كان محمداً محموداً من بني وطنه . ذا عطاء فكري مُتميز، أتفق معه الناس أو أختلفوا . أجمعوا أنه كان لا يضغن حقداً ولا كراهية ً لإحدٍ ، عامر القلب بحب الناس ، يلقاك دائماً مُبتسماً حتي في أحلك الظروف وما أكثرها في الأرض التي آوته وحضنته أيام الديكتاتوريات . مُتواضعاً ذا ذهن متوقد عفيف اليد واللسان . ملبسه بسيط وكذلك مأكله ومشربه . عشق القراءة والتبغ وكانا يلازمانه حتي في أيام مرضه أضافة لرياضة المشي التي كان يمارسها سنين الإختفاء . كان مُحباً لكرة القدم يشاهدها علي التلفاز أن وجد لذلك الوقت ، حافظاً لغناء الحقيبة ومحباً لمصطفي سيد أحمد وفي بعض الأوقات يجود بالعزف والغناء لمحبيه. وعلي الرغم من أنه ترأس المكتب الأقتصادي للحزب وكثيراً ما كان يتحدث عن ميزان المدفوعات وسعر الصرف والسعر الموازي وديون السودان الخارجية والتضخم وسياسات البنك الدولي ، أضافة الي أسهامته النظرية والعملية في سبيل معالجة أزمة السودان الأقتصادية ،علاوة علي إطلاعه المنتظم للأيكونمومست الإ أنه من المفارقات لم يحمل يوماً محفظة ولم أشاهده يتعامل بالنقد وربما لم يدخل في حياته مِصرفاً ولم يعرف الي الصرافة سبيلا . كان صوفياً ولا غرابة أن صلي عليه وشيعه أخوانه في الطرق الصوفية وللكثيرين كان محمداً شيخ طريقة . روت لي شقيقتي التي تسكن بألقرب من مقابر فاروق أنها لم تر يوماً في حياتها مثل هذا التشيع . كل السودان كان حاضراً في يوم الأحد 25 مارس . الجميع بكي محمداً . الأعمي حمل المكسح . حضروا جميعاً لإلقاء النظرة الأخيرة علي جثمانه . لم يكن الفقد لآل نقد أو الشيوعيين أو القطيناب الذين بكوه بالدمع السخي وأنما كان فقداً لوطن جريح فقد ثلاثة محاميد في وقت متقارب كان يحملهم وسيظلوا في حداقات عيونيه. وحقيقة لا تدري نفسٍ بأي أرضٍ تموت . لا عجب أن يخرج الشعب السوداني لوداع معشوقه السياسي ود ملين الذي كان صادقاً في وعده ودعوته . دخل الي الدنيا فقيراً وخرج منها فقيراً كمهدي الله . وقف مع قضايا المسحوقين والمهمشين ، كان يعلم معاناتهم ويعيشها وحينما تُتاح له فرصة التحدث بإسمهم سواء أكان ذلك في برلمان أو ندوة أو محفل أعلامي تجده يحكي عن مشاكلهم بلغة بسيطة مُبسطة ساعدت في تقريب المسافات بين قطاعاته المختلفة يفهمها السياسين ويهضمها عامة الناس . كان يحكي عن الكسرة والملاح والفتريتا والويكة . يحدثك عن الزراعة والري والكديب وأب عشرين والحساب المشترك والسافل والصعيد . وإذا حكي عن الصناعة يتحدث عن قانون الأستثمار ومدخلات الإنتاج وأهمية دعم السلع المُنتجة محلياً ومشاكل الطاقة والوقود . مع كل هذا لم يكن يحسب أو يدعي أن رأي حزبه هو الأول والأخير وعَكس ذلك في إسهامه في وثيقتي " جبهة للديمقراطية وأنقاذ الوطن " و " الديمقراطية مفتاح الحل " . وحقيقة كان محمداً أحد حكماء السياسة السودانية وكان ناصحاً للعدو والصديق الفارس نُقد علي أيام ديكتاتورية نميري وصلتنا في الحلقة الحزبية بقطاع عشرين رسالة شفهية تخطرنا بأن الأجتماع القادم سيحضره زميل من المركز . وفي يوم الأجتماع وفي الساعة المحددة طرق شخص الباب وأصطحبته الي داخل المنزل وكنا نسير جنباً الي جنب متجهين الي الغرفة التي ينعقد فيها الأجتماع . لم نتمكن من رؤية بعضنا لعدم وجود إضاءة في المكان الذي يفصل ما بين الباب الخارجي وغرفة الأجتماع . وعند ولوجنا الي الغرفة تمكنت من رؤية الشخص الذي كان يرافقني ولم أتبينه علي الحال . كان يرتدي عراقي وسروال من الدمورية ويلتحف عمامة . مظهره يوحي وكأنه من مواطني الحي . وعندما أزاح العمة بانت ملامح وجهه وأذا به الزميل عبدالرحمن . وحينما أُتيحت له فرصة الحديث ، أخرج مقصوصة ورقية صغيرة كان يضعها ما بين صندوق سجائر البنسون والسلفان الذي يكسي الصندوق . خلق علاقة وطيدة بينه وبين معشوقه السجائر ووجهها في الوجهة الأمثل للتأمين . إلي هنا والقصة عادية ، السكرتير العام في طواف علي الهيئات الحزبية المختلفة . وقبل نهاية الإجتماع طلب مني أن أرافقه إلي الخارج . سرنا حوالي الدقيقة أو الدقيقتين إلي المكان المحدد الذي يفترض أن يكون به شخص وسيارة في إنتظاره . وحينما لم نجد الشخص المُكلف بالأنتظار ، طلب مني الزميل عبدالرحمن الرجوع الي الأجتماع وتركه لوحده . في اليوم التالي وبعد حضوري من العمل وجدت زملاء من المديرية بأنتظاري أمام المنزل. وبعد التحايا وُجهتُ بإستفسار عن مكان تواجد السكرتير العام ؟ ومواصلة للسؤال عَقب السائل أن الزميل عبدالرحمن لم يبتْ ليلته في المكان المحدد له وبالمعلومات المتوفرة بأني آخر من كان معه علي أن أوضح الملابسات التي فارقت فيها الزميل . وعندما لم يجد السائل ما يشفي غليله أنقلبت العاصمة في ذلك اليوم رأساً علي عقب تبحث عن السكرتير العام . لاحقاً أتضح أن الشخص المُكلف بترحيله وفي أثناء أنتظاره للزميل عبدالرحمن تعرض لمضايقات من شباب الحي وأعتقدوا أنه يريد التحرش بحسناوات المنطقة أضافة الي أن الزميل عبدالرحمن أسهب في لقائه معنا ولم يخرج في الوقت المحدد فما كان من الزميل المرافق الأ وأن غادر المكان علي حسب ما تقتضيه التوجيهات التأمينية الصارمة . وحينما لم يجد نقد مرافقه ما كان منه الإ أن تحرك راجلاً من المنطقة التي أنعقد فيها الأجتماع العباسية أمدرمان الي أمبدة حيث يسكن صديق له . في ذلك الوقت لم تك هنالك وسائل أتصال كما هي عليه اليوم ولا توجد هواتف نقالة . لك أن تتخيل حجم مخاطرة زميل مختفي في الذهاب الي منزل شخص بدون إخطار وبدون ما يؤكد ضمان وجود صاحب المنزل . لم تقف المخاطرة في هذا الحد . زمان هذه الحادثة في السبعينات من القرن الماضي . أمبدة لم تكن كما هي عليه الآن ولم تعبد الشوارع ولم تضاء . السير فيها ليلاً يُعد من المخاطر . رجل مطلوب من كل أجهزة نميري يخرج ذاهباً من أمدرمان الي أمبدة في ليلٍ بهيم حوالي الساعة التاسعة أو العاشرة مساءً لا يمتشق سلاحاً ولا يحمل سكيناً تحسباً لمصائب الدهر يقطع الفيافي ما بين العرضة وأمبدة في منطقة تعد مرتعاً للرباطين والهمباته هذه شجاعة وفراسة تستحق أن تُروي . وبحق نقد فارس ، حكي لي صديق آخر أن نقد حضر أجتماعاً بأمتداد ناصر وبعد أن أنفض سامر الأجتماع خرج المدعون من المنزل وعند خروجهم كان هنالك مواطن لا يعرفه أحد تعطلت سيارته وطلب منهم مساعدته في تحريك سيارته ( يا أبو مُروْه) . فما كان من نُقد الأ أن شمر عن جلبابه وتقدم الرفاق وبدأ في دفع السيارة مع صاحبها . وروي آخر أنه كان مُكلف بتحريك نُقد وعند وصلهم الي كبري النيل الأبيض أتضح أن القوات النظامية تجري تفتيشاً في مدخل الكبري عندها بدأ الشخص في الأرتباك فما كان من عبدالرحمن الأ أن تحول من شخصٍ مطارد الي شخص آخر يهدئ من روعة مرافقه ويبث في روحه الطمأنينة . وروي آخر أن نُقد كان من ضمن حضور زواج الدكتورة فاطمة بابكر والدكتور محمد سليمان . في مقام ذكر هذه الأساطير من الفروسية يطيب لي أن أشهد بشجاعة زميل آخر كنت بالقرب منه ورحل عنا . اللهم أرحم الزميل الجزولي سعيد . أتمني أن نشهد اليوم الذي نُخلد فيه ذكري هؤلاء الأبطال الذين ضحوا بحياتهم من أجل وطن أفضل . اللقاء الثاني الذي تم بيننا كان بموسكو بعد الأنتفاضة حينما حضر اليها ليشارك في المؤتمر الخامس والعشرين للحزب الشيوعي السوفيتي الذي أُعلنت فيه سياسات (البروسترويكا والقلاسنست ). في ذلك المؤتمر أُنتخب نُقد لكي يلقي الكلمة نيابة عن الأحزاب الشيوعية والعمالية العربية . نأمل أن يتمكن الشيوعيون السودانيون من الحصول علي هذه المساهمة وحفظها . كلما تُتاح لي فرصة العودة الي السودان أحمل معي كتاباً أو كتابين هدية للزميل عبدالرحمن . هذه العرف النبيل غرسته فينا الزميلة سعاد أبراهيم أحمد . التقيتها للمرة الأولي في مدينة لندن عام 1980 وهي في قمة نشاطها تركض من متجر الي آخر تغتني الكتب والدوريات المختلفة وعند سؤالي لها مستفسراًً ردت بأنها أعتادت أن تصطحب معها بعض الكتب كلما عادت الي السودان لتهديها الي عبدالله علي إبراهيم . قبل عامين عندما زرت السودان قررت أن أستبدل هدية الكتب بالمعشوق الآخر التبغ . وفي مركز الحزب قدمت له السجائر الذي وجد رضاءً وأستحساناً منه ومعاتبة من قبل الزملاء الآخرين علي أهداء ما يضر بالصحة . في ديسمبر/يناير من هذا العام كنت في زيارة للسودان وعندما علمت بوعكته زرته مع صديقنا المشترك دكتورمصطفي حينها لم أجد بالقرب منه أحد معشوقيه كما كانت العادة وكان هذا بمثابة أنذار مبكر لي بأن صحته مُعتلة . وعملياً كان نُقد مضرباً عن الطعام والشراب الأ أن مصطفي نجح في أرغامه علي تجرع نصف كوبٍ من العصير وكان هذا في حد ذاته إنجاز . في ذلك اليوم ونحن ضيوف بمقامه حضر لزيارته العم الدكتور موسي عبدالله حامد بصحبة أبنه عبدالله وحينها لم أكن قد زرت بعد أهلي وعشيرتي فشعرت بحرج داخلي . ألم أذكر في السابق أن هذا الرجل شيخ طريقة وله حوارييه . حضر موسي يحمل معه كتابه الأخير (أيام الجامعة ) مع أهداء لنُقد . حكي موسي لنقد أن بالكتاب في الصفحة الثامنة عشر ذكرٌ للقطينة عندما زاره عام 1958 ووجد معه أحمد سليمان ضيفاً عليه . وبعد حوالي الأسبوعين ذهبت لوداعه ووجدته في حالة أحسن كثيراً من سابقتها كان يشاهد التلفاز أضافة الي أنه شارك الصديق الدكتور حسن محمد أحمد التدخين . خرجت منه علي قناعة تامة بأني سأراه ثانية الأ أن حدثي خاب وأخذ صاحب الوديعة وديعته . رحمك الله يا محمدأ والزمنا الصبر بفقدك ونتمني أن نصطف ونسير خلف أرثك الذي خلفته لنا . اللهم أجعل الجنة مثواك . 30 أبريل 2012 Hamid Bushra [[email protected]]