في هذه الحلقة الأخيرة، من سلسلة ركائز انتخابات التحول الديمقراطي المنشود، وعدتُ أن أًدلِي برؤيتي حول سيناريو، أو سيناريوهات، ممارسة حق تقرير المصير لشعوب السودان. وسوف أتناولها تحت عناوين جانبية علي النحو التالي: تعريف خاص(unique) لحق تقرير المصير: يتوجب علينا، كسودانيين، أن نستنبط تعريفاً خاصاً، غير نمطي، لدواعي اللجوء إلي ممارسة حق تقرير المصير، في سياق بسيط ومنطقي كالآتي: (تقرير المصير هو، الوضع الذي يلي فشل مجموعة من الشعوب تعيش في رقعة جغرافية واحدة، الاستمرار في تنفيذ مشروعها المشترك لبناء دولة وفق ما تراضوا عليه من مواثيق وعهود قاموا بتضمينها في وثيقة عهدٍ أعظم (دستور)، وذلك بسبب قصور، غير مبرر، لبعض أطراف العهد في الوفاء بالتزاماتهم نحو تنفيذ المشروع المشترك، بحيث يؤدي ذلك القصور في الوفاء بمستحقات المشروع المشترك إلي، استحالة تحقيقه علي الأرض، ومن ثم ينتفي الهدف والحلم والأمل المنشود من وراء الميثاق المشترك وهو، بناء دولة ذات هوية وثقافة وسيادة وكرامة لمجموع الشعوب صُنَّاع العهد الأعظم).. ويمكن استخلاص عناصر هذا التعريف كالآتي: 1) مجموعة شعوب تعيش في رقعة جغرافية واحدة، توقَّع علي وثيقة عهد أعظم لبناء دولة. 2) قصور بعض أطراف الوثيقة في الوفاء بالتزاماتهم في العهد. 3) أن يؤدي ذلك القصور والنكوص في أداء الواجبات إلي استحالة بناء مشروع الدولة المشتركة، وبالمُحصِلَة، انهيار المشروع المشترك. السيناريو الأول لتقرير المصير: هو سيناريو بسيط ومنطقي، قوامه استبعاد الطرف المُخِل بمستحقات المشروع المشترك لبناء دولة الحُلم المشترك، وفي الحالة السودانية، وباستصحاب هذا السيناريو يتوجب طرد المركز كطرف ظل دوماً يحنث بيمين الوفاء وشرف الالتزام، وقد ظل المركز منذ الأزل يكرر فشلاً مقصوداً ومُتعمداً في الوفاء بما التزم به علي رؤوس الأشهاد، وأمثلة ذلك كثير، منها:(1953م فشل المركز في الوفاء بوعده للجنوبيين بإعطائهم حكم ذاتي فدرالي مقابل مشاركتهم في المطالبة باستقلال السودان من داخل البرلمان، واتفاقية أديس أبابا1972م جَحَدَه المركز وتنَّكر لالتزاماته نحوها فاندلعت الحرب الأهلية مرة أخري1983م، وتم تفريغ الحكم الإقليمي من مضامينه/1980/1981م وانفجار انتفاضة دارفور الشهيرة يناير/فبراير1981م وإجبار الطاغية نميري علي إلغاء قراره بفرض حاكم للإقليم من خارجه، وسِيق كُرهاً لتعيين ابن دارفور العم/احمد إبراهيم دريج حاكماً علي عموم إقليم دارفور، وقوانين سبتمبر1983م أُصدِرت لقمع الحريات وإذلال الشعب وتفتيت نسيج المجتمع وفرض فكر ومنهج إرهابي متسلط 1983-2009م، وجريمة اغتيال شهيد الفكر والرأي الأستاذ/محمود محمد طه صبيحة الجمعة/18يناير1985م، والأستاذ العالم محمود محمد طه هو المُفكِر الوحيد الذي أرسي فكراً من وَحْي الدين الإسلامي لإنقاذ البشرية من غِلظة وكثافة شريعة القرن السابع الميلادي الذي لا يناسب مجتمع الألفية الثالثة حتماُ، من شاكلة، كل مُحدثة بِِدعة وكل بِدعة ضلالة، ارتفع بها المفكر العالم/ محمود محمد طه إلي رحاب تطوير الشرعية وفقاً لمقتضيات الرُقي والتقدم والحضارة الماثلة في القرن الحادي والعشرين حيث حُكم القانون والحرية والديمقراطية وضرورة العودة إلي أصول القرآن الكريم وترك الفروع، ومعلوم أن الفرق بينها ليس في الأصل ولكن في المقدار، و 2005/2009م خرق بنود اتفاق السلام الشامل بإصرار المركز علي مصادرة وثيقة الحقوق والحريات وتزييف قوانين التحول الديمقراطي، وجعل الوحدة طاردة بتقتيل شعوب السودان في دارفور وإبادتهم جماعياً وتطهيرهم عرقياً، لأنهم أنجبوا من خرجوا عن طوعهم مطالبين بحقوق أهلهم في الكرامة والحرية والعدالة، و2006/2009م نكوص المركز عن تنفيذ اتفاقيات الهامش والمركز، المبرمة بكل من القاهرة، أبوجا وأسمرا)..هذه أمثلة حيَّة وماثلة لتخصص المركز في تقويض العهود والنكوص عن الوفاء بما تعهد به، فالسيناريو الأول كما أوردت هو، مُعاقبة المُخل بالعهود والناكص عن الوفاء بما التزم وتعهَّد، وهو حتماً المركز، ووجوب إعلانه رسمياً كونه طرفاً فاقداً لأهلية الإلزام والالتزام، وبالتالي إبعاده من أي موقع يتطلب شاغله أهلية الوفاء..لكن وللأسف لا يمكن الركون إلي هذا السيناريو من ناحية عملية، لأن الأنظمة التي ظلت تتربع علي كرسي الحكم في المركز، في الغالب الأعمّ عسكر يركبون الحكم عبر انقلابات عسكرية، بمفردهم أو لحساب أحزاب سياسية، عقائدية، لا تؤمن بالتحول السلمي الديمقراطي عبر انتخابات حرة ونزيهة، ولا تؤمن بالديمقراطية ولا تعترف بالآخر ولا يتسع صدرها لرأي أخر مختلف او شريك في الحكم، ويتميز حكمهم بالقهر والقمع والفساد والمحاباة والمحسوبية والميكافيلية، والهدف الأساس عندهم هو البقاء في الحكم إلي الأبد وبأي ثمن.. وعليه يكون إبعاد المركز مُتخيَّلاً بإحدى وسيلتين: الأولي، إزالته بثورة شعبية، والثانية، هزيمتهم في انتخابات حُرّة ونزيهة،علي أن الحُلم بانتخابات حُرّة ونزيهة في ظل هيمنة حزب أتي إلي الحكم عبر انقلاب عسكري وانفرد بسلطة البلاد وثروتها وتدجين مؤسساتها وتزييف العملية الديمقراطية مسخها لعقدين من الزمان هو ضرب من ترف الفكر والخيال.. أما الخيار الأول فقد كان ممكناً قبل مجيء هذا النظام وانتفي بعده انتفاءً تاماً، فضلاً عن ما يجد الناس ويرونه من صنوف التنكيل والبطش بمن تُسوِّلُ له نفسه العمل علي تفجير ثورة شعبية أو إطلاق أي عمل يُعدُّ شرارة أولي لثورة او انتفاضة شعبية، كما أن الشعب نفسه قد اغترب كثيراً في ظل هذا النظام، وفقد ثقته بنفسه وضاق زرعاً بتكرار الحلقة المفرغة، ديمقراطية تقليدية هي في حقيقتها دكتاتورية مُغلَّفة لتنظيمات عشائرية وطائفية تُكرس الولاء لزعيم الطائفة الذي بدوره يكرس التنظيم لأسرته ويورثها لأحفاده جيلاً عن جيل، ليعقبها انقلاب عسكري يُعمل الفساد والمحسوبية والقمع حينا من الدهر وهكذا. السيناريو الثاني لتقرير المصير: هو سيناريو يقوم علي فرضية عدم قدرة شعوب الهامش علي انتزاع مركز الدولة ومؤسستها من يد الطرف المُخِل دوماً بالتزاماته والفاشل في الوفاء بعهوده، وبالتالي، يقوم هذا السيناريو علي الاستغناء عن المركز تماماً، واجتماع بقية شعوب السودان الذين ظلوا طرفاً في العهد الأعظم وجميع المواثيق مع المركز، وتأسيس دولة السودان الجديد، القائم علي المبادئ والقيم والمعايير التي حوتها بطون الاتفاقيات المبرمة بين المركز والهامش، ويُميز هذه الثُلة أنهم أبناء الهامش السوداني، كما يميّزهم أنهم لم يسبق لهم أن سيطروا عبر التاريخ علي موارد البلاد وسُلطتِها أو جهاز الدولة ولم يفسدوا، فظلوا دوماً الطرف مأكول الحق، ينتظر الإفراج عن نصيبه في السلطة القومية والثروة، وقبل هذا وذاك تنفيذ وثيقة الحقوق والحريات العامة. ويرتكز هذا الخيار علي مراحل، تبدأ بانتزاع السلطة والثروة من يدِ المركز أولاً، أو جزء منهما الذي يساهم به الهامش، ثم مرحلة تحديد وتعريف الرُقعَة الجغرافية التي ستكون مستقبلاً دولة السودان الجديد، ويتطلب ذلك إجراءات قبْلِية وبعدِية أهمها، البحث مُبكِّراً عن أصدقاء دوليين مستعدين للاعتراف بالكيان الجديد، كما يجب إعداد العُدِّة لصد أية محاولات لاستعادة هيمنة المركز مجدداً علي الكيان الجديد.. كما يجب أن تسبق هذه المرحلة رسم حدود واضحة للدولة الجديدة ومساعدة الذين لم ينضموا للمشروع الجديد لتقرير المصير لأسباب لا تمت إلي الحقيقة بصلة للانضمام إليه. وفق هذا السيناريو يتضح أن هناك دور جوهري لأبناء المركز الشُرفاء، يجب أن يقوموا به لتطهير المركز والوسط السوداني المستنير من نزق وغلواء الذين ظللوا يترددون علي حكم البلاد، عسكراً كانوا او أحزاب تمتطي صهوة العاطفة الدينية والطائفية للشعب السوداني، علي المركز بما يتوافر عليه من وعيٍ معرفيِ وسياسيِ أن يعمل لتحسين وجهِهِ ومراجعة قِيَمِه، والوقوف صفاً مرصوصاً لصد ودحر الانتهازيين الذين ظلوا يأتون إلي الحكم باسم المركز، ثم ينحرفون عن القيم النبيلة للشعب السوداني، ويُعّرِضُون مصير الأمة لمحن ونظريات مستوردة من وراء الحدود تودي بالجميع إلي التهلُكة.. وإذاً فشل أبناء المركز في لعب دور جوهري لإظهار الوجه الحقيقي للمركز والوسط المُتعلِّم والواعي والمستنير وتأكيد دوره القيادي والحادي لركب الأمة إلي الوحدة الطوعية، فإن شعوب السودان ستتجاوز المركز وستبحث عن مركز بديل مؤهل للقيام بدور الأسمنت الذي يربط نسيج الأمة ويدمِجُها وصولاً إلي الانصهار الوطني كهدف سامي وإستراتيجي.. السيناريو الثالث لتقرير المصير: هو المُضمّن في اتفاق السلام الشامل، وهو سيناريو مُضلِل وقائم علي استهبال الناس بعبارات مُضللة مثل: أن الاتفاق بين الجنوب والشمال!! بينما هذا غير صحيح فاتفاق السلام الشامل، وكافة الاتفاقيات اللاحقة، في حقيقتها مُبرمة بين المؤتمر الوطني المُهيمن علي المركز وبين قوي الكفاح المسلح في الجنوب والشرق ودارفور باعتبارها أجزاء من الهامش السوداني، ولا نملُ تكرار حقيقة أن، أزمة الحكم في السودان هو بين المركز والهامش، وليس بين الجنوب والشمال، أو دارفور والشرق، أو كردفان وجنوب النيل الأزرق، هي مشكلة دائرية، بين مركز جاحد وهامش مأكول الحقوق ومُغيب.. ويظهر أثر هذه المعادلة جلياً كلما ابتعدت من مركز الدائرة (القصر الجمهوري).. مركز يفرض إرادته المُتسلِّطة علي الهامش الذي ظلّ يكافح لتحقيق دولة حقيقية وطوعية، وفي مواجهة إصرار المركز علي تسمية الأشياء بغير أسماءها، وأهم معالم التضليل هو ظهور المركز(المؤتمر الوطني) في منابر التفاوض مع قوي الهامش السوداني باسم الشمال تارة، في معني، بقية السودان(غرب، شرق، شمال وسط، كردفان دارفور)، وباسم حكومة السودان وحكومة الوحدة الوطنية تارة أخري، وفي جميع الأحوال يظهر المؤتمر الوطني ظهوراً مُضللاً، ويتصرف تصرفات باطلة دون تفويض من أصحاب الحق، وبأحسن الفروض تقع تصرفات المركز في خانة تصرف الفضولي الموقوفة علي إجازة الأصيل صاحب الحق الحقيقي وهو الشعب السوداني في الأقاليم التي تَصَرَّف المركز نيابة عنها(المؤتمر الوطني)، ومؤكد أن جميع شعوب السودان ستُبطِل تصرفات الفضول التي أتي بها المركز الغاصب باسمها، ولكن المركز(المؤتمر الوطني) فشل تماماً في الوفاء بالتزاماته التي رتبها باسم شمال السودان(كل السودان ما عدا الجنوبً)، وباسم حكومة السودان وباسم حكومة الوحدة الوطنية، وبالنتيجة فإن المركز قد فشل وحده في الوفاء بما تعهد به، دون تدخُّل أصحاب الحق الأصليين لإبطال تصرفاته الفضولية، فالمركز جعل الوحدة أمراً مقيتاً طارداً، بدلاً من الوفاء بالتزامه بجعلها جاذبا برَّاقاً بدفع استحقاقات الوحدة والسلام والبناء والعدالة. سيجد القارئ أن، عِماد هذا السيناريو هو عدم الانسياق خلف المركز إلي مزارع ألغامِه الغادِرة، وذلك بدفع أبناء الجنوب الذين حُرِموا من استحقاقات السلام والأمن والتنمية بالدخول في إجراءات ممارسة حق تقرير المصير منفردين عن بقية شعوب السودان التي تعاني ممَّا يعاني منه أبناء جنوب السودان، ومعلوم الآن أن الأهل بجنوب السودان مهيئين لاختيار الانفصال في استفتاء2011م وهو فخ نصبه ممثل المركز لإبعاد الجنوب من حضن الوطن الأم السودان وهو تصرُّف باطل وظالم لأبناء السودان في الجنوب وفي بقية الأقاليم، فالذي يجب أن يُعاقب بالطرد من حرم الوطن العزيز وصحنه هو الابن العاق المُعطِّل لمسيرة الأمة نحو البناء والحرية والعدالة والهوية، كما يجب أن يعلم أبناء جنوب السودان إنهم سيعاقِبون إخوتهم في بقية الأقاليم إن فعلوا ذلك، بجريرة غيرهم، وإنهم، أقصد أبناء الجنوب، سيقتلون السودان ويقتلون الجنوب أيضاً، لأن السودان جسدٌ واحد ويشكل الجنوب جزء أساسي وحسَّاس منه، وإذا تم بتر الجنوب سينزف السودان ويموت، وسيموت أيضاً الجزء المبتور الجنوب.. هذاً هو الفخ الذي نصبة المركز(المؤتمر الوطني) لتدمير السودان دماراً تاماً، والحل هو أن نعمل جميعاً لإنقاذ الجنوب وعموم السودان مما يحاك ضِدهم..