رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    المريخ يتدرب بجدية وعبد اللطيف يركز على الجوانب البدنية    شاهد بالصورة والفيديو.. على أنغام أغنية (حبيب الروح من هواك مجروح) فتاة سودانية تثير ضجة واسعة بتقديمها فواصل من الرقص المثير وهي ترتدي (النقاب)    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالفيديو.. حسناوات سودانيات بقيادة الفنانة "مونيكا" يقدمن فواصل من الرقص المثير خلال حفل بالقاهرة والجمهور يتغزل: (العسل اتكشح في الصالة)    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    هل رضيت؟    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخِفَاضُ بين تَرْغِيب الشَّيطَان وتَرْهِيب الأدْيَان
نشر في الراكوبة يوم 08 - 04 - 2012

بعد تَكَرُّمِ مجلة الثقافة السودانية التي تصدر عن وزارة الثقافة والشباب والرياضة بنشر مقالي الذي حمل عنوان "ضَرُورَةُ الخِتَانِ ومِحْنَةُ الخِفَاضِ" وقدَّم له الأُستاذُ الجليل الدكتور الصديق عمر الصديق على صدر صفحاتها الأُولى من عددها رقم (41) الصادر في اكتوبر 2010، ثم نشره لاحقاً على صفحات موقع Sudaneseonline.com ومرة اُخرى قبل بضع أسابيع على نفس الموقع، وأيضاً على موقع alrakoba.net، طالعت بإهتمامٍ وتروِّي ما أفرده القُرّاء أسفل المقال أو بعثوا به إليَّ مباشرة عبر البريد الأثيري، من آراءٍ وتعليق حول موضوعه ومحتواه. وقد إتَّسَم طابعُ القليل من هذه الآراء بالجدِّية وإبداء الرغبة في الحوار الرشيد وتبادل الرأي الهادف وهو ما صبونا إليه. كما ضجَّ غالبُها بالسخف والسخرية والهزل مع الجنوح للسَّباب والشَّتْم بعبارات سافرة نابية ومبتذلة لم يسلم منها بطبيعة الحال شخصي وخصوصيتي، وذاك نتنزَّهُ عن الرد عليه ونستحي أن نورد ذكره هنا أو نُعلَّق عليه إذ لا يسمح المقامُ والقَدْرُ بذلك.
ولهؤلاء، وغيرهِم، أود أنْ أشير بأني لست بكاتبٍ أو محققٍ في الشُّئون والقضايا الإجتماعية، مثلما لست، كذلك، بعالمٍ مُتخصِّصٍ أو باحثٍ نشطٍ في مجال أمراض النساء والولادة. كلما قصدته بالكتابة، في الواقع، كان لإبداء الرأي حول مأساة خفاض الفتيات تحت عنوان "ضَرُورَةُ الخِتَانِ ومِحْنَةُ الخِفَاضِ"، من وجهة نظري كطبيب مُمارس ومُتابعٍ مهتم، والتعرُّض للجوانب المتعددة والمتباينة، والخلفيات المُتشعِّبة المحاور لهذه الممارسة الذَمِيمة، والتى لم تزل مستشرية برواج وإقبال كبيرين دون رادع أوضابط في مجتمعاتنا الضاربة بأطنابها في معاقل الجهل والتَّخلُّف. كما عمدت بذلك، أيضاً، أن أفرد طرحاً وافياً أضعه بين يَدَيْ القارئ الكريم وتيسير مُتناوله في ذات الوقت للأخوات والإخوة المهتمين والناشطين في شأن هذه القضية الإجتماعية والصحية الهامة بُغْيَة الحوار الجاد والتفاكر الرشيد حول مأساتها وما تَجُرَّهُ على فلذات أكبادنا وعلينا من محنة ووبال، مع العمل على الوصول لأمثل الحلول وأنجع الوسائل لمحاربتها وإجتثاث شأفتها وإقتلاع جذورها من خزين عاداتنا البالية وأدمغتنا المتحجِّرة.
ومما لا شك فيه أن محاربةَ مثل هذه العادات والممارسات الخاطئة والتى ظلت مُتغلغلة منذ حقب سحيقة في نسيِج مجتمعاتنا المُحافظة وتركيبها الإجتماعي المُعَقَّد حتى أصبحت تقليداً وعُرفاً ذي عيارٍ شعبي وعقائدي مُقدَّس يستند إلى خَلفِيِّةٍ تاريخية متوارثة، أمراً عصىَ المنال قد لا يتحقق بلوغه حتى يلجَ الجَمَلُ في سمِّ الخياط. فالجهل المطبق، والعُنْجهية البلهاء، والغطرسة الهوجاء، والعُقد المُركَّبة وعمى البصيرة المتفشِّي بين وُلاة الإمور وحَمَلة المسؤولية وأدْعِياء الوِصَاية وزَعَمَة الوِلاية على عباد الرحمن، خاصة في المجتمعات القبلية والتقليدية المتخلفة مثلما يتبدى ذلك في مجتمعنا السوداني المعاصر، تقف عائقاً منيعاً وسدّاً حائلاً دون إمكانية الفكاك منها وقطع دابرها.
ويظهرُ ذلك جلِيَّاً وواضحاً في إدِّعاءات كثيرٍ من المتشدِّدِين لعملية الخِفَاض والمناصرين لها، إذ يعتبرونها في زعمهم المُتطرِّف أمراً سماوياً مُنزَّلاً لكبح جماح المرأة وحَدِّ شهوتها الجنسية العارمة منعاً لفاحشة الزنا وإنقاذ البشرية من إغوائها ومُكْرِها . . يا للهول ويا للويل من كارثة تحيط بعباد الرحمن الأتقياء الرُكّع السجود !
إني أُسبِّحُ بحمد الله في ليلي ونَهاري وأحْمَدهُ وأشْكُرهُ على خير النِّعَم، وأخافُهُ ربِّي العظيم، غير أن هذا الزعم والإدِّعاء عند أمَّةٍ مُسْلمةٍ، أحسنت تلاوة كتابَ الله العزيز وأتْقَنتْ فهم مكنونه وإستوعبت معانيه وتشرَّبت بِسُنَّةِ رسوله الكريم، يُزعزعُ اليقين ويثيرُ الشكَ في النفس المؤمنة المطمئنة حول إستيعاب مفهوم الزنا وشرعية تحريمه، ويُقْحِمُ القدرةَ الإلهية بظن هؤلاء ويصفها وهى المُنَزَّهةِ من الخطأ والإستدراك، وكأنما الذات الإلهية الرحيمة أرادت أن تُوقع بأمَةِ الله حواء البشر. ففي تخيُّلِ أعوان الشيطان هؤلاء وتصورهم الواهم أن الله بعد أن أكْمَلَ خلق المرأة وأحسن تصويرها وأبدع في خلق أعضائها، ومنها بنية أعضائها الجنسية والتناسلية، وغَرَسَ في طبيعتها بحكمته ومشيئته، مثلما فعل بآدم، غريزة الرغبة الجنسية لمعاشرة النصف الآخر بِغَرَضِ التوالد والتكاثر وحفظ النسل والخلق، إستدرك كما في ظنِّهم وقوع خطأً في خلق وبنية تلك الأعضاء وعابه أن ينقض غزله من بعد قوة بإرادته الإلهية، فأوعز مُتَجاوِزاً أنبيائه ورسله الأكرمين إلى خُلفائه بأرض أفريقيا، وبِخاصةٍ بلاد السودان .. أرض ما وراء الحرمين ومنبع المعجزات والكرامات والخوارق، لإصلاح ما أفرط في تسويته من أعضاء الحس الجنسية الأنثوية ومكمن اللذة عندها فأمرهم بقطع وبتر كلما نتئ منها أو برز وتضييق ما زاد إتساعه عن الحاجة بإحكام تام كى يدْرء عنهم شَرَّ ما خلق وشَرَ النفاسات في العُقَدْ. ثم سنَّ لها القوانين الصارمة عند تماديها في هذا الشر وإغواء عباده الصالحين، ووعدها بأشد أنواع العقاب من وأدٍ ولحدٍ ورجمٍ وحدٍ وسَحْلٍ وقطع من خِلاف. أقول لأولئك بعد أن أستغفرُ اللهَ ربي وأسبحه بكرة وأصيلا: أين ورد ذلك في كتابه العزيز؟ أو على لسان أيِّ رسول أونبي كريم؟ قَبَّحكم الله وعليكم اللًّعنة أنَّا حَللتُم يا أهل الإفْكِ والنفاق وأولياء الشيطان.
لم تزل عمليةُ الخِفَاض في إعتقادي، وبعين العقل وحجة المنطق وبعد كل الذي أوردته جملةً وتفصيلاً في البحث المشار إليه عاليه، جريمةً بشعةً لا تُغْتَفَرْ وشروعاً في القتل إن لم يكن القتل بعينه، يشارك فيه كل من يمارس تلك العملية أو يدعو لها أو يساندها بالفعل أو القول أوالصمت. ولذا فالبَتُّ في تحريم ممارستها وإنزال القصاص بمرتكبيها أصبح أمراً عاجلاً لا يحتملُ مزيداً من تبديد الوقت ومضيعة الزمن في محاجة المُتَشَعْوذين والدَجَّالين ولجاجة الجُّهلاء والمُدَّعِين، ففي كل يوم تشرق فيه شمسُ النهار يزداد عدد الضحايا بين القوارير والأبرياء والقُصَّرْ في تصاعدٍ مُطًّردٍ ليَرْتَفِعَ بذلك معدل الوفيات بينهنَّ بِسببِ إجراء هذه العمليات، والتى أصبح معظمها يتم في سرية تامة بعيداً عن أعين الرُّقباء، أو نتيجة لمضاعفاتها اللاحقة كما في حالات الولادة المُتعسِّرة والتي تنتهى في أحسن حالاتها بموت الأُم أو الجنين، وفي أسوأها بموت الإثنين معاً. ولا يمكننا أن نحمَّل الآباء والأمهات وأولياء الإمور وحدهم تبعة هذه المجازر البشرية الدامية بل تقع مسؤولية ذلك في الأساس على عواتق المسؤولين في أجهزة الدولة المُختصَّة والمعنية من قَضاءٍ، وصحة، وتعليم، وإعلام، وتوعية وإرشاد. ولكن أين هم هؤلاء الأشباح المُتَخَفِّين في عوالم ماديّةٍ لاهية ؟ وهل هناك وجودٌ حقيقيٌ ومسؤولٌ لهم في حياتنا، أم هل يعنيهم في واقع الأمر ما يجري ويحدث في واقعنا المرير؟ لا أظنُّ أن لدى هؤلاء الذين أصبح لا يهمم شيئاً في هذه الفانية غير السعي اللاهث وراء رغباتهم وأمانيهم التي لا تُشْبَعْ، أقلُّ قدر من تَحَمُّل المسؤولية تجاه مواطنيهم ورعاياهم، ولا عجب في حالِ أُمَّةٍ صار من طباع غالبها الرقص والغناء والمجون وكثرة الطرب، وكيف لا وراعيها ورَبُّ بيتها وقائدها مُهَرِّجٌ رقَّاصٌ، هجاصٌ، هياصٌ، نَبَّاحٌ، سَفَّاحٌ وبالكفِّ ضاربٌ، مما أذلَّ هيبته ووقاره أمام رعيته وأرهق سُمْعَةَ وطنه وبلاده أمام المجتمع الدولي حتى فقدت مجدها وكرامتها وهويتها .. وأعزَّ ما تملكه الشعوب والأُمم. فعزة الأوطان لا تُقدّر بلونِ تُرابِها أو مذاقِه الذي لن يجدي نفعا إنْ نستفَّهُ أو نذريه على الرؤوس في أوقات المحازن والنكبات والبلاء والمحن، إنما بأبنائها ورجالها الذين يُعْلُون من قَدْرها ومكانتها ويرفعون رأية مجدها بين الشعوب والأُمم، أمثال بعانخي وترهاقا، ومهيرة وعجوبة، والمهدي ورجاله وعلى عبداللطيف ورفاقه، والقرشي وأترابه وغيرهم من أخيارها الذين ضَمَّهم ثراها الرطيب وحفظهم تاريخُها العريق. وتلك نُخبة من الأبرار الأجلاء إندثر إسم بلادنا برحيلهم وتمزّقت من بعدهم أشلاءً، فأغار عليها عُصبةٌ من أراذل البشر لا يخافون الله ولا يخشون في غير الحق لومة لائم، أولئك هم شرُ البرية من زبانية الحكم وسدنة النظام وشراذمة السلطة وأهل النفاق والإفك والضلال، الذين إنقلبوا على ديمقراطية الحُكْمِ وإرادةِ الشَّعبِ في بلادنا فأنتزعوا مقاليد الحكم والسلطة فيها بالباطل ودون وجه حق، وأدَّعُوا خِلافةَ الله في أرضٍ ضمَّتْ تحت ثراها عباده المُتَّقين وأولياءه الصالحين، فأصبحوا الحاكمين بأمرهم في البلاد، وبسطوا نفوذهم وسلطانهم على كل موقع ومطرح ومقام، وسادوا فيها ظلماً وقهراً وفتكاً وتقتيلا، وعاثوا فيها فساداً وفتنةً وإفكاً ونفاقاً، فنقصوا الكَيْلَ ومنعوا الرِّزق وكنزوا المال وهتكوا العرض وأفنوا الحَرْث والولد، ثم أشعلوا نار الفِتن والحروب والدمار في كل منحى ومضرب وما زالوا في غيهم وطغيانهم يتصارخون ليلاً ونهاراً بأعلى الحناجر حتى أزبدت أفواههم وهم يهللون بإسم الله والله أكبر الله أكبر. ولم يدرك الذين كذبوا ونافقوا بإسم الله وسنة رسوله أن أبوابَ الرحمة كادت أن تُغْلَق في زمانٍ رُفِعَتْ فيه البركة عن الناس حتى أصبح حُفاتهُ وعُراتهُ يتطاولون في البنيان، وما ظنَّ هؤلاء أن الله إن أراد أن يُذُلِ طاغيةً ظلم رعيتَهُ ولم يعدل في حكمه أمدّهُ في طغيانه وصلفه وهو الذى يُمْهِلْ ولا يُهْمِلْ، أو كما جاء في كتابه المكنون: "اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ" البقرة (15)، وفي الحديث "كُلُّكم راعى و كُلُّكم مسئولٌ عن رعيته" عن إبن عمر، رواه مسلم.
وتَدّعِي جمهرةٌ من المناصرين للخِفَاض والمتشددين في دعواهم بسُنَّتِه أوشَرْعِيته، أنه الوسيلة المُثْلى لحماية الفتيات من الإنحراف الخُلقي والمحافظة على شرف القبيلة ووقاية المجتمع من الفاحش والمنكر. هذا كلام جَدّ غريب! وأغرب ما فيه الدعوة الشيطانية المُسْتَترة لِتَشْرِيع الخِفَاض بدعَاوي النَّفاق ووسائل الترهيب التي يلجأ إليها ويمارسها المتطرفون من رجال الدين وإستغلال الواعز الديني في نفوس البسطاء من أجل تحقيق مآرب أُخرى لا صلة لها البَتَّة بالديانات والعقائد والعبادات أو سعياً إلى إبتغاء مرضاة الله. إنَّ إحترام وجة نظر الآخرين وتقبّل الرأي السّديد الذي بُنِي على فهم عقلاني سليم وقام على تحليل علمي منطقي والسعي للحوار الهادف وتبادل المنفعة العلمية النَيِّرة، هو دأب العقلاء وأهل النُّهى والبصائر، غير أنِّي أجدُ في هذا الإدعاء كثير من الغرابة، بل هترٌ وهرطٌ وسفه يكشف عن ضحالة فكرية عوراء يجب ألاَّ يصدر عن أهل المعرفة بالشئ والعالمين بحقائق الإمور. كما إنه من العيب، أيضاً، أن يتفوَّه به بعضُ الأطباء وأهل المِهَنِ الإنسانية النبيلة فهذا وأيم الله مُخْجِل ومؤسف ومُعِيب. وواقع الأمر، أن إستشراء رذائل الدعارة وهتك الأعراض وإغتصاب النساء والأطفال وممارسة الشذوذ الجنسي بكل أنواعه من لِواط وسِحاق أو غير ذلك في المجتمع السوداني، وإن بات لا تَحَرُّجَ فيها في يومنا هذا، لا علاقة لها مطلقاً بشَرْعِيَّة أو عدم شرعية الخفاض. كما ليس لها ما يبررها بما يدور حولها، حالياً، من لقط وسقط قول. وحتى لا ندمنُ وضع الأصابع في الآذان حذر سماع كلمة الحق ونمعن في دسِّ الرؤوس مثل النعام في رمال القوز أو تلال صحارينا الكبرى توارياً عن مواجهة الحقيقة وتَهَرُّباً من الواقع المرير وخداع النفس بالمجاهرة بالصدق وإلإيمان، علينا أن نفهم ونعى بأن هذه الظواهر الأخلاقية الرذيلة التي تكتئب لها النفس الكريمة، تلك التي طفحت على سطح مجتمعنا وكادت تغطي مساحة ما تبقى لنا من هذا البلد المتعوس، إنما هى نتاجٌ طبيعيٌ للكبت والحِرمان الجِنسي بكل أسبابه ودوافعه والذي وجد له مَنْفَساً في غياب الوازع الديني والتربوي في النِّفُوس وبسبب التدهور والإضمحلال والإنحطاط الذي إنزلقنا فيه حتى القاع وما لازم ذلك من تهتُّكٍ وتَحْلُّلٍ في الأخلاق والقيم والأعراف والمُثُلِ الجليلة التي ظلت متوارثة بيننا من جيل إلى جيل حتى صبيحة يوم إستقلالنا المجيد. وتظهر آثار هذا التدني المُخْجِل بشكل خاص خلال فترة ما يربو على العشرين سنة الأخيرة والتي ظلت تحكم البلاد فيها وتسيطر عليها عُصبةٌ من أشرار قومٍ ظلت تُوهِمُ العباد بالحكم بكتاب الله وسنة رسوله، والله ورسوله بَرآءٌ مما يفعلون. فالمسؤول المباشر عن كل هذا التهاوى والسقوط ليس هو (عبد الخير عوض الله ود جارالنبي)، ذلك المواطن المُسَالم البسيط، المؤمن الراضي بما رزقه الله به في هذه الدنيا الزائلة من خير أو شرٍ، إنما هم ولاة الأمر على الرعيَّة والطغاةُ الحاكمون بأمرهم، الذين كذَّبُوا على الناس ومكرُوا بهم مَكْراً ونافقُوا بإسم الله وبإسم الدين وبإسم الأنبياء والأولياء والرسل، فنسَّكُوا البُسطاء ورهْبنُوا الفقراء وزيَّنُوا للعباد زيارة بيوت الله المُزَرْكَشة بالتُّحف وأنوار الزينة وكلَّما يلهى عن عبادة ربِّ البيت، ثُمَّ سيطروا على الإقتصاد والتجارة والأسواق، وباعوا للبسطاء الآخرة بالدنيا، ووعدوهم الجنة والحُور العين بوعودٍ لا رصيد لها، لا في الحياةِ الدنيا ولا في آخرتِها، ثُمَّ سلبوا الناس عِقُولهم وحرموهم أبسط متطلبات الحياة الكريمة. فيا للعجب ثم يا للعجب حين أرى اليوم في أرجاء عاصمة البلاد ومَعْقلِ الفسادِ فيها إنتشار المساجد الفارهة المُكَيَّفة الهواء والتي يستحي عن دخولها الفقراء والبؤساء والمَحْرُومون خِشية أنْ يُدَنِّسُوا بأقدامهم الحافية المُشَقّقة سجادها الفاخر الوثير أو أنْ تُذْهِب بأبصارهم أضواءُ النجف والقناديل المُعَلَّقة التي تُبَهْرِجُ قبابها ومآذنها وبهواتها، وهم لم يروا مُشْكَاةَ نُورٍ في بيوتهم الُمظلمة منذ عدة شُهور خَلَتْ لعجزهم عن سداد فواتير الماء والكهرباء الباهظة الأسعار. حين أرى كل هذا يحدث في بلدٍ غنيٍّ بثرواته الطائلة وأهلهُ فُقراءٌ تُعَساء، أصبح كُل حُلم المواطنِ المغلوبِ على أمره فيه أن تتوفَّر له أبسط متطلبات الحياة الكريمة ولُقمة العيشِ الهنية لأطفاله الصغار، كى يسُدَّ بها رمق جوعتهم، وإنشاءَ المدارس ودورِ العلمِ والمستشفيات ودعمها، وتوفير فرص العمل والكسب الحلال وتحسين الخدمات العامة لتأمين تعليمهم وعلاجهم وضمانِ مستقبلٍ كريم وحياة آمنة لهم، وحين أستوعب بالفهم البسيط محنة ما وصلت إليه حالُ هذه البلاد، أكادُ والله لأرى كما يرى النائم في المنام ملائكةً غِلاظَاً شداداً من خزنة نار تلفُظُ حِمماً وترعدُ غضباً وقودها الناس والحجارة، يأتون بهؤلاء الأشقياءِ يوم القيامة صفاً صفاً، وفقراء هذا البلد المظلومون من سائل ومحروم مُلْتفِّين حولهم شاهدين، فيسألونهم: أولم تكونوا خُلفاء الله في أرض السودان يا هؤلاء؟ قالوا: بلى، ثم تُعْرَضُ عليهم المساجد وبيوت الله التي تمادوا في عَمَارَتِها وزينتها يتفاخرون بذلك على الملأ والله غني عن العالمين، وقصورهم الشاهقة الواسعة، وما كنزوا في خزائنهم وحساباتهم الخاصة في بنوك الشرق والغرب من عائد البترول وأموال هذا الشعب المحروم، ثم يُسألون: ومن أين لكم هذا يا خلفاءَ العَادلِ الحَكَمِ، وقد كنتم في مسقط رأسكم وبين أهليكم حفاةً عراةً قانعين، فبماذا تُجِيْبُون أيها التُّعساء في الدنيا والأشقياء في الآخرة وأنتم تقفون بين يَدَي الله في يومٍ لا ظلَّ فيه إلاَّ ظلّه، وبماذا تُجيب يا بشيرُ السوء ويا نذيرُ الشر والدمارِ، وماذا تقول وقد فعلت ذلك بأهل هذا البلد الآمِنْ الأمين وشعبه الكريم.؟ ماذا تقول ...؟ وقد إحتطبت الأخضر واليابس، وأفنيت الزرع، ونهبت النَعَم، وأحرقت المتاع، وقتلت الشيوخ والشباب من قال منهم لا إله إلاَّ الله أو لم يقلها، ثم أبحت العرض، وسبيت القُصَّر وأيَّمت النِساء وأيتمت الأطفال، ولهؤلاء يا عمر بن (الحطَّاب):
مَاذا تَقُولُ لأفْرَاخٍ بذيِ مَرَخٍ زُغْبِ الحَوَاصِلِ لا مَاءٌ وَلا شَجَرُ
ألقَيْتَ كاسِبَهُمْ في قَعْرِ مُظْلِمةٍ (فَأرحل) عَليْكَ (اللعنة) يا عُمرُ
ماذا تقول بعد كل هذا؟ لن تقول "لم نفعل". لكنا نقولها قولةَ الحقِ جهيرةَ: إرحلْ وبطانتك عنا فلستم منَّا، إرحلِ إلى هناك وأذهب حيث طلبتك عدالة البَشًرِ لِتَمْتثِل أمام محكمة العدل الدولية فهذا أهون عليك من الوقوف بين يَدَي الله العادل القهار، إذهب إلى هناك وأبقي بعضنا، حنانيك .. إنَّ بعضَ الشَّرِ أهونُ من بعضٍ.
حين أستشعرُ كل هذا وما آل إليه حالُ بلادنا من تفككٍ وتحللٍ وتدهورٍ وإنحطاط وتَمَزُّق، وما تدنَّت إليه القِيمُ والأخلاقُ والأعرافُ والمُثل إلي أسفل درك ليس تحته قرار، حتى رأيتَ المُسِنَّ بلا مأوى ولا عون، والفقير بلا قوت ولا زاد، والمريض بلا دواء أو طبيب والأرمل بلا سند أو مُعين، واليتيم بلا عائل أو حاني، والعارى بلا ساتر أو كاسي، والجاهل بلا ناصح، والمظلوم بلا ناصف، والمقهور بلا ناصر، والطريد بلا آوِي، والمحارم بلا ساتر، والعائد بلا أهل، والأحياء بلا أمل والأموات بلا كفن، والحاكم المستهتر الظالم بلا وازع أو زاجر، فإنيِّ والله لا أملك إلاَّ الإمتثال لِحُكْمِهِ الأوحد الصمد والإيمان بقضائه وقَدَرِه، والتعزِّي بما كانت تردده السيدة عائشة رضى الله عنها عن لبيد بن ربيعة وهو شاعر جاهلي بلغ من العمر عتيَّاً حتى ذاق الأمرين، فقال لبيد الحكيم ما كانت ترددهُ أُمُ المؤُمنين:
ذهب الذين يُعَاشُوا في أكنافهم وبقيتُ في خَلَفٍ كجلد الأجْربِ
فبحكمة لبيد يكون آخر قولي لهؤلاء الغوغاء الجرباء، حفاة العقل وعراة الخُلُق، أنْ دعوا إسم الله الأكبر الأوحد في ملكوته الأعلى وفي قلوب المؤمنين وإذهبوا إلي من حيث أتيتم فمأواكم جهنم خالدين فيها، ودعوا أهل هذا البلد الآمن المُؤمِنْ، المُسَالم المُسْلم في حالهم حتى يقضي الله بهم أمراً كان مقضياً.
إن التهويلَ في التشدُّدِ، والمكابرة بالزعم، والمبالغة في التَعْنِيف من جانب المناصرين لعملية الخفاض، حين يقوم الجدل ويسمو الحوار بين العقلاء والعارفين حول رفضها التام كوسيلة بدائية ليس لها مبرراتها الدِينية أو المنطقية أو العقلانية لكبح جماح المرأة وقهر غرائزها الجنسية مِنَّةُ الله عليها وحكمه، ومحاولة ذرِّ الرماد في العيون من جانب المتعصبين والمنحرفين فكرياً كلما تفتحت بصائر الناس على جريمة الخفاض وتبعاتها، وقهر آرائهم بإسم الدين والعقائد، كل ذلك يجعلُ من هذه الإدعاءات الواهمة والإفتراءات الكاذبة سبباً مقنعاً يقود أهل البصائر مرة أُخرى للسؤال الحتمي عن وضعية المرأة في الإسلام ونظرة الدين الحنيف إليها كأم وشريكة حياة وأخت وإبنه. إن الدين الإسلامي والسنة المحمدية والشرائع السماوية قاطبة من زبورٍ وتلمودٍ وإنجيل (البشارة) وقرآن كريم بجَّلت المرأة ورفعت من مكانتها وشأنها وقدرها، وقد جعلها الله كالرجل من حيث التكليف والمسؤولية: "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ" آل عمران 195، ولم يُغيبها أو يُهمشها: "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" الأحزاب ۳5، وساوى بينها وبين الذكر وجعل لها قيمة عليا توازي الرجل في المجتمع: "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ" البقرة 228، كما أشار الإسلام إلى أهمية دورها في الحياة وتربية النشئ، وأوصى بإنصافها وحفظ حقوقها وحسن معاملتها. أولم يعي هؤلاء قول عيسى نبي الإنسانية: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر"، أم فات عليهم عند تلاوة الشيخ الوقور في المسيد وقد صرعهم الهوس الديني حتى زعزع بصائرهم وشلَّ صوابهم: "وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ" التكوير (8)،(9)، أم نسوا وصية رسول الرحمة محمد بن عبدالله بحمايتها وأمنها: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" عن عائشة أخرجه الترمذي، و"الراحمون يرحمهم الرحمن، أرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" رواه الترمزي والبيهقي، فأرحموها يرحمنا الله جميعاً.
لقد جاء في سير الأنبياء والرسل كثير من القصص والأخبار والمواقف التى تحوي في مضمونها عبراً ومواعظاً ودروساً قيمةً، وفي بعضها تلميحٌ وإشارةٌ إلى وضعية المرأة في نظر الديانات السماوية المقدسة حتى كادت أن تُقَرِّب إلى الفهم والأذهان بأن حول كل نبي أو رسول كريم إمرأةٌ عظيمة، وقد حثَّ الدين الإسلامي الحنيف على تبجيلها وتقديرها ورفع مكانتها كما ورد في تلك القصص، "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ" يوسف۳، "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" يوسف 111.
ففي قصص القرآن الكريم وردت قصة سيدنا يوسف بن يعقوب بإسهاب وتفصيل. لقد منَّ الله على سيدنا يوسف بالجمال المفرط الأخاذ والذي كان سبب محنته عندما رأته زُلَيْخَة إمرأة العزيز، ذات الجمال الفاتن وصاحبة الجاه والعز والمكانة السامية، فأخذها بجماله وخلقه السوى مما أشعل في نفسها جذوة الحُبِّ الذي غلبها على حيائها حتى هاج بها هائم الغرام وأعتزمت على شفاء ما في نفسها من الصبابة وصارحته القول وطلبته في نفسه، إلاَّ أنه كان عفيفاً ووفياً بسيده وزوجها عزيز مصر، فأستعصم، "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ" يوسف (2۳)، وما أراد القرآن الكريم بهذا السرد والتصوير إظهارُ المرأة كمخلوق وضيع مبتذل كل غايتها تَصَيّد الرجال وإشباع رغائبها الجنسية، بل إنسانة رقيقة ومرهفة، لها عواطفها وأحاسيسها ومشاعرها النبيلة التي تحكمها غرائزها الإنثوية دون أن تملك السيطرة عليها والقدرة على كبتها وتجاهلها، خاصة وهى تجد نفسها ماثلة أمام جمال إلهي أخَّاذ يفعل سحره بالنفوس ولا حيله لبشر عن مقاومته غير الإنصياع إليه والإنقياد له، كما حدث لزُليخه وفعل بصويحباتها الأُخْريات من نسوة المدينة فما كان حالهن بأحسن منها: "فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَّ أَيْدِيَهُنَّ وَقْلنَ حَاشَ لِلهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَراً إِنْ هُذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ" يوسف۳1، ثم كشفت لهن عن حبها له وأعترفت لَهُنَّ بإغوائها ليوسف: "قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ" ، "قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ" ، "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ" يوسف (۳2'51'5۳)، والإنسانُ ضَعِيفٌ أمام نفسِه ورغباتِه وهواه، وفي تنازعٍ دائمٍ ما بين هُدى العقل وجُنوحِ العاطفة وسلطان الغريزة، وَالعقل مُدّبِّرٌ ونَاصحٌ ورشيد إذا تَنَوَّر بالعلم والمعرفة وصقلته التجارب، والعاطفةُ هوجاءُ بطبعها وأثِيْرِيَّةُ المزاج، لا تَرْكُن إلى حالة ثابتة مابين تَفَلُّتِها من هُدَى العقل وجُنوحِها لسلطان الغريزة، أما الغريزةٌ فلا حاكم لها، فهى طاغية ومٌتَمَرِّدة، تذعن المرأةُ لها وتأتمر بأمرها، فهى تهوى وتعشق بقلبها وعاطفتها، وتَهْتَدِى بعقلها وحواسها لكنها تسعى وترغب بغريزتها التى جُبلت عليها. "وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا" النساء (27)،(28)، وبهذا إنسجم الإسلام مع الواقع، فأحترم نوازع الضعف لدى الإنسان، فلم يطلب منه إلغاءَها وتجميدها تجميداً تاماً، بل هيأ له مجال التعامل على أساس إيجاد الجو الذي تتنفس فيه دون أن تفقد الروح معه طهارتها، أو ينهار معها الإنسان في شخصيته. وفي المجتمعات المحافظة التي تجعل معايير ومقاييس القيم الأخلاقية كالعيب والحرام والعفة والشرف مرهونة بتصرفات نسائها، ينحون إلى ترشيد هذه الغرائز الإنثوية وتقويمها في مراحل العمر الأولى بمنهج التوجيه السليم والإرشاد القويم وحسن التربية لتفادى الإرتباك في تصرفات الفرد وتَقبُّل المجتمع لهذا السلوك وفق المعايير التي وضعها لتلك القيم والأخلاق. وقد أراد القرآن هنا أن يُلمِّح إلى إحترام هذه المشاعر والأحاسيس الإنسانية والشعور الغريزي لدى المرأة، مع إعتبار ذلك لا تجاهله، وعدم قسرها ضد رغباتها الشخصية بل ترك حرية الإختيار لها عند تفضيلها لمن تهوى أو تحب ليكون زوجاً لها وشريكاً في حياتها المُسْتقبليّه. فالكبت والحرمان والنهى والعقاب هى ضوابط وعقوبات وقتية لترضية المجتمع لكنها تقود المَعْنِي بالعقاب الى العناد والتصرف في وِجْهَةٍ مغايرة، لما في نفسه من إحساس بالظلم والقهر وعدم مراعاة وإحترام رغباته وحقوقه.
ويظهر أثرُ التَرْشِيد التربوي للنفس والغريزة في قصة السيدة مريم العذراء إبنة عمران التى عُرفت بالتقوى والورع وبالحشمة والوقار والإتزان، وقد شاء الله أن تحمل بنبيه عيسى عليه السلام دون أن يمسسها بشرٌ، وأن يكون ذلك في مجتمعٍ محافظ وهى سيدة عفيفة النفس طاهرة الجسد "قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا" مريم (20). ولعل العبرة في هذه القصة هى التوجيه بأن نحسن الظن بالمرأة ولا نضعها في موضع الإتهام مباشرة أو نتسارع في سُوء الظنِّ بها وكأنها بؤرة للشر والفساد وتجريدها من صفتها الإنسانية ومعاملتها كالأنعام والسوام "فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ إمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا" مريم (27) ، (28)، فبرأ القرآن السيدة مريم الطاهرة العذراء وقد إتهمها قومها بمثل ما إتُهمت به السيدة عائشة رضى الله عنها بقوله "وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا" النساء (156)، كما برأ السيدة عائشة طاهرة الذيل مما نُسِب إليها من الإفك الدنئ في حديث الإفك، فأغار الله عزَّ وجلَّ لها ولنبيِّه صلوات الله وسلامه عليه وأنزل برءاتها صيانة لعرض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ". وفي قصة نبي الله ورسوله سليمان بن داؤود مع بلقيس بنت ذي شرح ملكة سبأ من بلاد اليمن أراد القرآن أن يشير إلى عُلْوِ مكانة المرأة وقدرتها على إدارة شئون المملكة والحكم وتسيير سياسة الدولة والإهتمام بشئون الرعية وأمنهم وسلامتهم، فهاهي بلقيس ملكة الأمبراطورية السبأية يأتيها الهدهد رسول من سليمان الحكيم برسالة يدعوها فيها إلى وحدانية الله، طالباً منها المثول أمامه وقبول دعوته "إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ" النمل (۳0) ، (۳1)، فهالها الأمر ودعت إليها سادة قومها وكبار رجالات دولتها وقواد جيشها وأهل مشورتها تعرض عليهم الأمر وتشاورهم في هذا الموقف العصيب والأمر الجلل، فأخذتهم العزة والحمية والحماس وقد كانوا صابئة وأُولى بأس شديد "قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ" النمل (۳۳)، إلاَّ أنها بفطنتها وبصيرتها النافذة وحكمتها الثاقبة ومسئوليتها عن قومها ورعيتها آثرت الجنوح للسلم ومفاضلة الحوار لتجنب مملكتها ورعيتها سوء العاقبة فقدمت النصح إليهم بقولها: "قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ" النمل (۳4)، فقد فهمت رسالة سيدنا سليمان واستبصرت بأنها تقف في مواجهة ملك عظيم لا حول ولا قوة لها أمام قدراته وقوته وعتاده وهو نبي الله ورسوله الذي أكثر الله عليه من النعم وأَجَلَّهُ وملَّكَهُ على خزائن الأرض وعلمه منطق الطير ولغة الحيوان وسخَّر له الريح والجنَّ وأسال له عَيْنَ الْقِطْرِ. فقدمت لهم النُّصح أن يتجنُّبوا حرباً لن تجر عليهم وعلى بلادهم إلاَّ الهلاك والدمار وأختارت الحوار والمنطق طريقاً للسلام، ثم قادت وفداً من كبار رجالات دولتها ووفدت إلى سليمان في (أورشليم) عاصمة مملكته حيث أمر سليمان بِبناء صرح كبير لها مُرِّد أرضه بالزجاج ثم جاءها" الذي عنده علم من الكتاب" بعرشها الجميل لتجلس عليه في ذلك الصرح، ولما رأت كل ذلك أيقنت بقلة حيلتها أمام هذا الجبروت المهول وآمنت بصحة قرارها وصوابه واعترفت بظلم نفسها لعبادتها الشمس وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
وتلك عبرٌ ودروسٌ حول ما تقتضيه شروط القيادة الرشيدة وإدارة شؤون الرَعيِّة من الحنكة والحكمة والأمانة وتحمل المسؤولية، كان واجباً ولزاماً على الذين يتقرفصون اليوم في أوطاننا على كراسى الحكم الوثيرة دون حق، على أقل تقدير أن يعوه. فذاك فرق شاسع وكبير بين قبة السماء وأقطاب الأرض لا يَجْمَع أو يُقَرِّب بين إمرأةٍ حكيمة ورشيدة من قوم سبأ، عاشت في عهد الأنبياء والرسل وحكمت في قومها، فأزدهر مُلكها ونهضت أُمتها وقادت شعبها إلى الطريق السوى، وبين رجل مهاتر أهوج من (حوش بانقا) يعيش اليوم في زمن الهمجية المتحضرة متسلطاً على رقاب قومه حتى ساقهم وبلادهم إلى مهاوى التمزق والدمار وقيعان الفوضى والذلل.
ومثلما نستنبط مما أوردته الكتب السماوية وجاء في كتاب الله العزيز من عبر ومواعظ ودروس، فلنا في رسول الله ونهجه إسوة حسنة. جاء في سيرة إبن هشام أن السيدة خديجة بنت خويلد بن أسد كانت إمرأة ثرية من قريش، إشتغلت بالتجارة وربحت فيها، وعندما سمعت بحسن سيرة محمد بن عبدالله من فتيان مكة والذي كان يُلَقَّبْ بالأمين لأمانته وصدقه ونزاهته وثَقَتْ به وأطمأنَّت إليه وأوكلت إليه بتجارتها، ثم عرضت عليه وقد أعجبت بشخصيته ونقاء سريرته أن تتزوج منه، فقبل بها الأمين وتزوج منها وكان في الخامسة والعشرين من عمره وهى في الأربعين. وعند نزول الوحى عليه (ص) أول مرة يصطفيه نبياً وهو يتعبد لوحده في غار حراء، إضطرب جسمه وأهتز وعاد إلى بيته وهو يرتعد وقد بردت أطرافه، فطلب من زوجته خديجة أن تدثره. ولما علمت بخبره طمأنته وبشرته بالنبوة فقد علمت بأنه الوحى وهو زوجها الصادق الأمين، "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ" المدثر (1)،(2) فكانت أول من آمن من البشر بالرسالة المحمدية ثم تبعها صديقه الحميم وأول خلفائه الراشدين أبو بكر الصديق فكان أول من أسلم من الرجال. ولم يكن هذا التسلسل البديع في حياة الرسول محض صدفة، بل ترتيب رَبَّانِيُّ مُعَدٌ شاءت به القدرة الإلهية، وقد أراد الله بذلك أن يعطينا أول درس في الإسلام وقبل الأمر بالتبليغ وهو يُظْهِرُ لنا قيمة المرأة الحقيقية وزوجة أكرم البشر في نظرالإسلام، حتى قبل بداية الدعوة المحمدية نفسها، فلم يجعل ذلك في عذريتها أو سِنِّها بل في ذكائها ورشدها وثقتها بنفسها وقدرتها على العمل وكسب الرزق، كما أشار إلى مكانتها فى المجتمع قبل نزول الوحى حين قبل الرسول (ص) بها زوجة له وقد كانت لها حريتها في ممارسة التجارة وكسب رزقها الحلال والتصرف بأموالها وكذلك حرية الرأي فيما يتعلق بأمور حياتها ودنياها فأختارته بنفسها زوجاً لها. وتكريماً للمرأة جعلها الله أول من آمن بالدعوة المحمدية من البشر وأول من ناصر الرسول (ص). وقد ظلت السيدة خديجة تساند الرسول الكريم في دعوتة وتدعمه من مالها الخاص وتقف بجانبه وتشد أزره حتى توفيت في العام العاشر للإسلام بعد فترة وجيزة من وفاة عمه أبوطالب، وقد فقد النبي بفقدهم نصيرين طالما شدا من أزره وحزَّ ذلك في نفسه كثيراً وحزن عليهما حزناً شديداً، ولهذا سُمِّى العام العاشر للإسلام في التاريخ الإسلامي بعام الحزن. تزوج الرسول في نفس العام وهو في الخميسن من عمره بسويدة بنت زمعة وهى أرملة عجوز تركها زوجها بلا سند عند وفاته في طريق العودة من هجرة الحبشة، ثم تزوج الرسول بعدها عدة زوجات جليلات قامن بواجبهن كاملاً كزوجات وسنداً لرسول البشرية وأدّين دوراً بارزاً في صناعة التاريخ الإسلامي ولذ سُمِّين بأمهات المؤمنين، وكانت آخر زوجاته (ص) هى السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق والبكر الوحيدة بينهن. تزوجها الرسول (ص) وقد بلغ الخامسة والخمسين من العمر. وفي خطبة الوداع (بمنى) والتي جاءت آية في الروعة والجلال أوصى الرسول بالنساء خيراً وشدد على ذلك: "أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً. ولهنَّ عليكم حقاً" ، "وأستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، وأستحللتم فروجهن بكلمات الله، وسنة رسوله، فأعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت".
وهناك كثير من الأحاديث النبوية وأقوال الرسول (ص) ووصاياه الكريمة التى تشير إلى مكانة المرأة وتدعوا إلى إحترامها وتقديرها. وهذا جانب من سيرةِ الرسول، وسيرتهُ هى نهجه وسنته التي علينا أن نتبعها ونمتثلُ بها، ولكن ألا يختلف ذلك قليلاً عن (سُنَّةِ) القَرْنِ العشرين المُعَدَّلة بقرارت ولوائح حكومات جمهورية السودان المتعاقبة بكل أنواعها من مدنية وعسكرية أو ما بينهما.
إن سياسة إذلال المرأة وتحقير شأنها والقسوة عليها وظلمها وإضطهادها، ناهيك عن وأدها وقتلها العمد الذي كان مُتفشِّياً في العهود الجاهلية والعصور المظلمة لم تختف أو تزول دوافعها في المُخيَّلة الشرقية وخاصة العربية والمتأسلمة، بل تبدلت طرقها وأساليبها في عالمنا الشرقي المُعاصر من القتل الروحي والجسدي إلى الفناء المعنوي والنفسي وهو ما نحسه ونواجهه في مجتمعاتنا المتمادية في سياسات القهر والإستبداد والتسلُّط وما نسعي جاهدين لمحاربته بالوعي والتبصُّر وحكمة العقل والمنطق، بل وبكل الطرق والسبل، وما الخفاض إلاًّ شكلاً من أشكال ذلك القهر والظلم الممارس سِرَّاً وعلانيةَ. وفي ذلك نحتاج لتضافر كل الجهود الواعية والجادة على جميع الأصعدة، وتعاون وفعالية أصحاب الضمائر الإنسانية والنفوذ في مرافق الدولة المتعددة وجهات الإختصاص والمنظمات والجماعات الناشطة وكذلك تعاون الآباء والأمهات والأُسَر وتضامن الضحايا ممن قضى نحبه منهم أو من ينتظر فلا حياء في ذلك، إذ "لا حياء في الدين". ولمقارعة الحُجَّة بالحُجَّة وضحد رأي الذين يُجْمِعون على وجوبية الخفاض لحماية الشرف ومنع تفشي ظاهرة الزنا والدعارة في مجتمعنا السوداني المُحافظ، أرى من الحكمة أن تكون الخطوة الأولى للقضاء على الخفاض وفي ذات الوقت محاربة رذائل الزنا واللِّوَاط والإغتصاب، وجوبية إلغاء المهور الباهظة والمراسيم المُكلِّفة للزواج وتسهيله على الراغبين من الفتيات والفتيان، كما في الحديث: "خَيْرُهُنَّ أَيْسَرُهُنَّ صَدَاقًا" صحيح إبن حيان، رواه إبن عباس. ولا أُميل مطلقاً إلى الرأي الذى ينادى به البعض لمقاطعة الزواج من الفتيات المخفوضات كوسيلة لمحاربة الخفاض، إذ ليس من العقل والحكمة معاقبة المجنى عليه لجرمٍ جرَّه الجاني عليه، فذلك ظلم فاحش قد يودي في كثير من الأحيان بدافع غواية النفس المظلومة والمحرومة إلى سلوك غَيرْ، أو يسوق إلى ما لا يُحمدَ عُقباه، كما لا أتَّفقُ مع البعض في أن الإحجام عن زواج الفتيات المخفوضات هو الوسيلة المُثْلى لمُعاقبة الأُمهات حتى لا يأتين بمثل هذه الفعلة الشنيعة مرة أُخرى، هذا في نظري هراء أجوف، لأنه يدور حول زعمٍ ينقصه فاعلٌ حقيقي لا نائب له إذ هو مُسْتترٌ ولا يستحق تقدير، فالقابلة التى تقوم بعملية الخفاض لا تمارس في ذلك وظيفتها الحقيقية مثل النجار او الحداد والسمكري الذي يعرض مهنته للزبون وينال أجره على حسن صنعة، بل نسعي إليها ونطلب منها ونغريها بإستعمال معداتها الحادة الباتِرة لغرض آخر تحت ستار الأعراف والتقاليد، وكذلك الجَدَّه أو الأُم لا يقومان بذلك لمتعة أو كيدٍ في نفوسهن وقد إصطلين بهذا الجحيم من قبل ولربما إلى يوم يبعثون، إنما يفعلن ذلك لإرضاء رغبة النسيب أو الزوج وإعداد الفتاة لليلتها الأولى مع زوجها المرتقب وبالطريقة التى تُرْضِي الزوج وأتفق عليها المجتمع، وهى إقتحام المعاقل السرية للمرأة وقهر حصونها بقوة السلاح. وهنا بيت القصيد والفاعِلُ الحقيقي الذي تَتقَمَّصه عقدة الرجل الشرقي، وطائر الرُّخ الخُرافي بعينيه ومخالبه الجارحة، الذى يعشعش على أُم رأسه منذ أن عرفت أساطير الشرق غرائب رحلات السندباد البحري وعجائب بلاد الواق واق. فالرجل لا يعترف في مَعْرِكةٍ توسُّعية حامية الوطيس لغَزْوِّ عالم المرأة الملئ بالأسرار والعجب العُجاب، أن يقبل وهو القائد الأعلى المسيطر على الجيوش الهمجية التي تحكم هذا العالم وتسيطر عليه، بأنصاف الحلول أو سياسة اللين والمهادنة، ولا يتفوه بعبارات ناعمة رخوة تنم عن الضعف واللين، عملاً بما نادى به رسولنا الكريم في حديثه في شأن آداب العلاقة الزوجية "ولا ترتموا على نسائكم كالبهائم، بل أجعلوا بينكم وبينهم رسولاً". فالفهم الخاطئ للرجل عن مفهوم المُعاشرة الجنسية في محيط العلاقة الزوجية وطقوس ممارستها، يعيب عليه إستعمال أساليب وعبارات تحمل في طيِّها مدلول اللطافة والرقَّة أوالحنية والمداعبة واللحظات الحالمة، بل يتعامل معها كلغة غريبة الجرس، شاذة المَعْنَي وبعيدة المغذى لا تجدي له في هذا المجال بغرضٍ أو منفعةٍ. ولذا نلاحظ أن ألفاظاً مثل "فض البكارة" و "المعاشرة الزوجية" المستعملة في باب النكاح قد تَمَّ إستبدالها في لغتنا العامية بكلمات أُخرى تدل على الغُلْظَة والقسوة والعنف والشدة والترهيب مثل "رفع، شرط، خرم، قدَّ، قلب، حشَّ، هرس ...." وإلى آخر ذلك من مصطلحات يتداولها العامة في أسواق الحدادة والخراطة والنجارة والنخاسة أو في فلاحة الأرض.
عموماً، ليس القصد من وراء كل ذلك، إذا إتفقت الآراء على جريمة الخفاض، هو محاولة البحث عن الجاني والإشارة إليه بسَبَّابِة الإتهام وتقديمه لمحاكمة علنية وعاجلة، إذ علينا أن نبدأ أوَّلاً بأنفسنا واحد تِلْو الآخر. إنما الغاية التي نصبو إليها هى الإجماعُ على الإعتراف بأن الخفاض جريمة بشعة شنعاء قام بممارستها البعض وشَاركْنا فيها جميعاً بالسند أو التستُّر أو الصمت عن لا ونعم. والإعتراف بالذنب هو الفضيلة الكبرى التي تبرئنا من القصد العمد والذي يجب أن يكون مقروناً بإبداء الأسف وتقديم الإعتذار عن ذلك، وأقله الجهر والإشهار بالإثم. ولو كان المجتمعُ رجلاً لطلبت منه الوقوف بين قطبي هذه الأرض التي ما زالت تتحمَّل معاصينا بصبر الأنبياء، والإعتذار بصوت فحولي جهور وبإسم الإنسانية كلها عن أكبر جريمة مدنية أُرْتُكبتْ في حق الأطفال والقوارير والمُطالبة بالكف الفوري عن ممارستها دون أيّ شرط أو قيد والسعي والإجتهاد لإصلاح ما يمكن إصلاحه. وذلك لا يتأتى إلاَّ بالتوعية الشاملة والإرشاد القويم والصراحة التامة والوضوح والمكاشفة والتعاون المجتمعي.
ظلت المرأةُ دائماً هى الرفيق الوفئ في كل مراحل حياتنا من المهد إلي اللحد، فهى الأم الرؤوم التي حملتنا وهناً على وهن، وسهرت من أجلنا وشقت، وأرضعتنا وأطعمت، وحَنَتْ علينا وعطفت، وأحسنت تربيتنا وأرشدت، وتحملت بصبرٍ وجَلد طيشنا وشقاوتنا وحمقنا وما أغضبت. وهى الزوجة المخلصة وأم العول والبنون، الصابرة على العنت والعناء من أجل سعادة الأسرة وتماسكها وستر حالها، والرفيقة المخلصة في الوفاء ومشاطرتنا الحياة خيرها وشرها ومشاركتنا أجمل أيام العمر ونضارته. وهى الأخت التي تلهو معنا وتلعب، وتجرى أمامنا وتركض، تضحك إذا فرحنا، وتبكي إن حزنا، وتظلُّ تحفظنا دائماً في خاطرتها، فإن رحلنا عن الديار كانت آخر المودعين وعند عودتنا تُسابق أوئل المستقبلين، وإن ودَّعنا الأحباب ووآرانا الثرى كانت أوَّلُ الثكلى. وهى الإبنة الحنون العطوف، والملاك الرقيق الذي يأوينا ويرعانا ويسترنا إذا ضعف البصر ووهن الجسد وخَرِفَ العقل، وتَرُدَّ علينا الفضل بأكثرمنه وفاءً وبِرَّاً.
وقد أنجبت الأمة العربية والإسلامية في تاريخها الطويل وحفل حاضرها المعاصر بأعلام كثيرٍ من عظيمات النساء اللآتي أضفن لتاريخ هذه الأُمة ومجدها قَدْراً وافراً من شتىء صنوف المعارف والعلوم وساهمن بما لا يُستهانُ به من جليل الأعمال والمُنجزات في عديد من المناشط والمرافق الهامة، لا يسع المجال هنا لذكرهن لكِنِّي سأكتفي بأن أورد على هذه الصفحات، ذكراً لا حصراً، أعلامَ بعضٍ من نساء بنات وطني الآتى يَكِنُّ لهن هذا البلد الحبيب فخراً وعرفاناً وإعزازاً، منهن طيِّبة الذكر أم سلمى سعيد، أمونة بت عبود، بتول الغبشة، بتول محمد عيسى، تكوى سركسيان، ثريا إمبابى، حاجة كاشف، حواء على البصير، خادم الله عثمان، خالدة زاهر، رحمة على جاد الله، زفقة بهتا، سعاد إبراهيم عيسى، سعاد الفاتح، سعاد عبدالرحمن، سعاد نصيف (لبيب)، صفية عثمان محمد على، عزيزة مكى، فاطمة أحمد إبراهيم، فاطمة طالب، فاطمة محمد عبدالرحمن، نعمات الزين مصطفى، محاسن جيلاني، مدينة عبدالله، ملكة الدار محمد عبدالله، ميرى بسيوني، نفيسة أبوبكر المليك، نفيسة دفع الله، نفيسة عوض الكريم (حاربت الخفاض الفرعوني/على بدري)، نفيسة محمد الأمين ونفيسة محمد كامل. وأود أن أخص بالذكر أيضاً بعض اللآتي يشدني إليهن أعجابٌ كبيرٌ وأكِنُّ لهن تقديراً وإجلالاً وافرين، أحدهنَّ المناضلة الفتية السيدة حواء جادالله محمد الطائف المُلقَّبة بِ (حواء الطقطاقة) وهو اللَّقلب الذي أطلقه عليها ولأول مرة مستر كلارك لمشاركتها السِياسِيَّةِ الناشطة في كل التظاهرات ضد الإستعمار في مدن العاصمة المثلثة فشبهها لهذا الحضور بشجر الطقطاق الذي كان واسع الإنتشار في مدن العاصمة الثلاث. وهى إمرأةٌ جليلةٌ وسيدةُ مجتمعٍ كانت ولم تزل بجانب نشاطها الفني كواحدة من رائدات فن الغناء النسائي في السودان وبخاصةٍ الأغاني الوطنية وأغاني الحماس، وطَنِيَّةً مُخْلصةً وسيدةً غيورةً على وطنها، ناهضت الإستعمار في سِنٍّ مُبكِّرة وكانت عنيدةً في نضالها ضد الإحتلال الإنجليزي للبلاد ومُنَاضلةً جسورةً حملت بين جوانحها قلبَ أسدٍ هصورٍ وكاسرٍ، فأُعَتُقِلت بسبب ذلك عدة مرات وأوُدعت السُجون وحُلِقَ شعرُ رأسها أثناء المعتقل، وقد أُصيبت بأعيرةٍ ناريةٍ في عنقها وكتفها لمشاركتها في إحدى التظاهرات السياسية، كما لَكَمَهَا أحد كبار ضباط الإحتلال الإنجليزي يدعى كونتس في فمِها حتى سقطت كل أسنانها عندما دار بينهما حوار لم تعجبة لهجته ومغزاه، لكنها رفضت بكبرياء أبِيءٍ كل العروض المُقدَّمة من الراحِلَيْن الزعيم الأزهري ولا حقاً الرئيس النميري بإعادة تركيب أسنانها على نفقة الدولة إذ آثرت الإحتفاظ على حال فَكَّيْهَا كما هى دون أسنان إعتزازاً وفخراً بما قدمته لوطنها وضَحَّتْ به من أجل إستقلال السودان. وعند دخول قوات التِليان إلي كسلا في أثناء الحرب العالمية الثانية سارت مع القوات السودانية المحاربة التي قامت بإقتحام مدينة كرن وغنّت للجنود الفاتحين. كانت السيدة حواء وطنِيَّةً إتِّحَاديةُ اللون السِّياسي أدانت لِحزب الوطني الإتحادي ورئيسه السيد الزعيم إسماعيل الأزهري بولاءٍ مُطْلق وجمعتها علاقةٌ وثيقة بالزعيم الأزهري حتى بعد مواراته الثرى، فناصرت الأزهريَّ، ذاك الرجل، ورمز إستقلال السودان حتى كادت أن تقف بجانبه وهو يرفع رآية إستقلال السودان وظلت ترافق مسيرته السياسية داخل حدود البلاد وخارجها حين رافقت بطريقتها الخاصة وفداً من مؤتمر الخريجين بقيادة الأزهري إلى مصر لمقابلة الملك فاروق والمطالبة بإستقلال السودان، وقد وافقت هذه الزيارة زواج الملك فاروق من زوجته الثانية ناريمان، فما كان من حواء الجريئة إلاَّ أن تسللت وسط جموع المحتفلين وهى تحمل طاراً وغنَّت لزفاف الملك فنالت جائزةً ملوكية مُقَدَّرة على ذلك. ما زالت حواء تحمل صوت الأزهري وصوت سوداننا (القديم) في وجدانها ولهجتها وفعلها وهى تلتحف برآية الإستقلال ثوباً بألوانه الثلاث (الأزرق والأصفر والأخضر) فخراً واعتزازاً، ضاربة بعرض الحائط غير سافرة بكل أنواع الخِمار والأحجبة والأقنعة، وحسناً فعلت سيدتي، فأستقلال السودان لم يكن يعني لديك إستقلالاً سياسياً فحسب، بل تحرراً وإنطلاقاً إلي آفاق الحرية والوعى الإنساني المُتَحضِّر. إن السيدة حواء تُعدُّ فخراً لهذا الوطن ولهذه الأُمَّة حقاً وحقيقة، إمرأةٌ كأعظم ما تكون النساء، ناضلت ومازالت تناضل من أجل هذا الوطن لا ضده، من أجل بقائه متماسكاً لا تمزقه، ومن أجل إستقلاله ووحدته وعزته وإستقراره، وهى تستحق عن جدارةٍ، لا إكراماً فحسب، أن تحمل لقب "أم الوطن". أطال الله عمرك ووقاك من كل ضرٍ وحفظك يا حواء للوطن وإن لم يحفظ لك وطنك ... سوداننا المُسْتَقِل القديم. وأستطيبُ ختامَ المسك بذكرِ السيدة الفاضلة والأُستاذة الجليلة بثينة خالد محمد عبدالماجد، كَرِيمَة الأَكْرَمَينِ عَمِّي وعَمَّتِي، وكفيلتي في صغري وأول من علمني كتابةَ وقراءةَ حُروفِ هذه اللغة التي أعشقها وقد حوت كتاب الله كُلِّه وأعتزُّ بها مُترنِّماً وأسْتَلُّها سيفاً جارحاً ضد عَوادِى البشر، وهذه السانحة من الذكرى هى أقل قدر من عرفان ووفاء لأؤلئك السيدات العظيمات، الا رحم الله من مَضَى منهنَّ وأطال عُمْرَ من بقى فِيْهُنَّ وحفظهن وجزاهن عنا وعن الوطن والأجيال سالفها وآتيها كل خير.
تلك هى المرأةُ وحواءُ البشرِ، ما عرفناها بغير الذي أهتدينا إليه بعبر الشرائع وتعاليم الأديان، وكتاب الله العزيز ونهج رسوله (صلعم) ووصاياه الكريمة، ومثلما أيَّدت ذلك وأكدته تجاربُ حياتنا الحافلةُ بالتبصُّر وقولةِ الحق. فإن أردتم بها بعد هذا غير الذى تستحقه من رد الفضل وخير الجزاء، فأفعلوا بها ما تشاؤون، "وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ"، التكوير (29).
د.عبدالسلام موسى
هوف هايم، المانيا
السبت 7/4/2012
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.