السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إسرائيل والأمن القومي السوداني ... إعداد: عادل حسون
نشر في سودانيل يوم 07 - 12 - 2011


البداية من جنوب السودان ودارفور مرشحة!
اعتراف سياسي برصد شبكات جاسوسية لصالح الموساد
تقلبات العلاقة بين إسرائيل والحكومات السودانية المتعاقبة بين الوداد والعداء
هل تملك الحكومة السودانية إستراتيجية مضادة؟
إعداد: عادل حسون
(1)
يبدو أن الحكومة السودانية حين طرحت في النصف الأول من العام الجاري الحوار الإستراتيجي بين الأحزاب والمكونات المجتمعية برعاية مستشارية الأمن القومي لوضع تصور إستراتيجي لمستقبل الدولة السودانية بعد ظهور خيار الانفصال بما في ذلك شكل وملامح بناء الأمن القومي السوداني وخارطة المخاطر التي تتهدده ووسائل وطرق المحافظة عليه وتغذية حبله السري الواهب للحياة، يبدو أنها كانت ترنو إلى ما ستقدم عليه دولة إسرائيل في علاقتها مع دولة جنوب السودان الوليدة بهدف قديم متجدد هو حصار السودان ومنه مصر من حدودها الجنوبية الحيوية. ولأمر ما حدث في المسافة ما بين عدم الخلوص إلى الإستراتيجية القومية ومن ثم تبلور وإبانة كتابها، وبين تعطل هذا الحوار أو تأجيله بين القوى والتكتلات المكونة للسودان الشمالي، أصبح من الممكن الإدعاء بأن الدولة السودانية وأهلها لم ينتهوا بعد إلى المفترض إنجازه في هذا الواجب أو هكذا يمكن لحسن الظن أن يبدو في مظهره. هو واجب، إذ أن السرعة الملاحظة في بدء تقنين العلاقات رسمياً بين تل أبيب وجوبا بدءاً بالاعتراف بها، بعدما كانت مخفية ومطوية في جب الأسرار، أقل ما توجب أن يبادر السودان لدفق الحياة في مشروعه الأمني المضاد. ومن المعلوم سلفاً أن الاتصال بين الرقعة السودانية وبفلسطين التاريخية قديم منذ الأزل، ويكتسي بمعاني توراتية لدى الإسرائيليين والجنوبيين المسيحيين الكاثوليك. معلوم كذلك أن العلاقة التي تبعت الاتصال دخلت في أطوار متنوعة من الأمني إلى السياسي وكذلك الطور الاقتصادي. وكذا تقلبت بين العداء المستحكم، كما في النصف الثاني من ستينات القرن العشرين بإعلان السودان الحرب على إسرائيل، وبين الوداد المتصل كما في أواخر السبعينات من ذات القرن حيث توثقت العلاقات السرية بين الخرطوم وإسرائيل. نطرق لكل ذلك تفصيلا ونركز على عناوين رئيسة نبدؤها بالعلاقة التاريخية مع السودان، ثم علاقة إسرائيل بجنوب السودان، والمخاطر والتصورات الإستراتيجية المتوقعة. نستعين في ذلك بدراسات وكتابات نشرت مؤخرا حول التدخل الإسرائيلي في السودان وجنوب السودان، ومن ذلك دراسة د. محمود محارب التي اشتهرت بعدما نشرتها شبكة (الجزيرة) على موقعها الإلكتروني في الأشهر الماضية، وقد استندت إلى مراجع أرشيف الدولة في إسرائيل ومذكرات موشيه شاريت، المجلد الرابع، (تل أبيب: مكتبة معاريف، 1978م)/ ميلمان، يوسي ورفيف دان، جواسيس غير كاملين: قصة المخابرات الإسرائيلية (مرجليم لو موشلميم: سيبورو شل هموديعين هيسرائيلي)، (تل أبيب: مكتبة معاريف، 1990م)/ يعقوب نمرودي، رحلة حياتي (مساع حياي)، المجلد الثاني، (أور يهودا: مكتبة معاريف، 2003م)/ أفنير ينيف، السياسة والإستراتيجية في إسرائيل (بوليطيكا فاستراتيجيه بيسرائيل)، (تل أبيب: سفريات بوعليم، 1994م)/ محمد عمر بشير، جنوب السودان من الحرب إلى السلام (سي هيرست وشركاءه، لندن 1975م)/ وتيم نبلوك، النخب والسلطة في السودان، (ألباني، نيويورك 1987م). نعرض كذلك لمقالة د. سامح عباس، وقد أرجع متنها إلى الورقة البحثية التي نشرها الخبير الإستراتيجي سفير إسرائيل بالقاهرة السابق، تسيفي مزائيل، ثم دراسة خبير الشئون الأفريقية عطية عيسوي، الذي دعمها بكتابات العميد المتقاعد بجهاز المخابرات الخارجية الإسرائيلي (الموساد) موشيه فيرجي، وورقة الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) عاموس يدلين، والمحاضرة التي أعدها وزير الأمن الإسرائيلي السابق آفي ديختر، وأخيراً تحليل وخلاصة الدراسة التي أعدها مركز أبحاث سوداني يضم مجلس أمناءه خبراء أمنيين وعسكريين ودبلوماسيين مخضرمين، عن الأمن الإقليمي في البحر الأحمر. ونمهد لكل ذلك بالمصادر التوراتية لتلك العلاقة في محاولة لفهم الاهتمام الإسرائيلي المبكر بالسودان، المدثر باللبوس العقدية. وفي هذا وذاك نحاول الإجابة على السؤال الذي افترضنا أنه يؤرق صانع القرار، وهو: هل يعي السودان ما يجري من حوله؟، وما هي التدابير والاحتياطات والإجراءات المضادة، لما جاء به التاريخ من وقائع وما تضمنته واقعات الأيام وما تحمله نبوءات المستقبل؟. وإذا كنا قد أفلحنا في الإجابة بقدر ما على التساؤل الأول، إلا أن السؤال الآخر بقي في علم الغيب، إذ أنه هو ذاته قبس من توقعات المستقبل في هذه الحالة، فالإفادات الرسمية في هذا الإطار، شحيحة إن لم تك منعدمة تماماً لسبب أو أسباب أمنية مدعى بها، تعني بعبارة أخرى عدم تقدير لواجب الصحافة أو عدم الثقة في مسئوليتها الوطنية، فإذا كان المانع أن لا يكشف (العدو) تدابير التضاد فالصحافة ووعي الرأي العام وتأهبه كل لا يتجزأ في هذه المعركة ذاتها وما الصحافة سوى اللاعب الأساسي في تنسيق هذه التدابير بدءا بالطرق عليها والتثقيف بها.
(2)
عرف السودان في التوراة باسم كوش وورد ذكر النوبة في الكتاب المقدس بجزأيه التوراة والإنجيل. ففي العهد القديم "يأتي شرفاء من مصر. كوش تسرع إلى الله.. (مزامير) 68: 31". وورد ذكر النوبة (السودان) في العهد الجديد "ثم إن ملاك الرب كلم قائلاً ثم وأذهب إلى الجنوب على الطريق المنحدرة من أورشليم إلى غزة التي هي برية. فقام وذهب. وإذا برجل خصي وزير الكنداكة ملكة كوش يعمل على جميع خزائنها.. (سفر أعمال الرسل) الإصحاح الثامن 26: 27". وكذلك ورد اسم السودان في الكتاب المقدس في أكثر من 30 موضعاً، أكثرها في العهد القديم الذي يضم توراة سيدنا موسى ومزامير سيدنا داود وكتب الأنبياء الأخرى كالنبي اشعياء الذي جاء إلى السودان حافياً على أقدامه وفاءً لنذر نذره للرب وتحدث عن رحلته متأملاً مستقبلاً عظيماً لأرض كوش- وذلك في إشارته إلى أنها "الصحاري المنبسطة المحاطة بالأنهار وأهلها الحفاة الطوال"... (سفر اشعياء) 7: 12. وأول ما ذكر عن (السودان) جاء في توراة سيدنا موسى في (سفر التكوين) الذي دون بين 1450-1410 ق.م وفيه وصف سيدنا موسى بداية الخليقة إذ خلق الله الإنسان ووضعه في جنة عدن التي يخرج منها أنهارا وأحد هذه الأنهر هو نهر جيحون (النيل) المحيط بجميع أرض السودان. ولكن بعد تعدي الإنسان على الوصية طرده الله من الجنة ومن ثم أخفيت عنه حتى لا تعبث بها يده مرة أخرى بعد أن أكل من تلك الشجرة المحرمة والتي نهاه الله أن لا يقرب منها. وقد وضع الله ملاكاً لحراسة الطريق إلى الجنة حتى لا تطالها يد الإنسان مرة أخرى. وبحسب النص التوراتي فإن السودان هو امتداد للأرض التي تقع الجنة المخفية في نطاقها من ضمن ثلاث دول بذات الصفة منها اليمن والعراق (سفر التكوين 2: 13). وفي روايات توراتية فإن سيدنا موسى تزوج بتلك المرأة السودانية التي ساعدته على الدخول إلى احد القلاع الحصينة في شمال السودان. وكان سيدنا موسى آنذاك أميرا في مصر وقائدا لأحد جيوش الفرعون الذي تربى في قصره قبل أن يبعث، إذ أن سيدنا موسى ترك قصر الفرعون وكان عمره 40 سنة. وورد في سفر النبي اشعياء، والذي يعتبر من أعظم أنبياء بني إسرائيل بعد سيدنا موسى، أن ملك السودان ترهاقا قد خرج بجيشه لمناصرة الملك حزقيا ملك المملكة الجنوبية في إسرائيل (715-697) ق.م، وهذه أول قصة مذكورة تدل على التعاون العسكري بين العبرانيين والكوشيين وقتذاك. لكن النص لا يحتوي على تفاصيل لهذا التعاون العسكري (اشعياء37)، بيد أن مزامير النبي داود تحوي في بعضها إشارات غامضة إلى أرض السودان تنبئ عن عظم شأنها، كسابق ما ذكره سفر اشعياء، أعتبرها الشارح أساساً لهجرة اليهود وبني إسرائيل إلى أرض كوش في الحقب اللاحقة، ومثال ذلك، الهجرة التي حدثت قبل الثورة، وما بعد، اضمحلال الدولة المهدية في السودان في القرن التاسع عشر.
(3)
ربما من المعلوم بالضرورة أن السودان كان أحد خيارات ثلاثة لتوطين اليهود من الشتات وفقاً لمقررات المؤتمر الصهيوني الأول المنعقد بمدينة بازل السويسرية في 1897م، إلى جانب أوغندا وفلسطين. وفي حرب فلسطين 1948م تطوع بعض الجنود السودانيين للحرب ضمن الجيوش العربية ضد إسرائيل. بيد أن التدخل الإسرائيلي في السودان والعلاقات الوثقى التي أقامتها إسرائيل مع نخب وشرائح سودانية مهمة في شمال السودان بدأ في فبراير 1956م على خلفية حوار تجاري بين حزب الأمة وإسرائيل بدأ في لندن وتواصل في إسطنبول. إذ التقى مبعوث إسرائيلي، بعبد الله خليل وزير الدفاع السوداني حينئذ، والذي أصبح في يوليو من نفس العام رئيساً للوزراء. وعبر عبد الله خليل لمبعوث الشركة الإسرائيلية عن أسفه لعدم وجود قنوات اتصال مع إسرائيل وعن رغبته في تجديد العلاقات الاقتصادية معها. وفي تقرير صاغه مدير مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية، تيدي كوليك، ورفعه إلى ديفيد بن غوريون رئيس الحكومة، في 2 سبتمبر 1956م، عالج جملةً من الموضوعات كان أبرزها تدبير المال الكافي لدعم حزب الأمة السوداني، بخاصة وهو يناصب مصر العداء في اختياره الاستقلال عن مصر وعدم الاتحاد معها بعد خروج بريطانيا، وكذلك البحث عن شركاء آخرين لتحقيق الأهداف الإسرائيلية في السودان. وفي 17 سبتمبر 1956م، أرسل أوري لوبراني من القدس رسالة إلى، إلياهو ساسون، سفير إسرائيل في روما حينئذ، أخبره فيها عن القرارات التي اتخذتها إسرائيل في شأن السودان وهي: البحث في إمكان إقامة بنك زراعي في السودان لوضعه في تصرف مشاريع إسرائيل الاقتصادية المستقبلية في هذا البلد المهم في إفريقيا. البحث في أوروبا والولايات المتحدة عن طرق لجمع الأموال لاستعمالها في مشاريع اقتصادية في السودان. الاتصال بفرنسا لإشراكها في المشاريع والنشاطات في السودان. الاتفاق على تقديم قرض للمهدي قيمته 300 ألف دولار، على أن يوقع المهدي إيصالات لضمان سداد المبلغ. ووصلت العلاقات بين الجانبين إلى إحدى ذراها عندما عقدت وزيرة الخارجية الإسرائيلية، غولدا مائير، اجتماعاً سرياً ورسمياً مع رئيس الوزراء، عبد الله خليل، في صيف 1957م في أحد فنادق باريس لبحث آفاق التنسيق بينهما. وبعد تفجر حرب النكسة 1967م أعلن رئيس الوزراء محمد أحمد المحجوب الحرب على إسرائيل من داخل البرلمان السوداني معلناً رهن كافة قوى ومقدرات البلاد خدمة للمجهود الحربي المصري والعربي حتى إزالة آثار العدوان. وبنهاية هذه الحقبة، إذ استولى العسكريين على الحكم في السودان ووثقوا عرى العلاقة مع مصر العربية بزعامة جمال عبد الناصر في السنوات الأولى للثورة المايوية، جاءت مرحلة أصبح فيها رجل الأعمال السعودي، عدنان خاشقجي، عنواناً لكل إسرائيلي أو يهودي يبحث عن طرق للعالم العربي. إذ كان له شأن أساسي في إقامة العلاقات بين إسرائيل والرئيس جعفر نميري. عدنان خاشقجي أقام علاقات كثيرة ومتشعبة مع كثير من الإسرائيليين واليهود الأميركيين. وكان من بين الإسرائيليين الذين أقام عدنان خاشقجي علاقات متينة بهم، ديفيد كمحي، خلال الفترة التي شغل فيها كمحي منصب رئيس مركز جهاز الموساد في باريس، وتطورت العلاقات بين الاثنين وتوطدت وسادت بينهما صداقة حقيقية. في منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي توجه يعقوب نمرودي إلى الجنرال الإسرائيلي المتقاعد رحبعام زئيفي الذي كان قد أنهى لتوه مهماته كمستشار في شؤون الإرهاب لرئيس الحكومة الإسرائيلية إسحاق رابين، للعمل مع عدنان خاشقجي في مهمات أمنية وحراسة. استجاب رحبعام زئيفي لطلب يعقوب نمرودي وتمكن خلال فترة وجيزة من كسب ثقة عدنان خاشقجي. وقام رحبعام زئيفي بإدارة مزرعة عدنان خاشقجي المترامية الأطراف في كينيا، ووظف أكثر من أربعين إسرائيلياً في تشغيل المزرعة وحراستها. وعهد عدنان خاشقجي إلى رحبعام زئيفي أيضاً بمهمة الحفاظ على أمن يخته الفاخر، وكلفه بوضع أجهزة رقابة وتنصت في اليخت كي يكون في إمكان عدنان خاشقجي مراقبة ضيوفه رفيعي المستوى من العرب وغير العرب، بشكل مباشر. أقام عدنان خاشقجي علاقات وطيدة بالرئيس جعفر النميري منذ سبعينيات القرن الماضي. وفي أواخر السبعينيات أخبر خاشقجي صديقه وشريكه في كثير من المشاريع الاقتصادية والصفقات التجارية يعقوب نمرودي، أن وضع الرئيس النميري في داخل السودان خطير ويثير القلق، وأن الأميركيين لا يقدمون له المساعدة المرجوة، والسعوديون يصدونه. وكان كل ما تمكن الأميركيون من استخلاصه من السعوديين هو تمويلهم شراء طائرات (أف-5) التي كانت حاجة النميري إليها أقل من جميع الأمور الأخرى. فجميع خطط التنمية الاقتصادية الكبيرة لا تنفذ، وعلاوة على ذلك، ينبغي الاهتمام فوراً بحصول النميري على فريق أمني أميركي يستقر في الخرطوم، لحفظ أمنه الشخصي. وذكر يعقوب نمرودي أن عدنان خاشقجي من أجل مساعدة جعفر النميري والسودان، نظم في العام 1979م زيارة لأصدقائه وشركائه الإسرائيليين إلى الخرطوم. فقد دعا عدنان خاشقجي خمسة إسرائيليين من مخضرمي الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إلى الخرطوم للقاء جعفر النميري هم: يعقوب نمرودي وديفيد كمحي وآل شفايمر ورحافيه فاردي وهانك غرينسبان. وفور وصولهم إلى الخرطوم من نيروبي، اجتمعوا بالرئيس نميري. الهدف من هذه الزيارة كان إقامة علاقات اقتصادية بين إسرائيل والسودان. ووصف يعقوب نمرودي شعوره هو وشعور زملائه عند اجتماعهم مع النميري بقوله: كنا وكأننا في حلم، كان من الصعب أن نصدق أننا في السودان، في قصر أحد الحكام العرب المعروفين الذي كان يكرر ترحابه بنا ويقدم لنا الطعام، ويحدثنا ويحضنا على القيام بمشاريع مشتركة معه. وأضاف أن جعفر النميري أخبر ضيوفه الإسرائيليين بحاجته إلى المساعدة لتطوير اقتصاد بلاده. وأنه طلب إقامة علاقات اقتصادية مع إسرائيل بشكل دائم. بعد عودة يعقوب نمرودي والوفد المرافق له إلى إسرائيل من الاجتماع مع النميري، بادرت إسرائيل إلى عقد اجتماع رسمي وسري بين نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية يغال يدين والرئيس نميري. وفعلاً عقد هذا الاجتماع بين النميري ويدين في نيويورك، وجرى في جو ودي، وتم فيه وضع الأسس للتعاون بين إسرائيل والسودان في المستقبل. منذ أن أصبح وزيراً للدفاع في إسرائيل، سعى أريئيل شارون إلى التأثير في السياسة الخارجية والأمن الإسرائيلية ونقلها نقلة نوعية جديدة. واعتقد شارون أن منطقة النفوذ الإسرائيلية ومصالحها الحيوية تتعدى دول المواجهة العربية، وتتسع في الشرق لتصل إلى الباكستان، وتمتد في أفريقيا من شمالها إلى وسطها. وفي سياق سعيه لتحقيق سياسته، وصل شارون إلى نيروبي في كينيا، ومنها أقلته مباشرة هو ومرافقيه طائرة خاصة يمتلكها عدنان خاشقجي إلى مزرعته في كينيا القريبة من الحدود التنزانية. وكان في انتظار شارون في المزرعة الرئيس جعفر النميري ورئيس المخابرات عمر محمد الطيب وكل من عدنان خاشقجي ويعقوب نمرودي وآل شفايمر. وفي الاجتماع الذي جرى بين شارون والرئيس جعفر النميري وافق النميري على غض الطرف عن هجرة اليهود الفلاشا من إثيوبيا إلى إسرائيل عبر السودان، لقاء مبالغ مالية. كما وافق النميري على السماح بتخزين سلاح إسرائيلي في السودان لمصلحة قوى إيرانية كانت تخطط، بمساعدة إسرائيل وعدنان خاشقجي، للقيام بعمليات عسكرية ضد نظام الخميني في إيران. ووافق النميري أيضا على السماح لإسرائيل بتدريب هذه القوى الإيرانية على الأراضي السودانية. بيد أن مشروع شارون المشترك مع خاشقجي لم ينفذ لخلافات إسرائيلية داخلية بين شارون وفئات مناوئة له في أجهزة الأمن والحكومة الإسرائيلية. سعت إسرائيل في أواخر سبعينيات القرن الماضي لتهجير اليهود الفلاشا من إثيوبيا إلى إسرائيل. ومن أجل تحقيق ذلك، تفاوضت إسرائيل في البداية مع الحكومة الإثيوبية بخصوص تهجير مواطنيها الفلاشا إلى إسرائيل، بيد أن هذه المفاوضات لم تسفر عن نتائج ملموسة ومرضية. وفي العام 1979م، طلب رئيس الحكومة الإسرائيلية مناحيم بيغين من رئيس مصر أنور السادات السعي لدى الرئيس جعفر النميري من أجل السماح لليهود الفلاشا بالهجرة من إثيوبيا إلى إسرائيل عبر السودان. وقد استجاب السادات لهذا الطلب، وحصل على موافقة النميري المبدئية، شريطة أن يجري ذلك بسرية تامة. في بداية العام 1980م، وصل إلى الخرطوم مسئول في جهاز الموساد واجتمع مع عمر محمد الطيب رئيس المخابرات ومسئولين آخرين. واتفق المسئول في الموساد مع المسئولين السودانيين على مرور الفلاشا من أراضي السودان إلى كينيا ومن ثم إلى إسرائيل. واستمر تهجير اليهود الفلاشا من طريق السودان إلى إسرائيل، إلى أن ذاع الخبر في وسائل الإعلام العالمية، ما أدى إلى وقف عمليات الهجرة. في العام 1981م أقام جهاز الموساد بالتعاون مع السي. آي. إيه، شركة سياحية، لاستعمالها غطاءً لتهريب اليهود الفلاشا الذين كانوا قد وصلوا إلى السودان من إثيوبيا. وقد استأجرت هذه الشركة قطعة أرض سودانية تقع على البحر الأحمر، وسرعان ما أصبحت قطعة الأرض هذه قاعدة للموساد ووحدات من كوماندو البحرية الإسرائيلية. وهرب جهاز الموساد من خلال هذه القاعدة ألفين من اليهود الفلاشا إلى إسرائيل من طريق البحر الأحمر. في إثر تزايد أعداد اليهود الفلاشا الذين وصلوا إلى السودان من إثيوبيا، طلبت الحكومة الإسرائيلية مباشرة من الرئيس النميري، وبوساطة الولايات المتحدة الأميركية أيضاً، نقل يهود الفلاشا بالطائرات من الخرطوم إلى إسرائيل. وقد قبل الرئيس النميري الاقتراح الإسرائيلي، بعد وضع جهاز الموساد في حسابه وحساب بعض المقربين إليه، 60 مليون دولار في عدد من بنوك أوروبا، وخاصةً في سويسرا ولندن، وكذلك بعد أن التزمت الولايات المتحدة الأميركية بتقديم 200 مليون دولار دعما للسودان. وبناء على هذا الاتفاق أقلعت من الخرطوم منذ 21 نوفمبر 1984م وحتى الأسبوع الأول من يناير 1985م، خمس وثلاثون طائرة كبيرة محملة باليهود الفلاشا إلى بروكسل- بلجيكا، كانت تمكث فيها ساعتين للتزود بالوقود ثم تكمل رحلتها إلى إسرائيل. في الأسبوع الأول من يناير 1985م، كشف رئيس قسم الهجرة والاستيطان في الوكالة اليهودية، في مقابلة مع مجلة المستوطنين (نقوداه) تفصيلات عملية موشيه، وهي التسمية التي أطلقت على رحلات نقل اليهود الفلاشا من السودان إلى إسرائيل مرورا بجنيف- سويسرا. وفي إثر ذلك، تناقلت وكالات الأنباء العالمية هذا الخبر، ما حدا برئيس الحكومة الإسرائيلية شمعون بريس، إلى عقد مؤتمر صحافي ليتبنى رسميا عملية موشيه. وفي الخامس من يناير 1985م، أي بعد يومين من المؤتمر الصحافي لشمعون بريس، أخبرت الحكومة السودانية الإدارة الأميركية أنها قررت وقف العملية لانفضاح أمرها. وبقي في السودان بعد وقف العملية ما يقارب ألف يهودي من الفلاشا. وفي مارس 1985م، وفي أعقاب ضغط الإدارة الأميركية، وافق الرئيس جعفر النميري على نقل ما تبقى من اليهود الفلاشا إلى إسرائيل بطائرات أميركية.
(4)
بدأت الاتصالات بين إسرائيل وحركة التمرد في جنوب السودان في العام 1963م وإلى العام 1972م، واجتمع كثير من القادة والناشطين الجنوبيين مع مسئولين إسرائيليين في السفارات الإسرائيلية في أوغندا وإثيوبيا وتشاد والكونغو وكينيا. وقد تعززت هذه الاتصالات والعلاقات وتعمقت خلال حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل 1968- 1970م. ورغم أن الملفات المتعلقة بالتدخل الإسرائيلي في جنوب السودان في تلك المرحلة محكمة الإغلاق في الأرشيف الإسرائيلي، لكن جوزيف لاغو، قائد حركة أنيانيا التي قادت حركة التمرد في جنوب السودان في تلك الفترة، والنائب الأول السابق لرئيس الجمهورية السوداني، كشف في مقابلة له مع صحيفة (هاآرتس) الإسرائيلية بتاريخ 17 يناير 2011م، النقاب عن خلفيات التدخل الإسرائيلي وبداياته وأبعاده في دعم التمرد في جنوب السودان في تلك الفترة. وفقاً لحديث لاغو فقد اجتمع هو في بداية العام 1969م مع سفير إسرائيل في كمبالا وسلمه رسالة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية حينئذ ليفي أشكول. وشدد جوزيف لاغو في رسالته على المصالح المشتركة بين إسرائيل وحركة التمرد في جنوب السودان وفي مقدمتها الحرب ضد العرب. وعلى أرضية المصالح المشتركة، طلب جوزيف لاغو في رسالته مساعدة عسكرية من إسرائيل إلى حركة أنيانيا. وأشار إلى أنه إذا أمدت إسرائيل حركة أنيانيا بالسلاح فإنها ستشن الحرب ضد الجيش السوداني وستعمل على مشاغلته وإزعاجه، الأمر الذي يؤدي إلى منعه من دعم مصر والدول العربية الأخرى في حربها ضد إسرائيل. ولكن رئيس الحكومة الإسرائيلية ليفي أشكول توفي في فبراير من نفس العام قبل أن يستلم رسالة جوزيف لاغو، وحلت محله غولدا مائير التي قامت بدورها بدعوة جوزيف لاغو إلى زيارة إسرائيل. لبى جوزيف لاغو الدعوة، وخلال زيارته إسرائيل اجتمع مع غولدا مائير في مكتبها في القدس، ومع مسئولين إسرائيليين آخرين، وزار عدداً من القواعد العسكرية الإسرائيلية، واتفق مع المسئولين الإسرائيليين على صفقة تقوم إسرائيل بموجبها بتزويد حركة أنيانيا بالأسلحة وبتدريب مقاتلي الحركة عسكرياً في إسرائيل. وبعد هذه الزيارة بفترة وجيزة، شرعت إسرائيل في تزويد حركة أنيانيا بأنواع مختلفة من الأسلحة على متن طائرات نقل إسرائيلية، قامت بإيصالها إلى مدينة جوبا في جنوب السودان من طريق أوغندا. وشملت هذه الشحنات أسلحة كثيرة ومتنوعة من بينها المدفعية والصواريخ المضادة للدبابات وأسلحة رشاشة وأسلحة خفيفة، وهي أسلحة كانت إسرائيل قد غنمتها من الجيوش العربية في حرب 1967م. وأشار جوزيف لاغو في مقابلته مع (هاآرتس) إلى أن إسرائيل لم تزود حركة أنيانيا بأسلحة مصنوعة في إسرائيل أو أسلحة غربية حديثة، كي لا يتم كشف مساعدتها لتمرد جنوب السودان. ومع بداية وصول شحنات الأسلحة الإسرائيلية إلى جنوب السودان، وصل أيضاً مستشارون عسكريون إسرائيليون وانضموا إلى قواعد المتمردين. وذكر جوزيف لاغو أن السلاح الذي حصلت عليه حركة أنيانيا من إسرائيل غير موازين القوى وعزز مكانة الحركة، وبات يحسب حسابها في الصراع. استمرت إسرائيل في تزويد حركة أنيانيا بالسلاح، برحلات جوية من أوغندا إلى جنوب السودان حتى العام 1972م. وفي ذلك العام، غير رئيس أوغندا عيدي أمين سياسته المساندة لإسرائيل وقطع علاقات بلاده معها وأغلق سفارتها في كمبالا وطرد جميع الإسرائيليين من أوغندا، بمن فيهم كثير من المستشارين العسكريين. وأدى ذلك إلى وقف إسرائيل استعمال أوغندا طريقاً لتزويد حركة التمرد في جنوب السودان بالسلاح. وكانت هناك طريق أخرى أمام إسرائيل، وهي نقل الأسلحة جواً بطائرات تمر في الأجواء الإثيوبية ومن ثم إلى كينيا ومنها إلى جنوب السودان، بيد أن هذه الطريق كانت أكثر تكلفة وخطراً. وجاء توقيع الحكومة السودانية في سنة 1972م مع حركة التمرد في جنوب السودان اتفاقية أديس أبابا ليوقف بموجبها التمرد في جنوب السودان. وفي أعقاب هذه الاتفاقية أسرع جوزيف لاغو إلى العاصمة الكينية نيروبي لشرح الوضع الجديد للإسرائيليين الذين أزعجتهم اتفاقية السلام ووقف التمرد.
(5)
ومنذ سنوات قليلة‮ ‬مهدت إسرائيل‮ ‬لموضع قدمها الحقيقي في جنوب السودان فكان إنشاء مكتب التنسيق‮ الإسرائيلي في جوبا‮ ‬الذي مهد للاعتراف رسميا بالدولة صباح اليوم التالي‮ ‬لإعلان استقلالها‮ ولتكن إسرائيل‮ ‬من أوائل‮ ‬المعترفين‮ بالدولة الجنوبية‮ ‬بعد السودان الشمالي ومصر وأمريكا‮. وقبل ذلك شجعت تل أبيب الآلاف‮ ‬من أهالي جنوب السودان على الهجرة لإسرائيل‮ (أرض الميعاد‮) ‬بكافة الطرق الشرعية وغير الشرعية وبالفعل تم نقل معظمهم من مطار جوبا عاصمة الجنوب وعبر دولة ثالثة للاستقرار هناك‮. ‬وبعد قيام الدولة في الجنوب تم إعادة بعضهم ولكن بصورة مباشرة هذه المرة وعبر طيران الشركة الوطنية الإسرائيلية‮ (‬العال‮) ‬للاستقرار مرة أخرى في الجنوب. وفي المقابل‮ ‬تحرك رجال الأعمال الإسرائيليون واليهود للاستثمار في جنوب السودان وبالفعل أعلن بعضهم نيته عن‮ ‬إقامة مشاريع استثمارية اقتصادية وسياحية أسوة بما يحدث في كينيا المجاورة وعدد من دول القرن الأفريقي‮.‬ وتم الإعلان بصورة نهائية عن إقامة مشروع لفندق سياحي عملاق في جوبا وإنشاء مكتب للسمسرة المالية والتجارية هناك‮.‬ وبعد اعتراف إسرائيل بالدولة الوليدة بعد ساعات قليلة من قيامها‮ ‬سارعت وكالة‮ (إسرائيد‮)، وتضم عدة منظمات للإغاثة الإسرائيلية واليهودية ومنظمات أهلية‮، ‬بتقديم مساعدات إنسانية عاجلة للجنوب وتؤكد في ذلك أنها تسعى لإقامة علاقات وطيدة مع أهالي الجنوب وأن ما تقدمه من مساعدات ليس إلا بادرة لحسن النوايا ونيابة عن الشعب الإسرائيلي كله الذي يتطلع للشراكة مع جنوب السودان‮.‬ وبنفس المنطق‮ سارعت إسرائيل ومنذ سنوات ليست بالقليلة بإرسال المئات‮ من خبرائها في العديد من المجالات الاقتصادية للعمل في الجنوب وأغلبهم وأفضلهم في مجالي‮ ‬الزراعة والمياه‮.‬ وتنشط عدة شركات للمقاولات الإسرائيلية في جوبا وما حولها لإقامة البنية الأساسية للدولة الوليدة وعبر مساعدات أمريكية وأوروبية ودولية ويهودية عالمية‮. وكانت الحكومة الإسرائيلية وحكومة جمهورية جنوب السودان أعلنتا عن إقامة علاقات دبلوماسية بين الدولتين، على أن يتم بحث الجوانب العملية للعلاقات، بما في ذلك اعتماد السفراء، خلال الفترة القادمة عبر القنوات الدبلوماسية القائمة. وأعلنت دولة جنوب السودان، وإسرائيل أنهما تريدان تطوير علاقاتهما على الصعيدين الاقتصادي والدبلوماسي، وذلك بمناسبة أول زيارة يقوم بها إلى جوبا وفد إسرائيلي في 21 يوليو 2011م بعد أقل من أسبوعين على إعلان قيام الدولة رقم 193 في العالم، بحسب ما ذكر الموقع الرسمي لجنوب السودان. وبحسب الموقع، فإن رئيس جنوب السودان سلفا كير أجرى محادثات مع وفد إسرائيلي برئاسة نائب رئيس الكنيست داني دانون. وقال وزير شئون رئاسة جنوب السودان دينق ألور إن حكومته ستقوم بتسمية سفيرها لدى إسرائيل في الأيام المقبلة وستفتتح لها سفارة في تل أبيب، بينما ستقوم إسرائيل بافتتاح سفارة لها في جوبا. وأضاف في تصريحات صحافية أن مجالات التعاون بين الطرفين ستشمل المجال الزراعي. وكشف عن لقاءات للوفد بوزير الزراعة والغابات ووزراء النفط والتعدين والطرق والجسور بحكومة الجنوب. موضحا أن العلاقات مع إسرائيل ستشمل الجوانب الدبلوماسية والاقتصادية. ومن جهته قال نائب رئيس الكنيست الإسرائيلي داني دانون، إن إسرائيل ستساعد جمهورية جنوب السودان لتتمكن من بناء اقتصادها لتكون صديقا حقيقيا لها في بناء الديمقراطية في أفريقيا. وقال دانون إن إسرائيل مستعدة لتطوير كل العلاقات الثنائية بين البلدين. وكشف دانون في تصريحات بالقصر الرئاسي الجنوبي عقب اجتماعه مع رئيس جنوب السودان سلفا كير أن إسرائيل ستتعاون مع جنوب السودان في مجالات الزراعة والعلوم والتكنولوجيا. وأعلن أن إسرائيل وجهت دعوة رسمية لرئيس جنوب السودان لزيارة تل أبيب. وكان وزير الإعلام في دولة جنوب السودان برنابا مريال بنجامين صرح بأن علاقة بلاده مع إسرائيل لن تؤثر على علاقاتها مع الخرطوم أو الدول العربية. وأشار الوزير في حوار مع صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية إلى أن عددا من العواصم العربية يقيم علاقات مع تل أبيب. وقال أن علاقتهم مع إسرائيل يمكن أن تصبح لصالح السلام في المنطقة. ونفى أن تكون العلاقة بين جنوب السودان وإسرائيل تشمل أي تعاون عسكري أو أمني. وقال إنها علاقات طبيعية توجد مع كل الدول في إطار العلاقات الدبلوماسية والسياسية والمصالح المشتركة. وقال أن لديهم علاقات قوية جدا مع الدول العربية خاصة مع مصر وبعض دول الخليج مثل السعودية والإمارات والكويت. وأكد على أن الاستثمار العربي في جنوب السودان، مهم للغاية، وأن جنوب السودان يستعد لمؤتمر في دبي أواخر هذا العام، برعاية جامعة الدول العربية، وهو مخصص لجذب الاستثمار إلى الجنوب. معتبراً أن علاقتهم ستصبح ممتازة مع الدول العربية في المجالات السياسية والدبلوماسية والتجارية كافة. وقال إن أولويات دولته الجديدة هي تحقيق التنمية وخلق علاقات جيدة مع الشمال وليس إشعال الحروب. وكان وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان قال في بيان له أن التعاون بين البلدين سيبنى على الأسس المتينة التي يسترشدان بها في إقامة علاقات ود وتكافؤ واحترام متبادل. وسبق أن عبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن رغبته في إقامة هذه العلاقات خلال تصريحات تزامنت مع إعلان دولة جنوب السودان. يشار إلى أن مجموعة من رجال الأعمال الإسرائيليين والخبراء في عدة مجالات وصلت إلى جوبا عاصمة جنوب السودان، بالتزامن مع الوفد الرسمي لغرض استكشاف إمكانيات الاستثمار هناك مع القيادة الرسمية. وعلم أن من بين المجالات التي طرحت للتعاون، ما يتعلق بالقضايا الأمنية مثل التدريب العسكري والاستخباري وتوفير الحراسة لمؤسسات تجارية وحكومية وغيرها. وقد بادرت إلى هذا التعاون منظمة (الطاقم الإسرائيلي لتقديم المساعدات الإنسانية) التي تمولها التنظيمات اليهودية في كندا. وهي المنظمة التي قامت بنشاط منظم في جنوب السودان، قبل انفصال الجنوب، وبمعرفة من حكومة الوحدة الوطنية. وهي التي بدأت في إرسال مساعدات غذائية وطبية، منذ مطلع يوليو مع إعلان الاستقلال في جنوب السودان.
(6)
استعرضنا فيما سبق الملامح التاريخية للتوغل الإسرائيلي في شئون السودان وصولاً إلى دعم انفصال جنوب السودان عن الدولة الأم. هذا التدخل لم يقتصر على ما سبق فهناك تربص ملحوظ ما انفك في المنظمات الدولية وفي المؤسسات الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية كالكونغرس مثلاً، يعمل بإصرار على محاصرة السودان والتوجه الإسلامي لحكومته كحال جمهورية إيران الإسلامية. لكن بذات القدر وكما ورد في المصادر الدراسية التي استعنا بها في هذه المساحة فإن الانقسامات الكثيرة في السودان والصراعات على السلطة التي احتدمت فيه، وخاصة في شماله، من دون أن تتطور أو تتبلور آليات لحل هذه الصراعات والتناقضات على أرضية وطنية، فتحت الباب أمام التدخل الإسرائيلي في السودان. وفي كل مرحلة من مراحل التدخل الإسرائيلي في السودان، جيرت إسرائيل تدخلها لخدمة أهدافها الإستراتيجية لقاء تقديمها المال أو الرشا للنخب السودانية الشمالية التي تعاملت مع إسرائيل. ففي الخمسينيات من القرن العشرين، أسست إسرائيل هذا التدخل على أرضية العمل ضد مصر بقيادة عبد الناصر. وقد قطع قادة حزب الأمة السوداني في تلك الفترة شوطاً طويلاً في هذا التحالف مع إسرائيل ضد مصر، قبل العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956م وفي أثنائه وبعده. وفي أواخر السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات، أقامت إسرائيل علاقات قوية بالرئيس جعفر النميري ونظامه، إلى درجة سماح النميري لإسرائيل ليس بتهجير عشرات آلاف اليهود الفلاشا من الأراضي السودانية إلى إسرائيل فحسب، وإنما سماحه بإقامة قاعدة لجهاز المخابرات الإسرائيلية الموساد في الخرطوم. أما في شأن دعم إسرائيل لحركة التمرد في جنوب السودان فإنها أخضعت هذا الدعم لمصلحتها. فعندما كان دعم التمرد يخدمها، كما كان الأمر عليه في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، أو لاحقاً في التسعينيات، فإنها دعمته، ولكن عندما كان هذا الأمر لا يخدمها، لوجود خادم لها في رأس السلطة في السودان، كما كان الوضع عليه في أواخر السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات، فإن إسرائيل أبت أن تقدم الدعم للتمرد في جنوب السودان. الجنرال الإسرائيلي رئيس المخابرات السابق عاموس يدلين أوضح في 2010م عند تسليمه مهامه لخلفه أن رجاله أنجزوا عملاً كبيرا في جنوب السودان وقد اتجه بالفعل إلى الانفصال، لكن الخطير في حديث يدلين قوله إن هناك شبكات لا تزال تعمل بفاعلية ويتوقع إنتاجها لسنوات طويلة، ليس في جنوب السودان وحده وإنما في دارفور أيضاً. من ذلك ما قال به وزير الدفاع الأسبق آفي ديختر أن إسرائيل كان ‬حرصها على التوغل في جنوب السودان الذي يتمتع بثروات نفطية ضخمة وبثروات مائية لا غنى عنه بما يمكن‮ ‬الاستفادة منها عن طريق‮ ‬بناء السدود وإقامة المشاريع المائية وبالتالي مضايقة‮ مصر والتضييق على دورها الأفريقي‮.‬ ليس ذلك فحسب وإنما ‬أن تقوم إسرائيل عن طريق رجالها‮ ‬هناك برصد التحركات الإيرانية خاصة في شمال السودان التي‮ ‬تحمل أسلحة‮ ‬من إيران للمقاومة الفلسطينية‮ في‮ ‬غزة‮. ولذا فإسرائيل أدركت الأهمية الإستراتيجية التي تمثلها دولة جنوب السودان بالنسبة لها، لذا شرعت في مخططاتها مبكراً لتوطيد علاقاتها مع الدولة الإفريقية الجديدة. وفي هذا الإطار دعت دوائر اقتصادية يهودية الشركات الإسرائيلية إلى ضرورة الإسراع للاستثمار في جنوب السودان ونشرت قائمة- وزعت على كبرى الشركات اليهودية- صادرة عن الأمم المتحدة بالمجالات التي يمكن الاستثمار فيها، خاصة وأن الأمم المتحدة قد خصصت مبلغ 30 مليار دولاراً لعام 2011م فقط لتطوير البنية التحتية للدولة الوليدة في جنوب السودان. أما السفير الإسرائيلي الأسبق في القاهرة تسيفي مزائيل فقد أحصى في ورقته العقبات التي ستعترض جنوب السودان وفي مقدمها عدم التوقيع مع الشمال على أتفاق نهائي بشأن النفط المستخرج من إقليم أبيي ولهذا فأنه من المنتظر أن تواجه دولة الجنوب أيام صعبة خاصة وأن نحو 98% من أجمالي موارد الدولة يعتمد في الأساس على النفط في إقليم أبيي وهو ما يعني أنه بدون النفط فلن يتمكن جنوب السودان من دفع عجلة الاقتصاد والإنفاق على المواطنين، وأن عدم التوقيع على أتفاق بهذا الشأن أمر من شأنه أن يدفع الجانبين للدخول في مواجهة. كما وأنه حتى الآن لم يتم ترسيم الحدود بين الجانبين ولا زال الأمر محل خلاف بين الطرفين خاصة وأن هناك تنازع على إقليم أبيي الغني بالنفط عند المنطقة الحدودية، مشيراً إلى أن الأشهر الماضية شهدت اشتباكات مسلحة بعد دخول جيش الشمال إلى المنطقة وقيامه بطرد قوات حركة تحرير جنوب السودان وعناصر السلطة المحلية المتواجدين في المنطقة حتى نجحت بعض الدول الإفريقية المجاورة في التدخل وإنهاء الاشتباكات بعد جهود ووساطات والاتفاق على نشر قوات إفريقية من ضمنها 4200 جندي أثيوبي لحفظ السلام والأمن لكن هذا الأمر ليس سوى حل مؤقت يستلزم وضع حل دائم لعدم تجدد الاشتباكات بين الجانبين. كما أن الجنوب ذاته يشهد صراعات بين مجموعات أثنية مختلفة أقواها عناصر الجيش الشعبي لتحرير جنوب السودان التي تسيطر على مقاليد الأمور في الجنوب وتتحكم في الجيش وعلى هذا الأساس يبقى سؤال يتعلق بمدى ما يمكن أن يقدمه الرئيس سلفا كير للمواطنين من ديمقراطية أم يجد سكان الجنوب أنفسهم محكومين بديكتاتور مثلما هو الحال في سائر البلاد الإفريقية رغبة منه في البقاء حاكماً لدولة الجنوب وهو ما يعني أنه لو حدث ذلك فستكون البلاد عرضة للدخول في موجات من الفساد والانهيار الاقتصادي. أما شمال السودان برئاسة عمر البشير فقد يجد نفسه مستقبلاً أمام مشكلة كبيرة وهي الاستمرار في القبول بدولة الجنوب التي قامت رغماً عن إرادته وعن إرادة الإسلاميين الذين يحكمون البلاد ويرون أن ما حدث هو احتلال لأراض سودانية. وأكد مزائيل أن إسرائيل ليست بعيدة عن مسألة إعلان دولة مستقلة في جنوب السودان بل تتطلع لعلاقات قوية مع هذه الدولة كما أن مسئولين كبار في دولة جنوب السودان سبق وأن أكدوا أن بلادهم تتطلع لعلاقات قوية مع إسرائيل وأنهم لا يرون في إسرائيل عدو وعلى هذا الأساس فإن المصالح المتبادلة بين الطرفين تقضي بالدخول في علاقات قوية خاصة في المجال الاقتصادي وكذلك استغلال قدرات إسرائيل وخبرتها في مجال المياه كما ستتعاون إسرائيل مع دولة جنوب السودان في دفع علاقاتها بدول العالم، كما فعل مؤخراً النائب الإسرائيلي أيوب القرا، عندما عمل على تدشين العلاقات بين نيجريا ودولة جنوب السودان. لكن جمهورية جنوب السودان من شأنها أن تواجه مشاكل وصعاب وأزمات معقدة مع شمال السودان وكذلك يتهددها مخاطر تمزق داخلي وصراعات سياسية كما ينتظر أن تواجه أزمات اقتصادية طاحنة وهو ما يعني أن هذه الدولة ستكون في حاجة سريعة لمعالجة كافة المشاكل التي تطفو على السطح قبل أن تمس بمواطنيها. معرباً عن أن إسرائيل من جانبها تتمني لهذه الدولة الوحيدة أن تتغلب على الصعوبات التي قد تواجهها وأن تكون أحدى الدول الرائدة في أفريقيا وأن يكون لها دور رئيسي في المجتمع الدولي، مبدياً استعداد إسرائيل الوقوف إلى جوارها للتغلب على العراقيل التي تواجه استقرارها وبخاصة من جانب النظام العربي في دولة السودان. ما سبق كان عن جنوب السودان وعلاقاته المستقبلية مع السودان الأم والمخاطر التي تواجه استقلاله وهكذا، لكن تطورا آخرا ذا بعد إضافي تمثل في الغارة الجوية التي استهدفت سيارة مدنية بمنطقة كلانييت وهي في طريقها لميناء سواكن. وبينما قطعت المصادر الرسمية بمسئولية دولة إسرائيل عنها خاصةً وأن الدوائر الرسمية في إسرائيل ألمحت بتحملها المسئولية وبخاصة أيضاً وأنها ليست العملية الأولى التي تنفذها إسرائيل، إذ شهد العام الفائت حادثاً مماثلاً بقصف طائرات لقافلة سيارات قرب الحدود السودانية- المصرية، إلا أن الحادث الأول كان مسرحه أرض حدودية في حين أن الحادث الأخير لم يكن كذلك. لكن دلالات القصف الإسرائيلي للسيارة استدعى مراجعات في الأولويات العسكرية والأمنية بعد انفصال الجنوب عن الشمال والتهديد الإسرائيلي المباشر للأمن السوداني في منطقة البحر الأحمر وغيرها من مناطق السودان خاصةً الطرفية منها. مَن راجع؟، الحكومة وأجهزتها، لا علم لنا ولا أحد بمقدوره أن يقطع بذلك وفق أسانيد واضحة؟. لكن مركز بحثي رصين تصدى لهذه المهمة وأنجز دراسة سعت لوضع إطار عام لما يمكن عمله فماذا قالت الدراسة؟.
(7)
رأت الدراسة عن (الوجود الأجنبي في البحر الأحمر وتأثيره على الأمن القومي السوداني) كشف عنها في أبريل 2010م أن الغارة الإسرائيلية هدفت بشكل مباشر إلى تثبيت أن السودان يرعى المنظمات الإرهابية الأمر الذي يحول دون رفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإظهار القوة العسكرية والفاعلية الاستخبارية الرادعتين، وإثبات مقدرتها في المنطقة باعتبارها القوة التي لا تُقهر، حتى يأخذ اليأس مبلغه في الأمة العربية والإسلامية. ولم تستبعد هدفاً أصلياً لإسرائيل يتوارى خلف الهدفين السابقين وهو لفت نظر الحكومة السودانية وتركيز ثقلها العسكري والأمني وصرفها المادي لتأمين الشرق في الفترة القادمة بينما يكون هناك سيناريو آخر لتصعيد الأنشطة العسكرية في جبهات القتال الأخرى كدارفور، ومناطق التماس مع السودان الجنوبي، وأبيي، وذلك لإضعاف قدرات الحكومة. فضلاً عن النيل من هيبة الحكومة والعمل على إحراجها داخلياً، وخفض الروح المعنوية وزعزعة ثقة المواطنين في النظام، وذلك بإثارة العديد من الأسئلة من قبيل: أين تذهب ال70% من ميزانية الدولة الموجهة للأمن والدفاع على حساب الصحة والتعليم؟، وأين ذهب الصرف الذي تم على الطائرة بدون طيار؟، وما جدوى التمارين الليلية التي تمت بواسطة القوات الجوية (فجر)؟، وغيرها من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات مقنعة. وخلصت الدراسة إلى أن الأمن القومي لأية دولة بما أنه هو مجموعة السياسات والإجراءات التي تتخذها الدولة في حدود طاقاتها وإمكانياتها للحفاظ على كيانها ومصالحها واستقرارها اللازم لتنمية المجتمع وتقدمه وازدهاره، ودرء الأخطار والتهديدات الداخلية والخارجية في الحاضر والمستقبل، مع استمرار تطوير تلك الإجراءات على ضوء المتغيرات القومية والإقليمية والعالمية وفي ظل حماية مضمونة، فإن من الطبيعي أن تؤثر مثل تلك الأحداث على الأمن السوداني لأنها تمس جزء من نشاط الدولة مساً مباشراً له تداعياته الآنية والمستقبلية إذا تكررت ولم تجد معالجة. فقد مثلت حادثة بورتسودان تهديداً خارجياً بغية النيل من السودان وإرادته والنيل أيضاً من هيبته. وبينما لم تجد في علاقات إسرائيل السابقة ببعض الأطراف السودانية في جنوب السودان وغيره في الشمال كحزب الأمة، وكذلك العلاقات المستقبلية المتوقعة مع بعض الأطراف في دارفور كحركة عبد الواحد محمد نور، أي دور في تهديد الأمن القومي للسودان، إلا أن الدراسة أقرت بأن هناك اعتراف بأن النشاط الاستخباري الإسرائيلي في السودان كبير ومتعدد الأوجه، وهو نشاط حاضر وفاعل في مختلف الجبهات في السودان- وقد كشف عنه أمين المنظمات بالحزب الحاكم، د. قطبي المهدي، في تصريحه غداة الضربة الإسرائيلية الجوية، الذي أعلن فيه امتلاك الأجهزة الأمنية قوائم لشبكات التجسس الإسرائيلي في السودان- وهذا النشاط خطير مما يتطلب رصداً دقيقاً وضبطاً للوجود الأجنبي أولاً، والاهتمام بالجانب التخصصي في العمل الاستخباري، ورفع مستوى الوعي الأمني لدى عامة الناس عبر وسائل الإعلام وغيرها. وفي هذا السياق توقعت أن تستمر الضغوط الخارجية على السودان برعاية إسرائيلية من قبل (جماعات الضغط) في أشكال متعددة خاصةً بعد الانتهاء من عملية الانفصال، والتفرغ لقضية دارفور والسعي للانحراف بها لتصل إلى ما وصلت إليه قضية الجنوب اعتماداً على نظرية شد الأطراف المضمنة في الإستراتيجية الإسرائيلية تجاه السودان ودول أخرى. وقد أوصت الدراسة تخصيصاً بأن على الدولة إلى جانب ما سبق من واجبات فإن عليها أيضاً تعزيز الشعور القومي، مشاركة المجتمع في عملية الحفاظ على الأمن القومي للبلاد، وتحصين الجبهة الداخلية وتوحيدها.
(8)
رأينا فيما سبق أنواعاً مختلفة من علاقات التواصل بين إسرائيل والسودان، والطريف أن أحد زملاءنا الصحفيين- تحفظ على الجهر بإسمه- في تعليقه على هذا الملف الشائك (علاقة إسرائيل بالأمن القومي السوداني) يشير إلى نوع آخر من التواصل القديم نسبياً ألا وهو صلة الاعتراف بالدولة الإسرائيلية المغتصبة لفلسطين على الرغم من أن السودان عكف على عدم الاعتراف بالكيان الإسرائيلي بل وأن العاصمة الخرطوم كانت موئلاً لمؤتمر القمة العربي المعروف باللاءات الثلاثة (لا اعتراف، لا تفاوض، ولا صلح) مع إسرائيل في أعقاب نكسة 1967م. يقول الزميل: إن السودان كان معترفاً، إذ يدري أو لا يدري، طيلة الثلاثين سنة الماضية بإسرائيل، إذ تحمل أحدى صفحات جواز السفر السوداني الخاتم الشهير المطبوع عليه (يصلح لكل الأقطار عدا إسرائيل) بما يعني اعتراف صريح بأن إسرائيل قطر من الأقطار. ولكن بتجاوز (فانتازيا) السهو أو الخطأ الرسمي طيلة عقود من الزمان، فهي على أية حال صارت من الماضي إذ أن الخاتم تمت إزالته بقرار من وزير الداخلية قبل عامين وأصبح في حكم العدم، فإن الوجود اليهودي في السودان الحديث قديم قبل قيام الثورة المهدية، وبالمقابل فإن الوجود السوداني في إسرائيل، قديم أيضاً، منذ الأربعينات في حرب فلسطين إلى حرب الخليج 1990م ونزوح العمال السودانيين المهرة من العراق والكويت إلى الأردن ومنها إلى إسرائيل، نهاية بالمتسللين عبر صحراء سيناء المصرية في العقد الأخير هرباً من الحروب في الجنوب ودارفور وجنوب كردفان أو من الأوضاع الاقتصادية الضاغطة والتضييق السياسي الذين وسما حقبة الإنقاذ. وإذا كان جل هؤلاء الأخيرين من مواطني السودان الجنوبيين سابقاً، فإن نسبة لا يستهان بها قدرتها جماعات السلام وناشطي حقوق الإنسان بداخل إسرائيل نفسها، ببضع آلاف، هم من دارفور وجبال النوبة وحتى من أم درمان والخرطوم ومدني وقرى وحضر شمال السودان. فما هي الرؤية الإستراتيجية للدولة السودانية حيال رعاياها هؤلاء؟، وكيف ستستفيد منهم مستقبلاً في صراعها المعلن مع العدو الإسرائيلي؟، أو كيف ستحيد هذه العناصر من هذا الصراع حتى لا يستخدموا من الجانب الآخر؟؟. وإذا كانت المصادر التاريخية ثبتت أن حزب الأمة السوداني في سياق صراعه الداخلي مع الأحزاب الاتحادية في الخمسينات التجأ إلى الخارج وإلى إسرائيل تحديدا تحت تأثير طاغ من أن مصر هي من تدعم التوجه الاتحادي، فإن حزب الأمة نفسه واجه عاصفة مدوية في السنوات الأخيرة بإتهامه بالتطبيع مع إسرائيل. ولكن قبل ذلك، نطالع معاً ما عثرنا عليه من إفادات قال بها الباحث السوداني المثير للجدل د. صلاح البندر (مثير للجدل فهو سوداني الأصل بريطاني الجنسية ويحمل جنسية ثالثة لدولة خليجية عمل فيها مستشاراً لملكها لكن نزعت منه الجنسية في اتهام بفساد مالي لم يثبت بحقه فطرد من الدولة فعاد إلى بريطانيا)، يقول بأن أصابع الموساد قد ظهرت في السودان بتورط نافدين لحزب الأمة في سنوات الديمقراطية الثالثة، النصف الثاني من عقد الثمانينات، في الفضيحة التي أطلقت عليها الصحف مسمى فضيحة (الكبايات) إذ نشرت الصحف وقتها أن مئات الآلاف من أطنان السمسم والصمغ العربي وحب البطيخ تم نقلها إلى إسرائيل وظهرت في الخرطوم أواني منزلية تم استيرادها من إسرائيل لحساب أحد أعضاء مجلس السيادة وقتها. ووفقا للمصدر السابق ففي الأيام الأولى للانتفاضة (1985م) وجدت لجان التحقيق في مخالفات جهاز أمن الدولة وكان يترأس إحداها (العقيد) وقتها عمر حسن أحمد البشير- المشير رئيس الجمهورية الحالي- عددا من الضباط الإسرائيليين في السجون واكتشفوا أنهم ضباطا كبارا في الموساد كانوا في الخرطوم يشرفون على ترحيل الفلاشا. ولكن بعد مجيء الإنقاذ توسط رجل الأعمال البريطاني تايني رولاند وتم إطلاق سراحهم بلا مقابل إذ أن حسابات الإنقاذ وقتها أن تساعدهم الصفقة في إبعاد الدعم الإسرائيلي من جون قرنق، وكذلك المساعدة في فك الحصار الأمريكي عن الحكومة وكذلك لخوفها أن ينحاز المليونير البريطاني من أصل يهودي تايني رولاند إلى جانب المتمردين. وكانت فحوى الصفقة أن تتطور المفاوضات السرية بين الخرطوم وتل أبيب برعاية رولاند إلى أتفاق يستفيد عبره السودان من الخبرة الإسرائيلية في إنشاء السدود على النيل ومن جانبها توقف إسرائيل دعمها للجيش الشعبي وتتوسط لدى أمريكا من أجل تخفيف الضغط الدولي على السودان. وقبل أن نعود إلى إفادات المصدر في المقابلة الصحفية التي أجرتها معه الصحفية المهاجرة إلى بريطانيا سلمى التيجاني ونشرتها لها صحيفة (الرأي العام) السودانية الصادرة في الخرطوم في 2007م، نذهب لننظر بعدها بعام تقريباً حيث أبدت الخرطوم رغبتها في التطبيع مع إسرائيل ضمن خطة شاملة لإصلاح ذات البين مع الولايات المتحدة الأمريكية بحكم علاقة القربى بين أمريكا وربيبتها إسرائيل. إذ ذكرت برقية سربها الموقع الإلكتروني (ويكيليكس) أرسلها دبلوماسي أمريكي إلى خارجية بلاده في يوليو 2008م أن مستشار الرئيس البشير، للشئون الخارجية، د. مصطفى عثمان إسماعيل، قال لمحادثه الأميركي أن أوجه التعاون التي تقترحها الحكومة على الولايات المتحدة تشمل تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وبحسب البرقية التي أرسلت في 29 يوليو 2008م قال مصطفى إسماعيل لدى لقائه ألبرتو فرنانديز مسئول الشؤون الإفريقية بالخارجية الأميركية السابق القائم بالأعمال الأمريكي بالخرطوم وقتها، "إذا مضت الأمور بصورة جيدة مع الولايات المتحدة، قد تساعدوننا في تسهيل الأمور مع إسرائيل الحليف الأقرب لكم في المنطقة". وأبدى إسماعيل في حديثه مع المسئول الأميركي تخوفه من عدم تقدم المفاوضات الثنائية بين السودان والولايات المتحدة الأميركية على الرغم من أن السودان "أبدى تعاونا ومرونة". وبالطبع نفى د. مصطفى، جملةً وتفصيلا، ما أوردته (ويكيليكس) نقلاً عن مخابرة القائم بالأعمال الأمريكي مع رئاسته في واشنطن، لكن ووفقا للبندر فإن الإنقاذ نفسها اتصلت بإسرائيل أكثر من مرة في فترة كانت إسرائيل تستهدف السودان لأنه كان يأوي قيادات حماس، وتوقفت المحادثات لأن الإيرانيين تحفظوا على موقف الترابي لذلك ضغطوا على حماس. فأيام المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي في التسعينات كان الدكتور الترابي يريد لعب دور في المنطقة، ويظهر ذلك في تصريحات الترابي في تلك الآونة، فبينما كان يصف حوار الحكومة مع المعارضة السودانية بالخيانة يدعو العرب للاعتراف بالقرار 242 الذي ينص على الاعتراف بحدود آمنة لإسرائيل. "كان للترابي إحساس بأن الدولة الإسلامية الدينية من السهل أن تتحادث مع دولة ذات طبيعة دينية كإسرائيل". هذا الفهم ظهر مرة أخرى عند المفاصلة بين الإسلاميين نهاية الألفية الثانية، ف"بعد الخلاف الشهير بين الترابي وعلي عثمان سربت الدوائر المعادية له خبر فجأة يتهم علي عثمان بزيارة إسرائيل سرا ونفى النائب الأول الأستاذ علي عثمان ذلك ووصفه بأنه اتهام خبيث يهدف لقطع علاقته بالعرب. وكذلك حاولت الإنقاذ إحراج مولانا الميرغني في أوائل 1995م بتسريبها خبراً بأنه التقى وزير خارجية إسرائيل شمعون بيرس في أسمرا بعد وساطة قام بها يهودييْن من أصل سوداني رافقا مولانا من القاهرة إلى إرتريا وقتها".
(9)
بالعودة إلى حزب الأمة الذي فتح قمقم العلاقة مع إسرائيل في العهد الوطني، ففي سابقة هي الأولى من نوعها في السودان تجاه العدو الإسرائيلي، صافح رئيس حزب الأمة القومي إمام الأنصار الصادق المهدي نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي (وقتها- رئيس دولة إسرائيل الحالي) رئيس حزب العمل شيمون بيرس بالعاصمة الاسبانية مدريد التي استضافت القمة العالمية حول الديمقراطية والأمن والإرهاب. وقالت صحيفة (يديعوت أحرونوت) الإسرائيلية الصادرة في تل أبيب أن بيرس التقى مسئولاً سودانياً سمته ب(الزعيم الروحي للسودان) في إشارة (للصادق المهدي) ضمن بضعة لقاءات استثنائية مع مسئولين عرب من بينهم الرئيس الجزائري بوتفليقة والرئيس الموريتاني ولد الطايع وشقيق العاهل المغربي الأمير مولاي رشيد. وفي الخرطوم اعترف المكتب الخاص للإمام الصادق المهدي في بيان صحفي صادر عنه بمصافحة الصادق المهدي لبيرس، مبيناً أن الإمام لم يلتق بالمسئول الإسرائيلي السابق أي لقاء مباشر ولم تدر بينهما أية مداولات وأن بيرس قد اقترب من الإمام في مناسبة على هامش القمة مصافحاً. وأكد حزب الأمة، رفض زعيمه المهدي للتطبيع مع إسرائيل إلا في إطار حل سلمي عادل يفرض على إسرائيل عبر الإرادة الدولية التي ساهمت في خلق المشكلة بالأساس، وأضاف أن المهدي كثير التنبيه لخطل التطبيع الثنائي أو اللا مشروط، ومعارض له منذ اتفاقية كامب ديفيد. كانت هذه الواقعة في مارس 2005م، وفي الحوار الذي أجرته معه الصحفية المصرية أسماء الحسيني لحساب صحيفة (الأهرام) المصرية ونشرته صحيفة (الصحافة) السودانية بالتزامن بتاريخ 19 مارس 2005م قال السيد الصادق المهدي وهو يجاوب على سؤال (أثارت مصافحتك لشيمون بيرس نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي لغطاً كبيراً في العالم العربي) قال: "فوجئت خلال وجودي بالمؤتمر بشخص يضع يده على كتفي من الخلف، تلفت ففوجئت به يصافحني بصورة مباغتة وقد صافحته وأنا واجم وواصلت سيري بدون أن أحدثه أو أتكلم معه". وبالفعل، ووفقا لمراجع ثقاة (د. منصور خالد، الفجر الكاذب.. نميري وتحريف الشريعة الإسلامية.. القاهرة 1984م/ د. إسماعيل الحاج موسى، في دهاليز السلطة.. مذكرات لم تكتمل.. الخرطوم 2010م) فإن اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل عارضها حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي، بل وأعتبرها في (مذكراته في السجون) التي دونها الصحفي شوقي عبد العظيم لحساب صحيفة (الأخبار) السودانية الصادرة في الخرطوم، نشرت بتاريخ أغسطس من العام الجاري، السبب الأساسي في انهيار "المصالحة الوطنية" بينه ونظام مايو بزعامة الرئيس الأسبق جعفر نميري، المبرمة في يوليو 1977م، إذ يقول الإمام الصادق (فوجئت بأن نميري أيد كامب ديفيد بإسم السودان دون الرجوع إلينا والتشاور معنا طبقا لاتفاق المصالحة الوطنية الذي نص على التشاور بين الأطراف في قضايا السياسة الخارجية والقرارات الكبيرة والمهمة وهو ما نقضه النميري بتأييده المتعجل لكامب ديفيد الذي كان قرارا لا يمكن تجاوزنا فيه). والحق أن الرئيس نميري هو، وسلطان عمان قابوس بن سعيد، والرئيس الصومالي سياد بري، وحدهم من وقفوا إلى جانب تأييد معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية، بينما صمتت السعودية والمغرب واليمن والأردن عن إبداء موقف واضح، فيما جاهرت ليبيا والعراق والجزائر وسورية بمعارضتها الاتفاق الذي وقع برعاية أمريكية في مارس 1979م، بل وسارعوا إلى تكوين (جبهة الرفض) التي عرضت على الرئيس المصري السادات 11 مليار دولار سنوياً كمساعدات لمصر في مقابل التنصل عن الاتفاقية، لكن الأخير رفض فعزلت مصر من محيطها العربي ونقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس. وبينما رأى البعض أن النميري لم يكن مندفعاً في ركاب السادات لكنه كان يمضي بإسراع إلى الخط الذي انتهجه هو وهو الارتماء في الأحضان الأمريكية وربيبتها إسرائيل والتماهي من ثم مع الخيار المصري بحكم اتفاقيات الدفاع المشترك بينهما والتقارب الوثيق، رأى آخرون أن السادات حينما وقع كامب ديفيد وقاطعه جميع العرب لم يرضى النميري من منطلق خلق سوداني أن يتركه وحده رغم أن العرب كانوا يدرون عليه المال الوفير مثل أمراء الخليج، الشيخ زائد والشيخ الصباح. وتجدر الإشارة هنا إلى أن سياسي سوداني كبير ومفكر مؤثر كان حليفاً للرئيس نميري آنذاك، هو الراحل الأستاذ محمود محمد طه، زعيم حزب الإخوان الجمهوريين، كان قد دعا في وقت مبكر في العام 1967م إلى الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها كمدخل لحل مشكلة الشرق الأوسط كما جاء في كتيبه (مشكلة الشرق الأوسط) طبعة أكتوبر من ذات العام تحت عنوان (الاعتراف بإسرائيل من مصلحة العرب)، يقول بأن: كان، ولا يزال، اعتراف العرب بإسرائيل، بالنسبة لإسرائيل أعز أمانيها، لأنه يوفر عليها حالة الخوف، والتوتر، والقلق التي أرقت لياليها، وشغلت أيامها، كما يوفر عليها الجهد والمال، وهى في سبيل هذا الاعتراف يمكن أن تساوم إلى حدود بعيدة لا تقف عند حد إعادة اللاجئين إلى ديارهم، وتعويضهم عن ممتلكاتهم، ولا عند حد الجلاء عن الأراضي العربية التي احتلتها في 5 يونيو، وإنما تذهب إلى الرجوع إلى الحدود التي بينها قرار التقسيم الأصلي الذي اتخذته الأمم المتحدة في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1947م. وهى حدود قد تخطتها إسرائيل، وتوسعت عليها عقب كل معركة من المعارك التي نشبت بينها وبين العرب منذ 15 مايو عام 1948م. ولكن العرب يرفضون هذا الاعتراف بدولة إسرائيل، وهم، إن أردت الدقة، لا يرفضونه إلا شكلا، ولا يرفضونه إلا قولا، ولكنهم مضمونا، وعملا، لا يرفضونه. هذا من أشد الأمور مدعاة للأسف، وهو في نفس الوقت من أدل الدلائل على جهل القيادات العربية، وقلة حنكتها، ذلك بأن إسرائيل في فترة الإصرار على عدم الاعتراف بها قد تقوت ولا تزال تتقوى، عسكريا، وسياسيا، ودبلوماسيا، واقتصاديا، وبشريا. ثم هي ستنال الاعتراف الكامل بها بعد أن تفرضه وبعد أن يكون العرب كما هو واضح الآن، قد قدموه على أقساط، وبعد أن يكون على ذلك قد فقد قيمة المساومة التي كان ولا يزال يحظى بها. فكأن إسرائيل ستحرز اعتراف العرب بها بدون أن يقبض العرب من إسرائيل ثمن هذا الاعتراف. ورفض العرب الاعتراف بإسرائيل يقوم على كبرياء زائف، كيف يجلسون ليتفاوضوا، على مائدة واحدة، مع من أغتصب أرضهم؟؟". ويخلص الأستاذ محمود، تحت عنوان (لماذا لا يواجه العرب مشكلتهم بشجاعة؟) إلى أن: لماذا الوساطة؟ لماذا لا نواجه مشاكلنا بشجاعة الرجال؟، فإن الواسطة قد أضرت بنا أبلغ الضرر من قبل، وأظهرتنا بمظهر القصر الذين يتحدث عنهم أوصياء، وأوصياء مغرضون في ذلك".
(10)
بطبيعة الحال آراء الأستاذ محمود محمد طه وحقبة كامب ديفيد ووقوف السودان رسمياً مع مصر مؤيداً للسلام مع إسرائيل مضت إلى حال سبيلها، لكن قبل عامين فاجأ السودانيين وزير الدولة للنقل القيادي بجبهة الشرق التي وقعت على اتفاق للسلام مع حكومة السودان بأسمرا في 2006م، د. مبروك مبارك سليم، بكشفه عن مقتل مئات الأشخاص في غارة جوية على شرق السودان مطلع 2009م. وبينما لم يعلق مسئولون إسرائيليون على أنباء مفادها أن طائراتهم الحربية ربما كانت تورطت في الهجوم، وبينما لم يؤكد رئيس الوزراء الإسرائيلي- وقتها- أيهود أولمرت النبأ، إلا أنه قال إن إسرائيل تضرب في أي مكان كي توقف الإرهاب. وقال أولمرت "إن ذلك صحيح في الشمال، وصحيح في الجنوب ومن لا يعرف عليه أن يعرف أن إسرائيل يمكن أن تضرب في أي مكان". وقالت شبكة (سي. بي. أس) الإخبارية الأمريكية إنه تم إبلاغ مسئولين أمريكيين أن غارة نفذتها طائرات إسرائيلية في يناير نجحت في منع وصول أسلحة من السودان إلى غزة. وقال مبروك سليم إن من قتلوا في الغارة مدنيون من دول افريقية مجاورة. وقال بول وود مراسل شبكة (بي. بي. سي) الإخبارية البريطانية إن رد الفعل الإسرائيلي جاء وفقا للخط المتبع عادة والذي حدث بعد هجومها على مفاعل سوري عام 2007م، في البداية ترفض أن تؤكد الغارة ثم تعطي إيماءات. وأضاف قائلا إن ما نفهمه من أولمرت هو "الإيماءات". وكان جنرال متقاعد في الجيش الإسرائيلي قد قال إن إسرائيل لم تكن لتنتهك المجال الجوي لأي دولة لتنفذ مثل هذه الغارة خاصة وأن الأنباء التي وردت عن الأسلحة تفترض انه بإمكانها تغيير أصول اللعبة في الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين حيث تردد وجود صواريخ أرض جو وربما صواريخ مداها 70 كيلومترا مما يمكن المسلحين من ضرب تل أبيب من غزة". كان اكتشاف الغارة المميتة لمواطنين سودانيين وأجانب على الأراضي السودانية طعنة نجلاء في خاصرة الأمن القومي السوداني، خلفت سؤالاً كبيرا عن مغزى أن يكشف وزير الدولة مبروك مبارك سليم للعالم ما جرى. لكن السؤال الأهم ظهر وتجدد لاحقاً وبعدها في غضون عام ونيف، ألا وهو: هل السودان فعلاً يساعد المقاومة الفلسطينية بالسلاح؟. أبريل من العام الجاري كان موعد تجدد السؤال، ففي هذا الوقت، قصفت طائرات إسرائيلية سيارة في شرق السودان قالت السلطات أنها لتجار تهريب البشر إلى إسرائيل عبر سيناء وليس الأسلحة إلى حركة حماس الإسلامية. وفيما رفضت إسرائيل الاعتراف صراحة عن الغارة التي نفذتها إلا أن الإيماءات ذاتها تجددت وإن كانت هذه المرة عبر صحافتها المحلية. فقد جاء في صحيفة (يديعوت أحرنوت) الصادرة في إسرائيل رواية مختلفة عن تلك التي رسخت رسمياً في السودان ومفادها أن الضحايا مواطنيْن سودانيين يعملان في تهريب البشر، تقول الصحيفة في تقرير لها ترجمته صحيفة (القدس العربي) اللندنية بعنوان "قتلنا الأشقر.. ليلة سودانية ورواية كويتية"، وهي تتحدث عن الغارة على العربة السوناتا والتي أفضت إلى مقتل العميل الفلسطيني عبد اللطيف الأشقر، خليفة محمود المبحوح، الذي اغتاله الموساد في إمارة دبي قبل أشهر، تقول "من الصعب التصديق بأن أحدا لن يصنع فيلما عن هذا، ينزل رجل من طائرة صغيرة وهو يحمل حقيبة سفر دون أن يشعر به أحد تقريبا، يخرج من المطار، يلاحظ على الفور السائق في سيارة اليونداي التي بانتظاره، ويحتل مكانه في السيارة. ليل، ظلام شبه دامس، لا توجد أي إشارة تدل على الدراما التي ستقع بعد دقيقتين ثلاث دقائق. اليونداي تنطلق إلى الطريق السريع. 15 كم فقط حتى مدينة الميناء، 10 دقائق سفر في قافلة السيارات. فجأة، من مكان ما، تأتي طائرة صغيرة من دون طيار وتطلق النار. اليونداي تحترق. السائق والمسافر يتفحمان. أي من السيارات الأخرى لا تصاب بأذى. إصابة دقيقة. لا بصمات، لم تتبق هويات تشخيص للضحيتين ولكن من ينبغي له أن يعرف فهو يعرف. في مكان ما تُفتح قنينة احتفاء بتصفية مركزة ناجحة أخرى. الستار ينزل في الظلام، لا توجد حظوات للمنتج، للمخرج، لرجال الميدان الذين ساهموا في تقديم المعلومات، بل ولا توجد حتى جنازة لتشييع الضحيتين. كل الاحترام لصحيفة (الجريدة) الكويتية. بالذات (ليس بالصدفة على الإطلاق) وسائل إعلامية هامشية وصغيرة اختيرت لكشف القصة عن التصفية في السودان. نحن نتعرّف من الجريدة (أي الصحيفة) كل التفاصيل العملياتية: من، برأيهم، كان هدف التصفية، كيف نجحوا في تجنيد عملاء ميدانيين رفعوا معلومات ميدانية، وكيف رُبطت المعلومات التي سلمها مسئول حماس الذي جيء به من أوكرانيا، ضرار أبو سيسي، لدى التحقيق معه عندنا، بتصفية عبد اللطيف الأشقر في مكان بعيد في السودان. كلاهما من مخيم جباليا للاجئين في غزة. أبو سيسي كان (المهندس)، الذي طور منظومات السلاح في غزة. الأشقر كان وكيل المشتريات، مقاول التهريب عبر الأنفاق إلى غزة، الخليفة غير المتوج لمحمود المبحوح الذي صُفي في دبي. من دون المساهمة السخية للصحيفة الكويتية، ما كان يحتمل أن يُحل لغز القضية أبدا. ولكن لحظة، مثلما في الأفلام، المنتج يريد أن يوزع الحظوات لكل من قاموا بالمهمة، أمام وخلف الكواليس. وهو يعرف بأن كل فتات معلومات تأتي في هذا المجال سيلقى كشفا كاملا. فهاتان هما قاعدتان أساسيتان للعب: إذا فعلت ولم تُبلغ (حتى عبر التسريب عن بعد) وكأنك لم تفعل شيئا. نبشت في الانترنت ولقيت معلومات لذيذة مسموح لك أن تقتبس، أن تنشر، وأن تصنع عناوين رئيسية. من المضحك أن نسمع مساعي النفي التي تنبعث من غزة، وكأن ضحية التصفية لا يزال حياً يُرزق. فإذا كان "وضعه جيداً"، مثلما يدعي عم ذاك الأشقر، فليأت الشاب، فيتصور ويطلق صوته. ويمس شغاف القلب أن نسمع محاولة الظهور بالبراءة من جانب وزير الخارجية السوداني. فمن جهة تجده مقتنعا مائة في المائة بأن إسرائيل نفذت التصفية، ومن جهة أخرى لا يزال يفحص من قُتل في القصف، بل ولا يفهم أيضا ما حصل لشاشات الرادار ومن أنام مراقبي الطيران. هذه القضية، التي تبدأ بعماد مغنية، وتستمر إلى المبحوح وتنتهي (حاليا فقط) بالأشقر، لم تكتمل. لدينا انشغال غير بسيط مع محور الشر من طهران عبر دمشق وسلة قمامة الإرهابيين في السودان. تفاصيل أخرى لا بد ستأتي، وهي ستظهر على نحو مفاجئ في وسيلة إعلام ما لم نفكر فيها. ثقوا بالمنتجين". إذن وبتجاوز الصلف والسخرية بل وانعدام الأدب كما في مثل وصف "قمامة الإرهابيين في السودان" أو الحديث عن عدم علم وزير الخارجية السوداني بحقائق ما جرى، فالرواية الإسرائيلية المؤوى بها، تتحدث عن عملاء على الأرض، عبثوا في شاشات الرادار وأنموا مراقبي الطيران السودانيين، عملاء حددوا بدقة السيارة من بين صف من السيارات بحيث أُصيب الهدف مباشرةً دون أية بصمات تدل على هوية الجاني. وباستبعاد ذلك أيضاً، أي خلاصة وجود عملاء للموساد على الأرض فقد قال بها وزير الدفاع في تصريحات صحفية لصحيفة (السوداني) الصادرة في الخرطوم، إلا أن الخرطوم درجت على اتهام مناوئيها داخلياً في إطار الصراع المحلي بزيارة إسرائيل وتلقي الدعم من العدو، دون إبتدار عمل ملحوظ للكشف عن عملاء إسرائيل الميدانيين. طال الاتهام عبد الواحد نور السياسي الدارفوري المتمرد على الخرطوم، وطال أيضاً زعيم حركة العدل والمساواة خليل إبراهيم، وأخيراً أتهم بذات التهمة القيادي بالحركة الشعبية قطاع الشمال ياسر عرمان. وبينما لم ينف نور زيارة إسرائيل بل وجاهر بأنه سيفتتح سفارة لها في الخرطوم حال وصوله إلى الحكم، نفى كل من خليل إبراهيم وياسر عرمان تسريبات الزيارة، وفيما أتهم خليل مسئولين سودانيين بزيارة تل أبيب بينهم النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان محمد طه، اكتفى عرمان بالتأكيد على أن زيارة القطاع الذي يمثله، هي إلى جمهورية مصر العربية وليس إسرائيل. ليبقى التحدي مفتوحاً، بين إثارة الاتهامات المتبادلة سودانياً بدلاً من مواجهة الوقائع المجردة على الأرض للاحتياط والتدبر وبداية بداية جديدة بحق وحقيقة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.