاً عام 1981! (ولا أقصد هنا إلى النيل من الدكتور الخطيب، الذي أعتقد أنه من أكثر السياسيين العرب نزاهة ومبدئية، خاصة وأنه أول من اعترف بأن الحكومة سعدت بفوزه ودعته لدخول الوزارة مباشرة بعد الانتخابات، قبل أن تنقلب الأمور. ولكن هذا لا يمنع من توضيح الأمور على حقيقتها، وهي أن تياره رحب بالدعم الحكومي واستفاد منه حينها). بالإضافة إلى طبيعة النظام الكويتي (وربما بسببه) فإن الحركة الإسلامية في الكويت تختلف عن بقية الحركات المشابهة في الدول الأخرى. ذلك أن الحركات الإسلامية الخليجية عموماً لا تسعى لتغيير النظام القائم إلى نظام إسلامي، بل هي إما تعتبره نظاماً إسلامياً يجب العمل في إطاره وكنفه ودعمه، أو على أبعد تقدير، العمل على إصلاحه. ولهذا السبب فبينما نجد الحركات الإسلامية في معظم الدول الأخرى ذات طابع ثوري، فإن حركات الخليج الإسلامية ذات طابع محافظ يوشك أن يكون رجعياً. فأن تكون محافظاً في بلد مثل الكويت أو السعودية يعني أن تكون من أنصار العودة إلى عصور ما قبل التاريخ. لكل هذا نجد الحركات الإسلامية هناك تهتم بالجزئيات والصغائر، ووتتجنب الخوض في القضايا الكبيرة. فقد رأينا كيف أقام بعض السلفيين الدنيا ولم يقعدها حول زيارة شيخ شيعي، وفي كثير من الأحيان تثور ثائرة الإسلاميين حول أمور تتعلق بإقامة حفل غنائي هنا، أو زيارة مطربة هناك. وقد بذلوا الكثير من رأسمالهم السياسي مثلاً لاستصدار قرار يفصل بين الجنسين في جامعة الكويت، رغم أن الاختلاط متاح للجميع في كل مجالات المجتمع الكويت الأخرى. وقس على ذلك. وبالمقابل فإن الإسلاميين هم إما سكوت حول القضايا الكبرى مثل طبيعة الحكم ومدى سلطة العائلة المالكة، أو وجود القواعد العسكرية الأجنبية، أو تحالفات البلاد الخارجية، ودور حكومتهم في الحرب العراقية-الإيرانية، أو مؤيدون بحماس لموقف الحكومة. هناك جانب آخر في طبيعة الحركات الإسلامية الخليجية، ينبع من تقليديتها المفرطة، يجعلها أشبه بحركات محلية تقليدية محافظة، وأحياناً ذات توجهات تقترب من الشوفينية. على سبيل المثال، نجد تلك الحركات الإسلامية تشبه الحركات اليمنية المتطرفة في أوروبا في توجسها من المهاجرين، وعداوتها للأجانب، حتى المسلمين منهم، بل بالأخص المسلمين. فلم نسمع الحركة الإسلامية الكويتية رفعت صوتها استنكاراً لجريمة التطهير العرقي في حق الفلسطينيين المقيمين في الكويت، هذا إذا لم تكن كانت في مقدمة من شاركوا في الجريمة. ومن المخجل كذلك أن نجد أن القوميين واليساريين في الكويت، وعلى رأسهم الدكتور الخطيب، كانوا يقفون مدافعين عن حقوق العمال الأجانب والبدون، بينما نجد من يفترض فيهم أن يكونوا الناطقين باسم الإسلام يتخذون مواقف مغايرة. من هذا المنطلق فإن ما تلقاه تلك الحركات من دعم من المجتمعات ليس هو بالضرورة دعماً لتوجهات إسلامية بقدر ما هو دعم لتيار محافظ يعبر عن القيم السائدة في تلك المجتمعات المحافظة بطبعها. وهذا بدوره ينعكس على تعامل الحكومات معها سلباً وإيجاباً. ذلك أن خلاف الحكومات مع هذه الحركات لا يستند إلى خلاف حول أجندة الحركات الإسلامية غير الموجود أصلاً، بل حول أمور أخرى، أبرزها حرص الأسرة الحاكمة على الانفراد بالسلطة. لهذا السبب فإن الحكومة تستخدم بعض التيارات ضد بعضها الآخر، كما حدث حين استخدمت القوى الإسلامية والتقليدية ضد القوميين والليبراليين حينما كان تيار أولئك في صعود، ثم عادت إلى أولئك، قبل أن تنقلب عليهم حينما رفضوا أن يمثلوا الأدوار المنوطة بهم. نفس الشيء حصل في الانتخابات الأخيرة حين تحالفت الحكومة مع عدة تيارات أبرزها التيارات العلمانية من الشيعة والسنة معاً إضافة إلى بعض القوى القبلية. هذا بالطبع إضافة إلى تورط بعض هذه التيارات في النزاعات الداخلية للعائلة الحاكمة. العبرة من كل هذا بالنسبة للإسلاميين في الكويت وغيرها هو أولاً ضرورة بروز تيار إسلامي حقيقي، وليس تيارات شوفينية أو قبلية أو محافظة تتدثر بدثار الإسلام. وثانياً أن يهتم التيار الإسلامي بالقضايا الكبرى وأن تكون اولياته هي الكليات لا الجزئيات. وثالثاً أن تعطي هذه التيارات أولوية للديمقراطية وقضايا الحريات والعدالة، وأن تتوقف عن التحالف مع الدكتاتوريات. ورابعاً لا بد لهذه الغاية من أن تتحاور وتتوافق مع التيارات الأخرى بحيث يتفق الجميع على قواعد تحكم التعامل ومبادئ ثابتة يلتفون حولها ويحتكمون إليها.