قام نائب رئيس الجمهورية الاسلامية الايرانية مؤخراً بزيارة لشرق أفريقيا زار خلالها كلاً من كينيا وتنزانيا. ورغم التصريحات الإيجابية التي أدلى بها نائب الرئيس الإيراني قبل بدء الزيارة إلا أن تغطية الصحف الكينية والتنزانية لها كانت محدودة للغاية ولم يرشح عنها الكثير في أجهزة الاعلام الأخرى. ولعل الإشارات الشحيحة التي وردت عن الزيارة في صحيفة “ذا ستار" الكينية لم تكن إيجابية في مجملها ، إذ أشارت إلى أن استقبال الزعيم الإيراني بالمطار كان فاتراً ورافقته الكثير من الأخطاء المراسمية. كما أوردت الصحيفة العديد من الملابسات السالبة التي رافقت الزيارة ، وقد يكون السبب وراء هذا الاستقبال غير المتوقع هو سريان حمى الانتخابات الرئاسية على الساحة السياسية الكينية مما قاد لانشغال المسئولين والرأي العام في البلاد بالصورة التي جعلت الاعلام لا يناول هذه الزيارة المهمة بالصورة المتوقعة. ويرى بعض المراقبين أن رئيس الوزراء الكيني اختار توقيت الزيارة بعناية شديدة بحيث تساهم في رفع أسهمه خلال موسم الانتخابات خاصة وأنه يواجه خصوماً عنيدين من أمثال الرجل الثاني في حزبه موساليا مودافادي الذي انشق مؤخراً عن الحزب ، بالاضافة لسياسيين من الوزن الثقيل كأوهورو كينياتا وويليام روتو ، مما جعل الكثير من المسئولين المنتمين للمجموعات المنافسة يعزفون عن المشاركة في الأنشطة التي ارتبطت بالزيارة. وربما يفسر ذلك غياب عدد من وزراء الحكومة الكينية عن دعوة الغداء التي أقامها رئيس الوزراء على شرف نائب الرئيس الإيراني. أما بالنسبة لزيارة الضيف لتنزانيا فإنها خلت فيما يبدو من الأخطاء المراسمية غير أن كل ما ورد عنها في الأنباء هو أن الضيف قام بافتتاح مركزين صحيين في كل من دار السلام وزنزبار تم إنشاؤهما على نفقة الحكومة الإيرانية كهدية للمواطنين هناك ، وأنه التقى برصيفه نائب الرئيس التنزاني وتباحث معه حول العلاقات بين البلدين. وبغض النظر عن الهنات المراسمية وضعف التغطية الإعلامية فإن زيارة الرجل الثاني في إيران لمنطقة شرق أفريقيا ليست بالحدث البسيط الذي يمكن تجاهله ، ولا نشك في أن أجهزة المخابرات في العديد من الدول وعلى رأسها الولاياتالمتحدة وإسرائيل كانت تتابع تفاصيل الزيارة ونتائجها باهتمام شديد وعن كثب. جاءت الزيارة في إطار الجهود الإيرانية لكسر طوق العزلة الذي فرضته عليها الولاياتالمتحدة ورفيقاتها من الدول الغربية بسبب برنامجها النووي ، وقد استطاعت الولاياتالمتحدة أن تستصحب في جهدها لإحكام الحصار على الحكومة الإيرانية معظم دول الجوار الإيراني مستغلة في ذلك المخاوف الأمنية لهذه الدول وخلافاتها المذهبية مع إيران. من الواضح أن إيران تولي اهتماماً خاصاً لعلاقاتها مع القارة الأفريقية وقد شجعها على ذلك الموقع الاستراتيجي للقارة ، وتمتعها بالموارد الطبيعية غير المستغلة والأسواق التي تنمو بخطى حثيثة جذبت إليها كل القوى الدولية ذات الوزن الاقتصادي الكبير. اختطت إيران لتحقيق أهدافها سياسة تقوم على ثلاثة محاور هي: مساعدة الدول الأفريقية لاستغلال مواردها الطبيعية ، وتوفير احتياجات الأسواق الأفريقية من السلع خاصة النفط بأسعار معقولة ، والتأكيد على المصير المشترك للطرفين في وجه محاولات الدول الغربية للهيمنة على العالم الثالث. وقد كان خلو تاريخ إيران من تجارب استعمارية في القارة سبباً في أن تتمكن من تحقيق نتائج مقدرة بالدرجة التي أثارت قلق الولاياتالمتحدة وجعلت وزيرة الخارجية الأمريكية تقوم بزيارة لعدد من الدول الأفريقية في يناير الماضي ، وقد أشارت بعض المؤسسات الإعلامية الغربية المعروفة مثل إذاعة وتلفزيون البي بي سي ، وصوت المانيا والايكونومست إلى أن الوجود الإيراني في القارة كان على رأس الموضوعات التي بحثتها السيدة كلنتون خلال زيارتها الأفريقية. ومن الواضح أن الحكومة الأمريكية تبذل جهوداً مع الكثير من الدول الأفريقية ، بدرجات متفاوتة من النجاح ، لضمها إلى قائمة مقاطعة إيران. ومع أن إيران تحتفظ بعلاقات اقتصادية ممتازة مع عدد من دول غرب وجنوب أفريقيا مثل السنغال التي أقامت فيها إيران مصنعا للسيارات وزمبابوي التي تزودها باليورانيوم لمشروعها النووي ، إلا أن منطقة شرق أفريقيا تعتبر الأهم بالنسبة لإيران من الناحية الاستراتيجية. فالدول الواقعة في القرن الأفريقي تتحكم في الممرات المائية في جنوب البحر الاحمر ، وتمثل هذه الممرات شرياناً حيوياً بالنسبة لتجارة إيران وأمنها القومي. وقد كانت تقارير استخبارية قد أشارت في عام 2004 إلى أنه بإمكان إسرائيل أن تهاجم اهدافاً استراتيجية داخل إيران نفسها أو باكستان بواسطة غواصاتها الموجودة في البحر الأحمر. أشارت التقارير إلى أن الغواصات التي تحتفظ بها اسرائيل في المنطقة يمكن أن تحمل رؤوساً نووية تمثل بالنسبة لها البديل المناسب في حالة تعرض الترسانة النووية داخل اسرائيل نفسها للتدمير بهجوم استباقي من جانب إيران أو باكستان. لذلك فإنه لم يكن مستغرباً أن تقوم إيران في عام 2009 بتوقيع اتفاقية مع اليمن تسمح لسفنها الحربية باستعمال ميناء عدن في أنشطتها المتعلقة بمحاربة القرصنة على السواحل الصومالية ، أو تسعى للتقرب من دولة إرتريا التي تقع جزر دهلك الاستراتيجية ضمن مياهها الاقليمية وذلك فضلاً عن ساحلها الطويل على البحر الأحمر. لم تكن زيارة نائب الرئيس الإيراني للقرن الأفريقي هي الأولى فقد سبق أن قام عدد من المسئولين الإيرانيين بزيارة المنطقة ، ولعل أهم هذه الزيارات تلك التي قام بها الرئيس الإيراني أحمدي نجاد نفسه لكينيا في عام 2009 على رأس وفد ضم أكثر من مائة عضواً. ركز نجاد خلال زيارته على محاولات الدول الغربية بقيادة الولاياتالمتحدة لفرض هيمنتها على الدول الأفريقية ، ودعا لقيام تحالف آسيوي أفريقي لمقاومة المسعى الغربي. ومع أن رد الفعل الكيني لم يكن متحمساً حيث أكدت الحكومة الكينية أن علاقاتها مع إيران لن تكون على حساب علاقاتها مع الولاياتالمتحدة أو أي دولة أخرى ، إلا أن الزيارة شهدت توقيع عدد من الاتفاقيات التجارية والاستثمارية بين البلدين. وقد سبقت زيارة نجاد إلى كينيا زيارة قام بها وزير الدفاع الإيراني إلى تنزانيا وقعت خلالها البلدان اتفاقية عسكرية. كما قام نجاد مرة أخرى بجولة أفريقية شملت زمبابوي ويوغندا كان من نتائجها مساهمة إيران في بناء مصفاة لتكرير النفط في يوغندا يمكن الاستفادة منها في استغلال الاحتياطي الذي تم الكشف عنه حديثاً في ذلك البلد. من ناحيتها استقبلت طهران عدداً من الضيوف الأفريقيين فقد زارها الرئيس الإرتري أسياس افورقي في عام 2008 ، وقد أشارت بعض التقارير الأخبارية إلى أن قطعاً بحرية إيرانية قامت لاحقاً بعدة زيارات لميناء عصب في جنوب شرق إرتريا. كما استقبلت طهران قبل عامين رئيس الوزراء الكيني رائيلا اودنقا الذي بحث مع رصيفه الإيراني موضوع الميزان التجاري بين البلدين والذي يميل لصالح إيران بسبب صادراتها من النفط لكينيا. وتنشط طهران في تقديم المساعدات الانسانية للنازحين في الصومال وتقول بعض التقارير الغربية غير المؤكدة أن الحكومة الإيرانية وقعت اتفاقيات مع بعض الحركات الصومالية يتم بموجبها تقديم الدعم الإيراني لها في مقابل استغلال اليوارنيوم الموجود في المناطق التي تسيطر عليها هذه الحركات ، وهو أمر قد يكون مستبعداً بسبب عدم الاستقرار الذي تعاني منه كل أقاليم الصومال. وتعمل إيران كذلك على استغلال الرابطة الدينية مع عدد من الدول الأفريقية مثل جيبوتي وجزر القمر لتطوير العلاقات السياسية والاقتصادية معها. تنظر المخابرات الغربية والإسرائيلية بالكثير من القلق والارتياب للعلاقات الوثيقة التي تربط بين إيران والسودان وذلك بسبب موقع السودان الاستراتيجي على البحر الأحمر ومشاركته حدوداً طويلة مع مصر إلى الشمال وعدد من الدول الأفريقية الأخرى ، وتقول الاستخبارات الإسرائيلية أن إيران تستغل الأراضي السودانية لتهريب السلاح إلى حركة حماس في قطاع غزة. وبالرغم من أن الحكومة السودانية تنفي ذلك إلا أن الطيران الاسرائيلي قام بقصف قافلة من السيارات بالقرب من مدينة بورتسودان في مطلع عام 2009 ، وهو القصف الذي راح ضحية له عدد من مواطني بعض دول القرن الأفريقي الذين كانوا في طريقهم إلى مصر بغية التسلل من هناك للأراضي الإسرائيلية أملاً في الحصول على حق اللجوء السياسي في الدولة العبرية. وتقول المصادر الإسرائيلية أن السيارات المستهدفة كانت تحمل أسلحة إيرانية في طريقها إلى قطاع غزة. وقد وقع بعد ذلك كما هو معلوم وقريبا من مدينة بورتسودان أيضاً حادثان فرديان قتل فيهما عدد من المواطنين السودانيين ، وقد أشارت أصابع الاتهام في الحالتين إلى إسرائيل دون أن يثبت ما إذا كانت تل أبيب تقف فعلاً وراء هذين العمليتين. بالرغم من المحاولات الحثيثة التي تقوم بها الولاياتالمتحدة والدول الغربية لعزل إيران عن الدول الأفريقية إلا أن جهودها في هذا الصدد لا تصادف نجاحاً كبيراً ، خاصة وأن إيران وبما توفر لها من موارد وما حققته من تقدم في عدد من الميادين قادرة على أن تقيم علاقات مثمرة مع الكثير من الدول الأفريقية التي تحتاج للدعم الإيراني لتنفيذ برامجها الطموحة في مجالات التنمية المختلفة. وتساهم إيران كما أشرنا أعلاه بصورة إيجابية في إقامة العديد من المشاريع التنموية بعدد من الدول الأفريقية خاصة في مجالات الطاقة واستغلال الموارد الطبيعية. لا شك أن القلق التي تشكله التحركات الإيرانية في أفريقيا للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لا يعادل قلق هذه الدول حول الوجود الصيني المتنامي في القارة ، إلا أنه لا يقل أهمية بسبب الموقع الاستراتيجي للقارة وبصفة خاصة القرن الأفريقي بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها من الدول الغربية. ولعل السياسة التي أعلن عنها الرئيس الامريكي هذا الأسبوع تحت مسمي "استراتيجية الولاياتالمتحدة تجاه أفريقيا جنوب الصحراء" تأتي في إطار هذا التنافس المحموم حول كسب القارة التي يعتقد البعض أنها قد تشكل مستقبل الجنس البشري كله بما تتمتع به من ثروات كامنة. Mahjoub Basha [[email protected]]