لعلها آية من آيات الزمان الذي نعيش فيه أنني تلقيت صباح السبت في الثلاثين من مايو رسالة نصية على هاتفي النقال تنعى الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري بصفته، كما جاء في الرسالة: "آخر الحكام العظماء العقلاء الذين حكموا السودان بعدل ونزاهة." ولعل الأغرب من هذه الرسالة هو أن الإعلام السوداني الرسمي أيد إلى حد كبير هذه المقولة، حيث قطع التلفزيون الرسمي إرساله وطفق يبث أو يعيد بث برامج تشيد بالرئيس الأسبق وتعدد مناقبه التي لا يحتاج تعدادها إلا إلى ثوانٍ معدودة. وقد ذكرني هذا بنكتة كانت متداولة في عهد النميري تروي أنه كان يتجول في الأسواق يتفقد الأسعار، وكان كلما استقصى عن سعر سلعة من الضروريات وجده ارتفع ارتفاعاً جنونياً، فأخذ، بحسب النكتة، يصفق يداً بيد ويقول: ليت أيام عبود تعود (في إشارة إلى الفريق إبراهيم عبود صاحب أول انقلاب عسكري في تاريخ السودان في عام 1958 وحاكمه في عهد تميز معظمه بالرخاء الاقتصادي إلى أن أطاحت به ثورة شعبية في عام 1964). وكأن الإعلام الرسمي بإشاداته المبالغ فيه يؤيد منطق النكتة في الترحم على عهد مضى زينه ما جاء بعده. وقد شهدنا مؤخراً حتى من يحن إلى عهد الاستعمار، وهو معذور. ولكن مهما يكن، لا بد أن تكون هناك معايير موضوعية للحكم على كل تجربة سياسية بخلاف المقارنة بما هو أسوأ. ولعل أقل ما يمكن أن يقال ان كل التهويل والتطبيل الذي صاحب رحيل النميري –رحمه الله وغفر له- لا يمكن أن يخفي أن عهده لم يكن فقط من أسوأ العهود التي مرت بالبلاد، ولكنه كذلك بذر بذور كل الشرور التي حصدتها البلاد بعد رحيله. ولعل الأفضل أن يتحدث المرء هنا عن "عهود" النميري، لأن عهده لم يكن عهداً واحداً، بل شهد تقلبات ما أنزل الله بها من سلطان. وفي كل عهد من عهوده أساء إلى المنهج الذي تبناه وشوه تطبيقه، وناصب أنصاره العداء، فنالت البلاد منه نقيض الحسنيين: حيث جمع في كثير من الأحيان ضلال المذهب مع خطل التطبيق. فقد كانت اشتراكيته اشتراكية التأميم العشوائي والقمع والتدمير، وكانت "ليبراليته" الاقتصادية عهد التبعية والتخبط ودكتاتورية الفرد، وكان إسلامه إسلام القطع والجلد والتستر على الطغيان والفساد. في أول عهده نادى النميري بالاشتراكية، وزايد حتى على الشيوعيين في التطرف اليساري، حيث سارع بتأميم المنشآت بالجملة، واعترف بألمانيا الشرقية وغيرها من الدول الشيوعية، وناصب الغرب العداء بغير مبرر. ثم انقلب بعد ذلك على اليساريين والشيوعيين وفتك بهم، وتبنى الليبرالية الاقتصادية (دون السياسية)، وأعاد لأصحاب المؤسسات المؤممة أموالهم، واحتضن الغرب ودول اليمين العربي، وأصبح حليف أمريكا الأقرب في افريقيا، وثاني زعيمين عربيين أيدا اتفاقيات كامب دايفيد. ثم دار دورة ثالثة فأقصى أنصار الليبرالية وحلفاء الغرب من حكومته، وعاد للتصالح مع المعارضة ذات التوجه الديني والسند الطائفي. ثم لم يلبث أن زايد على هؤلاء كما فعل مع الشيوعيين من قبل، فأصبح إمام المسلمين وحامي حمى الدين، وحامل لواء الشريعة الذي لا ينافسه منافس. وختم عهده بأن انقلب على الإسلاميين فأودعهم السجن. وقد كان الظن بعد أن أطاحت به الانتفاضة الشعبية في أبريل من عام 1985 وهو يحج بين كعبتي واشنطون وقاهرة كامب دايفيد طلباً للدعم لتطبيق شريعة الله، أن ذلك آخر العهد بتقلباته. ولكنه كان يخفي في جرابه تقلبات أخرى. وأذكر هنا أنني تلقيت ذات يوم في مطلع التسعينات في السفارة في لندن اتصالاً من أحد صحفيي هيئة الإذاعة البريطانية يسألني فيه عن موضوع المؤتمر الصحفي الذي سيتحدث فيه الرئيس السوداني في ذلك اليوم. فاستغربت سؤاله، لأنه لم يكن لي علم بوصول رئيس الجمهورية إلى لندن ناهيك عن تنظيم مؤتمر صحفي له، وقلت للرجل إنه لا بد اختلطت عليه الأمور. ولكن الصحفي أكد لي أنه تلقى دعوة لحضور مؤتمر صحفي ينظمه الرئيس السوداني. فطلبت منه أن يقرأ النص، وعندها برح الخفاء، فقد تلا الرجل دعوة تقول أن رئيس الجمهورية جعفر النميري سيعقد مؤتمراً صحفياً ذلك الصباح في نواحي بادينغتون في غرب لندن. فقد بلغ من الخطل بالرجل أنه كان لايزال يسمي نفسه رئيس جمهورية السودان بعد قرابة عقد من الإطاحة به في ثورة شعبية لم يسبق لها مثيل في ما حققته من إجماع على رفضه، وبعد تعاقب نظامين على خلافته. ولكن لم تكن تلك هي نهاية ترهات الرجل، فقد زاد وتلا في مؤتمره ذلك قراراً جمهورياً –كما صور له عقله- بإلغاء قوانين الشريعة في السودان! وهنا نذكر بأن أكثر ما أشاد به بقية أنصار الرجل من إنجازاته كان تطبيق الشريعة الإسلامية، وهو مسعى كان إثمه –والله أعلم- أكثر من نفعه، لأن الرجل أساء إلى الشريعة وإلى الإسلام حين جعلها ستاراً للفساد والاستبداد من جهة، ثم حين لم ير منها إلا العقوبات والإجراءات القمعية من جهة أخرى. ولكن حتى بغض الطرف عن هذه المسألة المحورية، وبافتراض أنه نال أجر المجتهد، فأي سوء خاتمة كتب له والحال هذه حين نقض غزله بيده وأعلن تنصله أمام الله والناس من هذا "الإنجاز"؟ هذا إضافة إلى الغباء المصاحب لهذه الخطوة التي لم يكن لها أي أثر عملي، لأن الرجل ما كان يملك أن ينفذ شيئاً من قراره، فباء بذنب التنصل من الشريعة دون أن يحقق شيئاً مما كان يريده منتقده ومنتقدوها. وهكذا كان ذاك الرجل في جمع الاستهتار بالمبادئ مع قلة الغناء والكفاءة. وقد فعل الرجل الشيء نفسه فيما يتعلق بإنجازه الوحيد، هو تحقيق السلام في الجنوب، ولكن بكفاءة أكبر في هذه الحالة. فقد اعترف الكثيرون لحكمه بالفضل في إنهاء حرب الجنوب بعقد اتفاقية أديس أبابا عام 1972، ولكنه ما برح ينقض غزله حتى أعاد البلاد في عام 1983 بسياساته الخرقاء إلى أتون الحرب التي استعرت لعقدين من الزمان. وقد زاد الرجل فبذر بذور أزمة دارفور حين غض النظر عن إصلاح حال الإقليم وتعامل بخرق وقلة اكتراث مع مجاعتين طاحنتين ضربا الإقليم في عام 1974 ثم عامي 1984-1985. ولعل أسوأ ما أدخله النميري وعهوده إلى السودان هو إشاعة الهوس الأيديولوجي بكل أصنافه، وما يتبعه من استهتار بقيمة الإنسان وقيمة الحياة الإنسانية. فقد بدأ عهده كما أسلفنا بالهوس اليساري الذي كان من سماته دمغ كل المخالفين بنعوت الخيانة والمعاداة لمصالح الشعب وغير ذلك من ضروب اللعن والشتم. هذه الأوصاف بدورها كانت تمهد لمعاملة الخصوم كما لو كانوا كائنات طفيلية قابلة للإبادة لتخليص البلاد والعالم من شرورها. وبالفعل شهد مطلع عهد النظام أحداث قمع وعنف لم يسبق لها مثيل في تاريخ السودان منذ معركة أم درمان عام 1898، حيث بدأ باعتقالات واسعة في صفوف المعارضين وإقالات بالجملة لموظفي الدولة وحتى أساتذة الجامعات، إضافة إلى الحظر الشامل للأحزاب السياسية وكثير من النقابات والاتحادات الطلابية ومنظمات المجتمع المدني. ولكن أسوأ بدعة أدخلتها تلك الحكومة إلى السودان هي فظاعة القتل والإعدامات بالجملة. فقد قتلت المئات، إن لم يكن الآلاف في الهجوم على معاقل الحركة المهدية في الجزيرة أبا على النيل الأبيض وأيضاً في حي ودنوباوي في أمدرمان في مارس عام 1970. وفي العام الذي يليه قتل العشرات من الضباط والسياسيين في الاقتتال الداخلي بين أجنحة السلطة والإعدامات التي تلت ذلك الاقتتال بعد محاكمات صورية. ولكي ندرك حجم هذه الفظائع لا بد أن نذكر أن المجتمع السوداني كان قد أصيب بصدمة كبيرة عندما قامت حكومة الفريق عبود بإعدام خمسة ضباط إثر محاولة انقلابية فاشلة عام 1959، لأن هذا المجتمع لم يخبر سفك الدماء بهذا الحجم حتى في العهد الاستعماري. وكانت آخر إعدامات سياسية هي تلك التي تمت في عام 1924 إثر ثورة شعبية ضد الاستعمار رافقتها انتفاضة مسلحة من بعض فرق الجيش السوداني. وفي عقب تلك الحادثة حكمت السلطات الاستعمارية بالإعدام على أربعة ضباط ونفذ الحكم في ثلاثة فقط. وبهذه المقاييس فإن عهد النميري أدخل البلاد في حقبة دموية لم يسبق لها مثيل. فقد توالت الإعدامات بالجملة في أعوام 1975 ثم 1976. وقد كان حتى آخر أيامه يوزع أحكام الإعدام أو يخطط لها حتى أطيح به. النظام أدخل أيضاً الممارسات الفاسدة وشرع لها بحيث لم يعد الفساد مذمة في عهده، بل بالعكس، أصبح التباهي بالكسب الحرام من الفساد هو ديدن الناس، وأصبح من يتنزه عن الفساد يعتبر "مغفلاً" في عرف الكثيرين، بينما أصبحت الدولة تحمي الفساد والمفسدين وترفع من مقاماتهم. وكانت الاتهامات كثيرة بالفساد في حق الأنظمة السابقة، ولكن انجلت الأمور بأنها كانت بغير أساس. وكان المجتمع برمته يرفض الفساد والمفسدين، بحيث أنه لو وقع اتهام بالفساد في حق شخص ما فإن العار كان يلحق بأسرته كلها. ذلك النظام إذن خرب الدولة وأشاع خراب الذمم ودمر البنية الأخلاقية للمجتمع، بعد أن دمر الخدمة المدنية التي تميزت من قبل بمهنيتها وحيادها. ولم يكتف بذلك بل دمر اقتصاد البلاد بسياسات خرقاء، بدأت بالتأميم العشوائي، ثم الاستدانة من كل جهة خارجية، والدخول في مشروعات اقتصادية مني معظمها بالفشل. وقد تضافرت عوامل القهر السياسي والتدهور الاقتصادي مع عوامل الجذب التي صاحبت الطفرة النفطية لتدفع بمئات الآلاف من السودانيين إلى الهجرة إلى دول النفط، مما ضاعف من الأزمة الاقتصادية بسبب هجرة الكفاءات. ولا يحتاج الأمر إلى كثير تدبر للحكم على عهود الرجل بأنها كانت عهود خراب ودمار، بل عهود تخريب وتدمير، لأن معظم الخراب وقع بسبب إصرار الرجل على التمسك بالسلطة والانفراد بها دون مراعاة لمصالح البلاد والعباد. فقد كان يكفي لو كان لديه شيء من الصدق مع النفس أن يتخلى عن السلطة بعد أن فشل مشروعه الاشتراكي، لا أن يتبنى نقيضه بنفس الحماس. ولو تسامحنا لقلنا كان أولى به الانصراف بعد أن فشل ذلك المشروع النقيض أيضاً، ولكنه اختار أن يضيف الكذب على الله إلى الكذب على العباد فيعلن نفسه إماما ً مصلحاً من أئمة الدين ليغطي على فشل الفشل.