دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حزب المؤتمر الشعبي: اتفاق جنيف ومسؤولية انفصال جنوب السودان (6) . بقلم: د. سلمان محمد أحمد سلمان
نشر في سودانيل يوم 02 - 07 - 2012


1
مع اقتراب أفول عقد التسعينيات من القرن الماضي كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان الأم والفصائل المنشقّة عنها قد حقّقت نجاحاً باهراً في انتزاع حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان وفي تأكيد هذا الحق في قدر مهولٍ من الاتفاقيات مع الحكومة والأحزاب المعارضة. فقد تبنّت الحركة الشعبية مبدأ تقرير المصير في مؤتمر توريت في سبتمبر عام 1991. وبعد أربعة أشهرٍ فقط من ذاك التاريخ في يناير عام 1992 وقّعت الحكومة السودانية على إعلان فرانكفورت مع الدكتور لام أكول، ووافقت بمقتضى ذاك الإعلان على إجراء استفتاءٍ عام في جنوب السودان لاستطلاع آراء المواطنين الجنوبيين حول نظام الحكم الذي يناسب تطلعاتهم السياسية دون استبعاد أي خيار.
تبنّت دول ومنظمة الايقاد ذاك الإعلان وعكسته في إعلان مبادئ الايقاد الذي صدر قي يوليو عام 1994. ودفعت مبادرة الايقاد بالكرة في التدحرج من جانبين: الحكومة والمعارضة. فقد رفضت الحكومة هذه المبادئ في سبتمبر عام 1994، لكنها واصلت حوارها تحت مظلة السلام من الداخل مع الفصائل المنشقّة على أمل توسيع هوّة الانقسام بين هذه الفصائل وبين الحركة الشعبية الأم. وفي شهر أبريل عام 1996 وقّعت الحكومة مع الدكتور رياك مشار على الميثاق السياسي الذي أكّد حق تقرير المصير لمواطني جنوب السودان. وجاءت اتفاقية الخرطوم للسلام التي تمّ التوقيع عليها في أبريل عام 1997 بعد عامٍ من التوقيع على الميثاق السياسي مؤكّدة حق تقرير المصير ومُحدّدةً الفترة الانتقالية بأربعة أعوام. لحق الدكتور لام أكول بركب اتفاقية الخرطوم عندما وقّع في سبتمبر عام 1997 على اتفاقية فشودة. وفي يونيو عام 1998 صدر دستور السودان حاملاً بين ثناياه حق تقرير المصير لمواطني جنوب السودان ومُتضمناً النص على استمرار العمل بالمرسوم الدستوري الرابع عشر (تنفيذ اتفاقية السلام ) لسنة 1997. لم يعد هناك معنى أو سبب بعد تلك التطورات لترفض الحكومة السودانية مبادئ الايقاد. وعليه فقد عدّلت الحكومة موقفها من المبادرة وأعلنت في 30 أكتوبر عام 1997 خلال جولة مفاوضات الايقاد الخامسة قبول مبادئ مبادرة الايقاد.
2
من الجانب الآخر حملت الحركة الشعبية الأم إعلان فرانكفورت ومبادئ إعلان الايقاد (حتى قبل إعلانها رسمياً) ككروت تفاوضية مع أحزاب التجمّع الوطني الديمقراطي. كانت ضربة البداية مع الحزب الاتحادي الديمقراطي ونتج عنها التوقيع على الإعلان المشترك بين التنظيمين في 13 يوليو عام 1997 متضمناً حق تقرير المصير لجنوب السودان. تبع هذا بعد خمسة أشهر اتفاق شقدوم بين الحركة الشعبية وحزب الأمّة والذي تمّ التوقيع عليه في 12 ديسمبر عام 1994 وبه اعترافٌ واضحٌ بحق تقرير المصير. واستمرّ هذا المنهاج ونتج عنه في 27 ديسمبر عام 1994، أي بعد أسبوعين فقط، اتفاقٌ مماثل بين الحركة الشعبية والحزب الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة وقوات التحالف السودانية أُطلِق عليه إسم "إعلان اتفاق سياسي" أكدت فيه الأطراف المبادئ التي تضمّنتها الاتفاقيات السابقة. عبّدت هذه الاتفاقيات الطريق لإعلان أسمرا الذي وقّعت عليه في 23 يونيو عام 1995 كل أحزاب المعارضة (الاتحادي الديقراطي والأمة والشيوعي وقوات التحالف السودانية) وممثّل للنقابات، وآخرللقيادة الشرعية، وشخصيات وطنية. أقرّ إعلان أسمرا بلغةٍ تأكيديّةٍ واضحة أن شعب جنوب السودان "سيمارس حقه في تقرير المصير قبل انتهاء الفترة الانتقالية" وأن الخيارات التي ستُطرح للاستفتاء في الجنوب هي الوحدة والاستقلال. توّجت الحركة الشعبية نجاحاتها بإعلان أسمرا (مؤتمر القضايا المصيرية) في انتزاع حقّ تقرير المصير من كلِّ أحزاب وتنظيمات المعارضة معاً وفي وثيقةِ واحدة لا غموض أو لبس فيها.
وهكذا اكتملت جهود الحركة الشعبية الأم مع الأحزاب المعارضة في يونيو عام 1995 بصدور إعلان أسمرا، ومع الحكومة بقبول الخرطوم مبادئ الايقاد، وبصدور دستور السودان في يونيوعام 1998 متضمّناً حق تقرير المصير لجنوب السودان. وتوّجت الفصائل المنشقّة نجاحاتها في مفاوضاتها مع الحكومة بتوقيع اتفاقية الخرطوم في 21 أبريل عام 1997.
غير أن هذه النجاحات واجهها فجأةً في عام 1999 تحديان كبيران، تمثّلا في المبادرة الليبية المصرية، والانشقاق داخل الحزب الحاكم في الخرطوم وبروز حزب المؤتمر الشعبي.
3
بدعوةٍ من الحكومة الليبية عقدت قيادات التجمّع الوطني الديمقراطي اجتماعاً في طرابلس في يوليو عام 1999. عرضت الحكومة الليبية خلال ذاك الاجتماع مبادرةً لحل المشكلة السودانية تمثّلت في وقفٍ كاملٍ لكل الأعمال العسكرية وبدء حوارٍ مباشرٍ بين الحكومة والمعارضة يهدف لحل كل المشاكل العالقة. وفي أغسطس من ذاك العام تبنّت مصر الأفكار الليبية وأصبح الاسم الرسمي للمبادرة هو "المبادرة الليبية المصرية." كان واضحاً أن هذه المبادرة، إن تمّ لها النجاح، ستلغي بجرّة قلم كل الانجازات التي حققتها الحركة الشعبية خلال الثماني أعوام الماضية. عليه فقد قامت الحركة بالتحفّظ عليها بحجة ازدواج المبادرات. من الجانب الآخر فقد قبلتها الحكومة حال إعلانها لأنها رأت فيها مخرجاً من مبادرة الايقاد وحق تقرير المصير وعلمانية الدولة السودانية. وقد رحّبت بالمبادرة بعض فئات التجمّع الوطني الديمقراطي مما أبرز بوضوحٍ الصراعات التي كانت قد بدأت في التأجّج داخل التجمّع الذي كان قد وافق بدون تحفّظات على حق تقرير المصير في أسمرا عام 1995.
تواصلت الاجتماعات والنقاش حول المبادرة الليبية المصرية وواصلت الدولتان محاولة بلورة بنودها. وفي 30 يونيو عام 2001 سلّم مندوبا الدولتين مذكّرةً تحمل اسم "مبادئ وأسس الوفاق الوطني السوداني" للحكومة السودانية والحركة الشعبية وقيادة التجمّع الوطني الديمقراطي. تضمّنت المبادرة مجموعة مبادئ من بينها: تأكيد وحدة السودان، المواطنة هي الأساس في الحقوق والواجبات، الاعتراف بالتعدد العرقي والديني، ضمان مبدأ الديمقراطية التعددية واستقلال القضاء والفصل بين السلطات، إقامة نظام حكمٍ لامركزي في إطار وحدة السودان، تشكيل حكومة انتقالية تُمثّل فيها كافة القوى السياسية وتتولى تنفيذ بنود الاتفاق السياسي، وتنظّم انعقاد مؤتمر قومي لمراجعة الدستور وتحديد موعد الانتخابات العامة مع الوقف الفوري والشامل للحرب ونبذ الاقتتال بكافة أشكاله.
وهكذا وببساطةٍ تصل حد السذاجة السياسية والجهل بتطورات التفاوض بين الأطراف حاولت المبادرة الليبية المصرية وأد الانجازات التي حقّقتها الحركة الشعبية وذلك بطي ملفي حق تقرير المصير والدين والدولة، والعودة بالمفاوضات إلى وضع ما قبل عام 1988. قبلت الحكومة السودانية المبادرة فور إعلانها. وفي أغسطس عام2001 رحبت الحركة الشعبية بالمبادرة الليبية المصرية ولكنها طالبت إضافة حق تقرير المصير وفصل الدين عن الدولة وإعداد دستور انتقالي وقيام حكومة قومية. ودون شكٍ فقد مثّلت مطالب الحركة تلك سُخريةً تامةً بالمبادرة. برز الحديث عن التنسيق بين المبادرتين ولكن كان واضحاً عدم وجود أي حماسٍ للمبادرة الليبية المصرية من الولايات المتحدة أو الدول الاوروبية التي عُرِفت بأصدقاء أو شركاء الايقاد. وكان يبدو أن مصر نفسها (سواءٌ كان ذلك بضغوطٍ أمريكية وأوروبية أم لأسباب داخلية) لم تكن متحمّسةً لمبادرتها. وربما كان من بين أسباب عدم حماس مصر ترسّبات محاولة اغتيال الرئيس السابق حسني مبارك. ويبدو عدم الجدية في المبادرة واضحاً عندما يصل القارئ للفقرة التي يطالب فيها نظاما مبارك والقذافي بضمان مبدأ الديمقراطية التعدّدية واستقلال القضاء والفصل بين السلطات في السودان.
مع بداية عام 2002 كانت المبادرة الليبية المصرية تلفظ أنفاسها الأخيرة. كان واضحاً انها جاءت متأخرةً عشرة أعوام على الأقل وحاولت في سذاجةٍ بالغة القفز عبر أكبر انجازٍ للحركة الشعبية، وهو انجازٌ تمّ بحنكةٍ وذكاءٍ كبيرين ووصل طوراً متقدّماً. في ذلك الوقت كانت مبادرة الايقاد تشق طريقها إلى واجهة منتديات التفاوض بعد أن بعث فيها شركاء الايقاد الروح من خلال الضغوط السياسية والتمويل اللازم.
كانت مصر هي إحدى الدول التي وقّعت كشاهدٍ على اتفاقية السلام الشامل في 9 يناير عام 2005. وكان وزير خارجيتها السيد أحمد أبو الغيط الذي وقّع على الاتفاقية يكرّر بمناسبةٍ وبلا مناسبة أن مصر مع حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان "شريطة أن يؤدّي الاستفتاء إلى الوحدة"!!
4
كان ثاني التحديات الذي واجه إنجاز الحركة الشعبية هو الصراع داخل الحزب الحاكم مروراً بمذكرة العشرة وانتهاءً بقرارات الرابع من رمضان (ديسمبر 1999). وقد أدّى الصراع بعد ذلك إلى المفاصلة بين جناحي القصر والمنشية وانشقاق الحزب الحاكم وبروز حزب المؤتمر الوطني الشعبي. في يوليو عام 2000.
كانت الحركة الشعبية قبل هذا الانقسام قد فرغت تماماً من انتزاع حق تقرير المصير من كل أحزاب المعارضة، وكانت الحكومة قد قبلت رسمياً مبادئ الايقاد التي تتضمّن حق تقرير المصير وتنادي بالدولة السودانية العلمانية، وبدأت جولة المفاوضات الخامسة تحت وساطة الايقاد بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية بعد أن تأكّد قبول الحكومة لهذه المبادئ. ولكن أتت المبادرة الليبية المصرية لتهدد بنسف كل تلك الإنجازات وإعادة المفاوضات إلى نقطة البداية. وهاهو الحزب الحاكم في الخرطوم ينشطر إلى حزبين مما يهدّد بفتح ملف حق تقرير المصير والعودة إلى مربع رفض مبادئ الايقاد مرةً ثانية، كما حدث في سبتمبر عام 1994.
بدأت الاتصالات بين الحركة الشعبية والمؤتمر الشعبي عبر عدة أطراف بعد أسابيع قليلة من المفاصلة. كانت الحركة ترمي من لقائها بالمؤتمر الشعبي التأكّد من أن حق تقرير المصير في مأمنٍ ولن يتم فتح ملفه بواسطة قادة الحزب الجديد. فلا أحد كان يدري في ذاك الوقت أي الفصيلين من البيت الحاكم ستكون له الغلبة في نهاية الصراع. وللحركة نفسها تجارب قاسية في الانقسامات وتأثيراتها السالبة عى مجرى التفاوض. وقد تكون الحركة قد تخوّفت من غلبة المؤتمر الشعبي على أساس أن أجنحة الآباء هي عادةً أقوى من أجنحة الأبناء. من الجانب الآخر قصد المؤتمر الشعبي من لقائه الحركة الشعبية إيصال رسالة إلى الحكومة انه قادرٌ على فتح جبهاتٍ عدّة مع أعداء الخرطوم بما فيهم العدو الأكبر – الحركة الشعبية. استمرت الاتصالات عبر عدة عواصم أوروبية وأفريقية خلال الربع الأخير من عام 2000.
وأخيراً تمّ اللقاء بين الطرفين في جنيف في 17 فبراير عام 2001. مثّل الحركة الشعبية في ذلك اللقاء السيدان باقان أموم وياسر عرمان، بينما مثّل المؤتمر الشعبي السيدان المحبوب عبد السلام وعمر ابراهيم الترابي. وقّع المندوبون الأربعة في 19 فبراير عام 2001 على ما تمّت تسميته ب "مذكرة تفاهم بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والمؤتمر الوطني الشعبي."
5
لا تختلف مذكرة التفاهم في مسائل الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وحقوق الانسان عن أيٍ من الاتفاقيات التي وقّعتها الحركة الشعبية مع أحزاب المعارضة الأخرى، حتى أن القارئ قد يظن أن الطرف الاخر يمكن أن يكون حزب الأمة أو الاتحادي الديمقراطي أو القيادة الشرعية أو الحزب الشيوعي، وليس حزباً كان قادته حتى قبل أشهر قلائل هم الآمرون والناهون في السودان بلا رقيبٍ أوحسيب. دعونا نقتبس بعض فقرات المذكرة بدون تعليقٍ عليها:
الفقرة الأولى: استعرض الجانبان تجارب السودان السياسية منذ الاستقلال والوضع السياسي الحالي واتفقا على أن المشاريع الآحادية الرؤى للحكم وغياب المشروع الوطني المُجْمع عليه يشكلان أساس الأزمة الوطنية التي تعمّقت ووضعت بلادنا على حافة الانهيار.
الفقرة الثانية: من أجل الوصول لاتفاق سلامٍ عادل وبناء ديمقراطية حقيقية تصون الحريات والحقوق الأساسية وتمكّن من التداول السلمي للسلطة خاصةً في وجه العدوان على الحقوق الأساسية الذي ينتهجه النظام، لابد من تصعيد وسائل المقاومة الشعبية السلمية حتى يتخلى النظام عن نهجه الشمولي ويتيح الفرصة للبديل الوطني.
الفقرة الثالثة: يؤكد الطرفان أن السودان بلدٌ متعدّدٌ سياسياً ومتنوع دينياً وثقافيا ولابد من التراضي على عقدٍ اجتماعي جديد لايسمح بالتمييز بين المواطنين على أساس الدين أو الثقافة أو العرق أو النوع أو الاقليم.
الفقرة الخامسة: يؤكد الطرفان أن النهج الانقلابي فاقم الأزمة الوطنية ولم يفلح في الوصول بالسودان للحل الوطني الشامل الدائم، وأن مبدأ المحاسبة على الفساد والجرائم التي ارتكبت أمرٌ مشروع وضروريٌ لمستقبل الحياة العامة ولا بد منه.
أما الفقرة الرابعة فقد حقّقت للحركة الشعبية ما جاءت إلى جنيف من أجله. فقد أكّد الطرفان فيها "أن حق تقرير المصير حق انساني مشروع وأن وحدة السودان يجب أن تقوم على إرادة أهله الطوعية، وقد أدان الطرفان محاولات النظام الأخيرة التنصّل عن حق تقرير المصير بعد أن التزم به في المبادرات والاتفاقيات السابقة." وهكذا تأكّد للحركة أن المفاصلة داخل البيت الحاكم في السودان لن تؤثر على إنجازها السياسي والقانوني التاريخي، وأن الحزب السوداني الوليد قد انضم إلى ركب المعترفين بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وعليه لم يعد ذاك الوضع يستثني أي حزبٍ سياسيٍ شمالي.
6
هل كان الحزب الوليد – المؤتمر الشعبي – يأمل أن تغسل بحيرة جنيف من خلال مذكرة التفاهم الأعوام العشر الماضية من تاريخ قادته مثلما يأمل طغاة العالم الثالث أن تغسل البنوك السويسرية الأموال التي نهبوها من شعوبهم؟ قد يكون هذا هو المقابل الذي كان المؤتمر الشعبي يتوقعه أو يتمناه. ولكن يبدو أن الحركة الشعبية قد وعدت من فاوضتهم في جنيف بأكثر من هذا. فقد أشارت المادة الثامنة من مذكرة التفاهم إلى أن الحركة الشعبية "ترحب برغبة المؤتمر الوطني الشعبي في إجراء حوار بنّاء مع القوى السياسية الأخرى سعياً إلى أرضيّة مشتركة معها." وهكذا قرّرت الحركة الشعبية أن تكون وسيطاً بين من كان ألدَّ أعدائها ومن لايزال أقرب أصدقائها، حتى قبل أن تجسّ نبض أصدقائها حول القادم الجديد وتحكي لهم قصة لقاء جنيف والتي لم يسمع أحدٌ منهم عنها شيئاً حتى تلك اللحظة. ترى هل هي عبثية المسرح السياسي السوداني أم ذكاء الحركة الشعبية أم الأثنان معاً؟
رغم أن موقف المؤتمر الشعبي في جنيف لم يختلف عن موقف المؤتمر الوطني في مسألة تقرير المصير لشعب جنوب السودان، إلاّ أن رد فعل الحكومة كان حاداً. فقد تمّ اعتقال بعض قادة الحزب، ووصف الدكتور غازي العتباني اتفاق جنيف بأنه "حلفٌ سياسي لمحاربة الدولة بوسائل غير مشروعة لأنه وُقِّع مع حركةٍ تقاتل الدولة والمجتمع منذ 18عاماً." بعد عامٍ على هذا التصريح قاد الدكتور غازي وفد السودان التفاوضي مع الحركة الشعبية ووقّع على بروتوكول مشاكوس الذي هو أكثر خطورةً بلا شك من اتفاق جنيف.
7
قد ينظر البعض إلى اتفاق جنيف على أنه لم يؤخّر أو يقدّم في مفاوضات نيفاشا، أو يضيف إليها شيئاً. غير أن الاتفاق كان في الوقت الذي تمّ التوقيع عليه صمام الأمان وورقة تأمينٍ ثمينةٍ للحركة الشعبية. فقد كانت الحركة تخشى أن يعلن الحزب الجديد عدم التزامه بالاتفاقات التي منحت الجنوب حق تقرير المصير رغم أن عدداً من قادته وقّعوا عليها أو شاركوا فيها (الدكتور علي الحاج الذي وقّع على إعلان فرانكفورت، السيد محمد الأمين خليفة الذي لعب دوراً كبيراً في مبادرة السلام من الداخل، والدكتور حسن الترابي الذي أعدّ دستور عام 1998 مُتضمّناً حق تقرير المصير).
حملت الحركة كل اتفاقياتها مع الحكومة والأحزاب الشمالية، بما في ذلك اتفاق جنيف، معها إلى مفاوضات مشاكوس ونيفاشا في عام 2002،. وعندما رفض الوفد السوداني في بداية الأمر مسألة تقرير المصير كما كان متوقعا، ذكّره الوسطاء الأوربيون والأمريكيون والأفارقة بكل الاتفاقيات التي تضمّنت مبدأ حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وحذّروا الوفد أنه لايمكن النكوص عن تلك الالتزامات. من المؤكد أن اتفاق جنيف كان أحد تلك الاتفاقات التي كانت في حقائب الوسطاء وحقائب الحركة الشعبية.
سوف يكون المقال القادم بعنوان "شماليو الحركة الشعبية ومسؤولية انفصال جنوب السودان" وسوف نختتم هذه السلسلة من المقالات بنظرةٍ متكاملة حول "القوى السياسية الشمالية ومسؤولية انفصال جنوب السودان."
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.