في مقال الحلقة الأولى تحدثنا عن فلسفة الحركات في تحديد الإطار العام لرؤيتها في الإعمار والتنمية، وكيف أن تلك الرؤيا ما كان لها أن تُجَابه بحجم الرفض الذي أبدته الحكومة إبّان التفاوض، وقلنا أن الإعمار والتنمية هما موجّهتان مباشرة للمواطن ولا ينوب الحركات منهما إلا بقدر ما يصيب الحكومة نفسها من إطراء، وقلنا بأننا سنفرد هذه الحلقة للحديث عن مرحلة بدء بعثة التقييم المشتركة عملها بعد عودة الحركة الموقعة على الإتفاقية إلى الخرطوم. وقبل أن نباشر السرد في عمل بعثة التقييم المشتركة نود أن نُعطي القاريء الكريم شرحاً مبسطاً عن تشكيل هذه البعثة وطبيعة تفويضها ونطاق عملها وفق ما جاء في الفقرة 155 من اتفاقية أبوجا (تتفق الأطراف على التعجيل بإنشاء بعثة التقييم المشتركة بغية تحديد وتقدير احتياجات برنامج النهوض الاقتصادي والتنمية وإزالة الفقر في فترة ما بعد النزاع في ولايات دارفور. وستعرض هذه الاحتياجات على المانحين خلال مؤتمر المانحين المقرر عقده بعد ثلاثة أشهر من التوقيع على هذا الاتفاق. وفي هذا الشأن، تدعو الأطراف البنك الدولي للإعمار والتنمية والأممالمتحدة والبنك الإفريقي للتنمية إلى القيام بدور رائد في توجيه أنشطة بعثة التقييم المشتركة وذلك بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية والصناديق العربية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدةالأمريكية وكافة البلدان والأطراف الأخرى المعنية). بعثة التقييم (JAM) تشكلت برئاسة هولندا التي أيضاً من المفترض أن تستضيف مؤتمر المانحين لدارفور، وعضوية حركة/ جيش تحرير السودان والحكومة والبنك الدولي والامم المتحدة والإتحاد الأفريقي وبنك التنميه الأفريقي والإتحاد الأوروبي والولايات المتحدةالأمريكية وبريطانيا والجامعه العربية والنرويج، وتمثل اللجنة المحورية للتنسيق بمثابة الجهاز التنفيذي للبعثة حيث تمثل فيها حركة/ جيش تحرير السودان بستة أعضاء ومثلهم من الحكومة بالإضافة إلى الأعضاء الذين يمثلون المجتمع الدولي الآنف الذكر. وقد كنت رئيساً لجانب الحركة في تلك اللجنة إلى جانب كل من الأستاذ محمد التجاني الطيب والأستاذه مريم عبدالرحمن تكس والدكتور آدم خاطر سام والدكتور محمد سليمان آدم والمهندس آدم عبدالرحمن محمد كأعضاء، بينما يترأس الدكتور لوال دينج وزير الدوله بوزارة المالية لجنة الحكومة بجانب آخرين. ووفقاً للإتفاقية فقد كان منصوصاً أن تستكمل البعثة عملها خلال ثلاثة أشهر من تاريخ توقيع الإتفاقية بحيث تبدأ هولندا في تمليك المانحين خلاصات نتائج البعثة وتبدأ في الإعداد للمؤتمر المقرر له أن ينعقد في لاهاي - هولندا بعد ثلاثة أشهر من توقيع الإتفاقية. اللجنة المحورية للتنسيق بدأت أعمالها بمجموعة ورش عمل عُقدت في كينيا والخرطوم في نهاية مايو وبداية يونيو 2006 قبل أن تبدأ رسميا بالإجتماع الذي تم عقده في لاهاي أيام 21/22 يونيو 2006 حيث تم فيه إجازة الشروط المرجعية التي تحكم عمل البعثه. كانت الشروط المرجعية متمثلة في: الإشراف وتنفيذ أعمال بعثة التقييم المشتركة لدارفور مع إستصحاب نتائج أعمال بعثة التقييم المشتركة بين الشمال والجنوب. التنسيق بين كل الاطراف المشاركة في العملية. ضمان التنسيق والتعزيز بين المسارين في عملية التقييم المشتركة. ضمان أن تكون الريادة في عملية التقييم هي للسودانيين، مع وجود المساندة الفنية من الأممالمتحدة والبنك الدولي وبنك التنمية الافريقي، بالإضافة للدعم السياسي من الدول المانحة. الإعداد لمؤتمر المانحين في لاهاي في هولندا. تأسيس النطاق والأطر الخاصة بالعملية. متابعة تقدم عملية التقييم واستحداث المؤشرات الإستراتيجية وفق الأهداف المتفق عليها. إبتدار وتأمين حوار بين قيادات أبناء دارفور حول عملية التقييم. التأكد من أن عملية التقييم المشتركه منسقة ومتوافقه مع العمليات المشابهة مثل الحوار الدارفوري الدارفوري وجهود الترويج للسلام والإغاثة الإنسانية. تأمين الموارد اللازمة لعملية التقييم المشتركة. حشد الدعم لإنفاذ عملية التقييم المشتركة وضمان الإحاطة الدائمة للمانحين حول تقدم العملية. هذه النقاط الإحدى عشره قد رسمت خارطة الطريق وأطّرت الجوانب الإجرائية لإنجاح عمل البعثة ووضع اللجنة المحورية أمام مسئوليات جسام محكومة بمدى زمني لا يتجاوز ثلاثة أشهر قبل انعقاد مؤتمر المانحين. إنطلق العمل وكان تحدياً حقيقياً بالنسبة للحركة الموقعة في أن تتمكن وهي العائدة في شهر يونيو 2006 إلى الخرطوم ترتّب كل الجوانب الأخرىَ وأن تجد حيزاً تحشد من خلاله قدرات أبناء دارفور المتخصصين لإنجاح عمل بعثة التقييم المشتركة بحسبان أن نتائج مثل ذلك العمل هو ما يساعد على إنجاح مؤتمر المانحين المنشود لدارفور وعليه يتم رسم الخطط الإستراتيجية لمرحلة التعافي العاجل ومن ثم الإعمار في المدى القريب والتنمية في المديين المتوسط والبعيد. يقوم عمل البعثة المشتركة للتقييم على مسارين إثنين هما الإغاثة والتعافي وتقود الأممالمتحدة هذا المسار بينما يقود البنك الدولي مسار التنمية، ومن ثم بعد إعداد المقر الدائم للبعثة في الخرطوم عَكَف كل طرف من أطراف الإتفاقية وهما الحركة والحكومة على تحديد وتقديم قوائمهم من الخبراء السودانيين الذين سيعملون جنباً إلى جنب مع الخبراء الأجانب في موضوعات الشُعَب المختلفة للمسارين. وكون أن الحكومة وهي التي تملك ناصية الامور فهي لم تكن تلقىَ صعوبة في تحديد قائمتها من الخبراء ولم يكن لأحد أن يعير كبير اهتمام عن ماهيتهم برغم مقتضيات معايير الخبير من حيث المؤهلات العلمية والخبرات المهنية، غير أنه في الجانب الآخر كانت الحركة مطالبة بتحقيق متطلبات الإختيار ضمن المناخ السائد والذي كانت تهيمن عليه الإشاعة التي ساهمت الحكومة فيها بنصيب وافر من التقليل من قدرة الحركة على مواكبة المقتضيات، غير أن الحركة ومن منطلق ذلك التحدي عملت على اختيار أفضل المتخصصين من العلماء والخبراء من أبناء دارفور الذين ظلّت بصماتهم واضحة وجلية في الجامعات والوزارات والمنظمات الإقليمية والدولية، لذلك لم يكن مستغرباً أن يحوزوا على الإشادة من نظرائهم الأجانب وهي إشاده صادفت أهلها ومستحقيها لعلمهم وخبرتهم. ولعلنا نذكر أسماء بعض الخبراء من الذين اختارتهم الحركة من جانبها على سبيل المثال وليس للحصر وهم البروفسير محمود موسى محمود والبروفسير إبراهيم الأمين حجر والبروفسير يعقوب عبدالله والبروفسير آدم الزين والبروفسير عبد الرحمن بشاره دوسه والدكتور إدريس يوسف والبروفسير صلاح الدين عبدالرحمن الدومه والراحلة رحمة الله عليها الدكتوره فاطمة الرشيد والدكتور صديق أمبدى والدكتور أبكر علي إدريس والدكتور عباس يوسف التجاني والاستاذ محمد إبراهيم كبج والدكتور آدم خاطر سام والدكتور مصطفى نجم البشاري والدكتور أحمد حسن هود والدكتور موسى آدم عبد الجليل والراحل رحمة الله عليه الدكتور عبدالنبي علي أحمد والمهندس الطيب يعقوب والمهندس إيدام أبوبكر والبروفسير محمد أبكر أحمد والدكتور محمد علي دوسه والدكتور حامد عمر والأستاذ حامد علي نور والمهندس هارون عثمان سام، هي قائمة من مئات العلماء والخبراء حيث يمكنكم أن تقوموا بسياحة للذاكرة على كل الأسماء المرموقة في مؤهلاتها وخبراتها من أبناء دارفور وغيرها مئات من المشاركين بفعالية ونكران ذات لا يسع المجال لذكرهم ولا يعني أننا نخص من ذكرناهم بهالة من الرفعة عمن لم نذكرهم، بل نحفظ لمن لم نذكرهم سمو الدرجة من التقدير والعرفان ما يليق بقاماتهم المتسامية، هؤلاء وأؤلئك جميعا عملوا جنباً إلى جنب مع عشرات الخبراء الأجانب في المحاور التي تم اختيارها لتغطي كافة المجالات المستهدفة في الإغاثة والتعافي والتنمية والتي تمثلت في: شُعبة الحكم الرشيد وتغطي المالية وخكم القانون والتشريعات والأمن والسلام والحكم المحلي والإدارة الأهلية والمجتمع المدني. شعبة الخدمات الإجتماعية وتغطي الصحة والتعليم والرفاهية الإجتماعية والمرأة والطفل. البنيات التحتية وتغطي الطرق والجسور والسكك الحديدية والمطارات والإتصالات والطاقة والكهرباء والأمن الغذائي الإستراتيجي. شُعبة المياه ومعالجة الصرف الصحي وتغطي تنمية المصادر والبنى التحتية للمياه ومياه الريف ومياه المدن ومعالجة الصرف الصحي. شعبة القطاع الخاص وتغطي التصنيف والصناعات التحويلية الزراعية والنقل والمقاولات والتعهدات والخدمات وصناعات الحرف المحلية. شعبة بناء القدرات وتغطي القيادة والتدريب المهني وإدارة المشروعات والإدارة العامة وجمع المعلومات الإدارة المالية الرشيدة والإدارة السياسية الرشيدة. شعبة التنمية الريفية وتغطي الحاجات الاساسية للحياة والإسكان والتنمية الريفية والثروة الحيوانية والخدمات البيطرية فض النزاعات ودعم السلام القروض الصغيرة لدعم مشروعات الاسر المنتجة. شعبة الأرض والموارد الطبيعية الأرض والبترول والمعادن والحفاظ على البيئة. لقد كان أبرز العوامل التي أخذتها حركة/ جيش تحرير السودان في التعامل مع مفهوم البعثة المشتركة للتقييم هي أنها تجاوزت الإطار التنظيمي وسبحت في نطاق واسع بما يتوافق مع متطلبات إنجاح المهمة التي آلت على نفسها أن تتصدى لها في هذه المرحلة الحساسة، كونها مهمة تتعلق بها طموحات أبناء دارفور ويتعلق بها مستقبل الخارطة التنموية لدارفور لمرحلة ما بعد الحرب، لذلك جاءت هذه المشاركة الواسعة من المتخصصين من أبناء دارفور من المتواجدين في العاصمة الخرطوم أو المتواجدين في ولاياتها أو المهاجرين خارج السودان. كما شارك أيضاً بعض الغيورين من الخبراء من ابناء السودان لانتشال البلاد من كبوتها التي اوقعت بها في النزاعات عبر رؤىَ قاصرة حكمتها طموحات ذاتية. لا نُسقط الجهود السابقة في مجال التخطيط الإستراتيجي للخدمات والتنمية مما تم إعداده من ابناء دارفور للإرتقاء بها ونقدّرها، بيد أنها بقيت حبيسة الأدراج ردحاً من الزمان ثم تحولت إلى أرفف الأراشيف بدلاً من أن تتحول إلى واقع مشروعات منفذه يعيشها ويتفاعل معها المواطن ويستفيد منها في دارفور، لذلك كان لهذا التجاوز دور أساسي في الثورة التي اندلعت في دارفور وفي مناطق أخرى من السودان. عبد الجبار محمود دوسه