شهر ونيف منذ أن هبطت منطقة خليج سان فرانسسكو، أجوب شوارع مدنها وأحيائها كل صباح، أبحث عن ضالتي دون جدوى: أبحث عن أكياس النايلون، وعن "البوكس التايوتا" 81، وعن "أهل البلد" – الأمريكان البيض الذين كنا نراهم في السينما زمان. أدهشني في تجوالي في شوارع المنطقة غياب أكياس النايلون، وكنت قد تركت الخرطوم وأكياس النايلون الملوّنة تُزين الأسوار والشجيرات والساحات، وتُبهج الحزانى من أبناء وبنات الشعب السوداني. قلت في نفسي: ما بال هؤلاء الأمريكان؟ وأين يُخبئون أكياس النايلون بعد استخدامها؟ ظننت أولا أن ولاية كاليفورنيا أو اللجنة الشعبية لخليج سان فرانسسكو قد منعت استخدام أكياس النايلون مثلما فعل والي القضارف وذلك لأضرارها البيئية. غير أنني لاحظت أن المتاجر في المنطقة ما زالت تُعطيك مشترواتك في هذه الأكياس. لماذا إذن لا أراها خفاقة تكسو الأشجار والأركان، وتُحلق في سماء المدينة كلما هبت ريح؟ لن يهدأ لي بال حتى أسبر غور هذه المعضلة وأكشف سر غياب الأكياس المُريب. ضالتي الثانية في هذه البلاد التي حسبتها متقدمة هو البوكس التايوتا 81، وتدكرت قصة السوداني الذي أرسل خطابا لإحدي مذيعات القنوات العربية يُخبرها بحبه لها ورغبته في الزواج بها وأنه يمتلك بوكس 81 حتى تطمئن على مؤهلاته. جُبت الشوارع ونظرت داخل الحيشان والحدائق والشوارع الجانبية فلم أر أثرا لهذه السيارة الثمينة، وعجبت لأمر هؤلاء الأمريكان، يملأون الدنيا ضجيجا حول قيادتهم للدنيا وريادتهم لها وتقدمهم وثرائهم وهم يجهلون فضل التويوتا 81! أما ضالتي الثالثة التي ما زلت لأبحث عنها فهي الأمريكان (أهل البلد)، ذوي العيون الزرقاء والشعور الشقراء والبشرة البيضاء؛ لا أثر لهم في هذه البلاد. هل هجروها مثلما هجر اليمانية والأحباش السودان حين ضاقت الحلقات؟ ام طاف عليهم طائف من جراء دعاء أئمة المساجد فخسف بهم الأرض؟ أم أصابهم وباء أهلكهم مثلما حلّ بسكان البلاد الأصليين حين هبطها الأوربيون بأسلحتهم وأوبئتهم وطمعهم ؟ أنظر حولي فلا أري إلا الوجوه الآسيوية والمكسيكية ووجوه أخرى من اركان الدنيا الأربع؛ أتوا بلغاتهم وبسحناتهم وعاداتهم ومعابدهم ومساجدهم ومطاعمهم، وأناخوا جمالهم وضربوا خيامهم وقالوا إنا هنا قاعدون! صدرت هنا هذا الأسبوع إحصائية رسمية تُظهر أن عدد المواليد للأميكيين غير البيض تجاوز – لأول مرّة في تاريخ الولاياتالمتحدة – عدد المواليد البيض، مما يؤكد بالأرقام التحول الديموغرافي الملحوظ في التركيبة السكانية للبلاد نحو أغلبية من غير البيض المنحدرين من أصول أوروبية. *** الولاياتالمتحدة بلد عجيب غريب مدهش ومُعقّد، يذكرني بالبصلة، كلما أزحت طبقة وجدت أخرى. ومن السهولة التعميم بشأنه والتبسيط المُخل وإطلاق الحديث على عواهنه بشأنه مثلما يفعل عباقرة النظام الذين أمضوا بعض السنوات هنا على هامش الحياة ثم عادوا بعد أن دانت لهم بلاد السودان، يحتكرون وسائل الإعلام و ةشساضخشسسه ضشملاه نخمخ به شيتحدثون في المنابر عن فصل السلطات وجماعات الضغط وسيطرة الشركات واليهود واقتراب انهيار امريكا وقد نخرتها المديونية والأزمات الاقتصادية والأوبئة وغضب الرحمن. هذه سلسلة مقالات أحاول فيها- دون ادعاء جهد علمي أو أكاديمي- أن اشرك القراء في ملاحظاتي الشخصية حول هذه البلاد التي حين تعطس، يُصاب العالم بالحُمّى، ويُصاب السودان بالإلتهاب الرئوي. إيلاف 22 مايو2012