Ibrahim, Abdullahi A. [[email protected]] متى دخلنا في مايو بدأت شهور الأمة الكبيسة. فمايو ويونيو ويوليو وسبتمبر ونوفمبر هي شهور انتهاكات الدستور بالانقلاب والانقلاب المضاد والمقاتل والتطهير والاعتقال التحفظي. ووقائع هذه الشهور الكبيسة المؤسفة الدموية ما تزال "ضغائن" محتقنة لم تحقق فيها الأمة بصورة مؤسسية كما فعلت في "اضطرابات" الجنوب في 1955. وهو التحقيق الذي صار بيدنا بفضله وثيقة نحتكم إليها. وما أبطل الدعوات الصادقة للتعافي الوطني إلا أن الذي "في القلب في القلب" من عدوات تلك الشهور الكبيسة. ولن تقوم للتعافي الوطني قائمة ما لم تتحر الأمة ظلامات الناس من هذه الشهور وتطوي صفحتها فيخرج الناس من خنادقها إلى رحاب الوطن أخوانا. وكتبت في هذا المعنى عن 19 يوليو 1971 التي غبنتنا في اليسار "جد". فما زلنا نتبلغ غصصها ونذكر رفاقاً كالقناديل السماوية بعاطفة خالطها الثأر لأن الأمة لم تطو كتابها بمسؤولية وقسط. أنا محزون بيوليو القاسي وواع. فيوليو ذهب أيضاً بحياة جماعة من ضباط القوات المسلحة في مذبحة بيت الضيافة المعروفة ممن اتُهم انقلاب الشيوعيين بقتلهم. ولن يسلم الشيوعيون من ذنب هؤلاء الشهداء حتى لوصدقت رواية "الانقلاب الثالث الخفي" الذي سعى لتصفية الشيوعيين والمايويين معاً. فطالما كانوا في ذمة الضباط الشيوعيين يوم ماتوا، فهم في ذمتهم للأبد. وتبنيت طويلاً دعوة لطي سجل انقلاب 19 يوليو ومذبحة بيت الضيافة بتحر تاريخي يضع الأمر في نصابه. واقترحت لجنة مؤهلة للغرض. وقد أوحى لي بهذه الدعوة الأستاذ كمال الجزولى الذي كان تلقى رسائل في يوليو الماضي من الدكتور عثمان، ابن المرحوم العميد صالح أورتشي، ضحية قصر الضيافة، ومن أماني بنت الرائد فاروق حمد الله الذي أعدمه نظام نميري العائد في 22 يوليو 1971. فكلاهما يتيم معجل لأب طواه عنف السياسة المستفحل عندنا. ثم اتصل بي خلال عرضي لمشروعي بطي الصفحة الأستاذ عثمان ابن المقدم سيد أحمد حمودي، ضحية المذبحة، ووجدته في حال اليتم ذاته. فقد ساء الثلاثة أنه متى حلت ذكرى يوليو القاسي (لثلاثين عاماً ونيف) لم يظفروا بغير لجاج الاتهامات والاتهامات المضادة حول اغتيالات بيت الضيافة ومدافن الشهداء. ولم يجدوا في هذا التنابذ ما ينقع غلتهما للحقيقة. والعطش للحقيقة مر. تأخر هذا المبحث عن حقيقة 19 يوليو ومترتباتها جداً. ومن حق ضحايا 19 يوليو جمعاء وأسرهم ألا نضيع دقيقة أخرى تأجيلاً. ولن تستكمل لهذه اللجنة عدة البحث مالم تفتح لها الدولة خزائن أوراقها والتمويل. فتضع تحت تصرفها كل وثائقها من حصيلة لجان التحقيق ومضابط تحريات قسم القضاء العسكري وسجلات المحاكم العسكرية الإيجازية. وأن تزودها بتسجيلات الإذاعة والتلفزيون وقسم التصوير الفوتغرافي وصحف تلك الأيام الصعبة. وأن تستمع للشهود الأحياء وكل راغب في الحديث للجنة في الشأن مباشرة أو بواسطة موقع على الشبكة العنكبوتية. نريد بهذا أن "نقطع دابر" هذه الواقعة التي جعلت الخصوم أسرى رواياتهم الخاصة عنها يجترونها كل ما حلت الذكرى من يوليو. لقد تمكن منا هذا التظاهر بالتاريخ بدلاً عن الامتثال له بشغل خبراء ينظرون إلى ما بعد هذه التظاهرات ويركِّبونها وينهون القطيعة بينها للاحاطة بهذا الحادث الجلل من جوانبه كلها. لا سبيل للدولة ألا أن تسارع بتكوين هذه اللجنة فمتى اتصل عمل اللجنة وأثمر سنجد أن الماضي الغشيم هو عدونا الأول. وما انطبق على 19 يوليو انطبق على سائر مآسي الشهور الكبيسة القادمة لكي لا تتنزي في "صدورهمو الأحقاد والإحن" فطار بها الوطن شعاعاً.