أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي في رده على سؤال من أحد نواب البرلمان في أديس أبابا الأسبوع الماضي أن حكومته قررت سحب قواتها من الصومال بعد أن تمكنت هذه القوات من تحقيق أهدافها على الوجه الأكمل. أشار رئيس الوزراء إلى أن مهام القوات الإثيوبية ستنقل للقوة الأفريقية في الصومال "أميصوم" ، مؤكداً أن القوات الإثيوبية أحرزت نتائج طيبة إذ تمكنت من إنجاز مهمتها الأساسية بإضعاف تنظيم شباب المجاهدين بالدرجة التي لم يعد التنظيم يشكل فيها خطراً يذكر على الحكومة الانتقالية في الصومال. لم يحدد رئيس الوزراء موعد انسحاب القوات ولم ينس أن يشير في مداخلته إلى أن دولة إرتريا المجاورة تعمل على تهديد السلم والاستقرار في المنطقة ، مما عده بعض المراقبين محاولة من رئيس الوزراء لترك الباب موارباً لاحتمال عودة القوات الإثيوبية للصومال متى ما اقتضت الظروف. كانت القوات الإثيوبية قد دخلت الصومال في 20 ديسمبر الماضي من أجل تقديم الدعم للحكومة الانتقالية برئاسة شيخ شريف شيخ أحمد في مواجهاتها الدامية مع تنظيم الشباب المجاهدين. اكتسحت القوات الإثيوبية مدينة بالادوين التي كانت تعتبر من أهم المواقع التي يسطر عليهامقاتلو الشباب ، وأعلنت الحكومة الإثيوبية وقتها أنها ستقوم بسحب قواتها حال إنجاز مهمتها في الصومال. أثبتت الأسابيع والأشهر التالية أن من بين أهداف القوات الإثيوبية تقديم الدعم للقوات الكينية التي كانت قد قامت بغزو جنوب الصومال في اكتوبر 2011 بدعوى العمل على استئصال الخطر الذي يشكله تنظيم الشباب المجاهدين على صناعة السياحة في كينيا ، وذلك بعد وقوع عدد من حوادث الاغتيال والاختطاف التي تعرض لها عدد من السواح الأوربيين على السواحل الكينية واتهم التنظيم بتنفيذها. غير أن التطورات اللاحقة أكدت أن التدخل من جانب قوات الدولتين جاء في إطار جهد إقليمي ودولي واسع لاستئصال تنظيم الشباب سعياً نحو إعداد المسرح الصومالي للانتقال لمرحلة جديدة بدأت بشائرها تتضح منذ اجتماع كمبالا الذي ضم الرئيس الصومالي ورئيس البرلمان تحت رعاية الرئيس اليوغندي موسيفيني في يونيو من العام الماضي. تم خلال الاجتماع المذكور توقيع ما عرف باتفاق كمبالا الذي وضع خارطة طريق لانهاء الفترة الانتقالية بالصومال بحلول أغسطس من العام الحالي ، والزم الحكومة الصومالية بخطوات محددة في أوقات معلومة لإنهاء الفترة الانتقالية بعد تمديدها لمدة عام حيث كان من الواجب أن تنتهي في أغسطس 2011. تم تتويج الجهود الدولية والإقليمية بانعقاد مؤتمر لندن الذي شاركت فيه العديد من الدول والشخصيات المرموقة وترأسه رئيس الوزراء البريطاني في فبراير من العام الحالي ، وقد تناول المؤتمر عدداً من القضايا المهمة المتعلقة بالصومال وعلى رأسها إعداد الدستور الدائم للبلاد ، وانتخاب حكومة جديدة ، ومعالجة قضايا تقف في طريق الاستقرار بالصومال من شاكلة القرصنة والإرهاب وإعادة بناء الاقتصاد. لم يكن التدخل الإثيوبي هو الأول من نوعه ويقول الكثير من المراقبين أنه قد لا يكون الأخير ، فالأحداث في الصومال ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمن القومي الإثيوبي وقد شهدت العلاقات بين البلدين الكثير من فترات التوتر التي بلغت مرحلة الصدام المسلح في عدد من الحالات. شهدت العلاقات بين البلدين الكثير من التوتر منذ استقلال الصومال في عام 1960 وإعلان الحكومة الصومالية أنها ستعمل من أجل توحيد الشعب الصومالي الذي يتوزع على عدد من الدول الأفريقية من بينها إثيوبيا وكينيا. جاء أول صدام مسلح بين البلدين بعد اربعة أعوام فقط من استقلال الصومال عندما اندلعت الاشتباكات على حدودهما المشتركة في فبراير 1964 ، وقصفت الطائرات الإثيوبية مواقع داخل الصومال. لم تستمر الاشتباكات بين البلدين طويلاً حيث توقفت بعد شهرين بوساطة سودانية ناجحة ، ولعل حرب الأوقادين خلال عامي 1977 و1978 كانت أخطر وأشهر النزاعات بين الصومال وإثيوبيا. قادت تلك الحرب لتدخل القوى العظمى حيث وجدت إثيوبياً دعماً قوياً من جانب الاتحاد السوفيتي وحلفاءه الكوبيين ، بينما وقفت الولاياتالمتحدة إلى جانب الصومال. ولعل خير ما يعكس حساسية الأوضاع في الأوقادين القولة الشهيرة لمستشار الأمن القومي الأمريكي عندئذ زبقنيو بريزنسكي التي قال فيها: "لقد دفن الوفاق تحت رمال الأوقادين" ، مشيراً لسياسة الوفاق التي بدأ تطبيقها العملاقان في ذلك الوقت سعياً نحو تخفيف حدة التوتر بينهما وتفادي شبح الحرب النووية. في الماضي القريب تدخلت إثيوبيا بدعم أمريكي في الصومال لمواجهة المحاكم الإسلامية التي ارتفعت أسهمها بصورة كبيرة في عام 2006. في يونيو من ذلك العام تمكنت المحاكم الإسلامية من الاستيلاء على الحكم في مقديشو فتدخلت القوات الإثيوبية في البلاد حيث عبرت الحدود بين البلدين في 20 يوليو قافلة من الشاحنات والمدرعات التي تحمل المئات وربما الآلاف من الجنود الإثيوبين. ادعت الحكومة الإثيوبية وقتها أن جنودها عبروا الحدود بطلب من رصيفتها الصومالية وأن مهامهم هناك لن تكون قتالية وستنحصر فقط في تدريب القوات الصومالية لمواجهة هجمات المحاكم الإسلامية. غير أن الأيام تكشفت عن حقيقة التدخل الإثيوبي والدعم الأمريكي مما جعل صحيفة محترمة مثل النيويورك تايمز تصف التدخل في الصومال بالحماقة. ففي مقال لها بتاريخ 26 ديسمبر 2006 وصفت الصحيفة التدخل الإثيوبي في الصومال بالعدوان ووصفت الدعم الأمريكي له بالتصرف الأخرق قائلة أن إدارة الرئيس جورج دبليو بوش لم تستفد من الدروس التي تلقتها في العراق وافغانستان. المعروف أن الوجود العسكري الإثيوبي في الصومال خلال الفترة من 2006 وحتى 2009 لم يساعد على استقرار البلاد ، بل جاء بنتائج عكسية تماماً كان أهمها ميلاد تنظيم شباب المجاهدين الأكثر تطرفاً من المحاكم الإسلامية والذي ظلت الولاياتالمتحدة تتهمه دائما بالتنسيق مع القاعدة ، وإن جاء الإعلان الرسمي عن انضمام التنظيم للقاعدة بعد ذلك بوقت طويل على لسان الدكتور أيمن الظواهري بعد التدخل الإثيوبي الأخير في الصومال. عليه ، فإن عدداً من المراقبين يرون أن استمرار الوجود الإثيوبي في الصومال قد يساعد فقط على تعقيد الأمور ويقود لميلاد تنظيمات أكثر تطرفاً من شباب المجاهدين. وربما كان هذا أحد الأسباب وراء الرغبة الإثيوبية في الانسحاب الذي مهدت له قرارات من الاتحاد الافريقي والأمم المتحدة بتوسيع بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال بضم القوات الكينية والجيبوتية بالاضافة لفرقة من السنغال من المفترض أن تصل للصومال في المستقبل القريب. ويبدو أن الاتحاد الأفريقي يسعى لتوسيع قاعدة الدول الأفريقية المشاركة في البعثة خوفاً من ردود الفعل داخل الصومال في حالة الاستعانة بقوات أجنبية أو استمرار بقاء القوات الإثيوبية لفترة طويلة في البلاد. ومما يزيد الأمور تعقيداً بالنسبة للوجود الإثيوبي أن الأراضي الصومالية تتحول تدريجيا إلى ساحة للحرب بالوكالة بين إثيوبيا وجارتها الشمالية إرتريا. فبعد وصول الأوضاع بين الدولتين إلى طريق مسدود بسبب رفض إثيوبيا تطبيق قرار مفوضية الحدود المكونة بموجب اتفاق الجزائر للسلام في عام 2000 ، بدأت تدور رحى حرب باردة بينهما شملت كل المجالات الدبلوماسية والسياسية والعسكرية. وجدت الصومال نفسها وسط هذه الحرب بين القوتين الإقليميتين حيث سخرت إثيوبيا ثقلها الدبلوماسي لفرض العقوبات الدولية على إرتريا بدعوى تأييد الأخيرة لتنظيم الشباب في حربه ضد الحكومة الانتقالية واستضافة بعض قيادات المحاكم الاسلامية المعارضة للحكومة الصومالية في العاصمة أسمرا. من جانبها تستغل إرتريا كل تحرك إثيوبي في الصومال للحديث عن مطامع إقليمية لإثيوبيا في ذلك البلد وشواطئه الممتدة على المحيط الهندي وموقعه الاستراتيجي ، وتتحدث عن رغبة إثيوبية دفينة في أن يظل الصومال بلداً ضعيفاً مفكك الأوصال فاقداً للإرادة يدور في فلك إثيوبيا. كما أن إرتريا تلعب على وتر كراهية إثيوبيا الواضحة في أوساط قطاعات واسعة من أفراد الشعب الصومالي بسبب الإرث التاريخي بين البلدين والذي أشرنا لجانب منه أعلاه. لا نشك في أن إثيوبيا ترغب في الخروج من الورطة التي يسببها وجود قواتها في الصومال ، غير أن الأمر ليس سهلاً كما يبدو فالقوات الإثيوبية تمثل العمود الفقري لأي جهد دولي أو إقليمي ضد تنظيم الشباب أو أي قوة معارضة للحكومة الانتقالية في مقديشو. ويعود ذلك لأن القوات الإثيوبية تعتبر هي الأكثر تأهيلاً وإمكانيات وخبرة في الحرب ضد الحركات المسلحة. فبالرغم من مشاركة قوات من عدد من الدول الأفريقية في قوة حفظ السلام الأفريقية (أميصوم) فإن هذه القوات فيما عدا القوات اليوغندية التي خبرت المواجهة مع جيش الرب لا تمتلك من الخبرات ما يمكنها من تحقيق الاستقرار في الصومال. لذلك فإن القوات الإثيوبية قد تجد نفسها مضطرة للبقاء بالصومال تحت الضغوط من قوى إقليمية ودولية ، أو العودة مرة أخرى لميدان المعركة إذا ما تدهورت الأوضاع بعد انسحابها كما حدث في مرات سابقة. Mahjoub Basha [[email protected]]