شاهد بالصورة والفيديو.. على أنغام الفنانة إنصاف مدني.. شيخ الأمين "يجرتق" عريس سوداني وعروسته    شاهد بالصورة والفيديو.. على أنغام الفنانة إنصاف مدني.. شيخ الأمين "يجرتق" عريس سوداني وعروسته    أهلي جدة يعبر التعاون بثنائية في ليلة الفرص المهدرة    بيان توضيحي من مجلس إدارة بنك الخرطوم    عندما كان المصلون في مساجد بورتسودان يؤدون صلاة الصبح.. كانت المضادات الأرضية تتعامل مع المسيّرات    سقوط مقاتلة أمريكية من طراز F-18 في البحر الأحمر    ريال مدريد وأنشيلوتي يحددان موعد الانفصال    المسابقات تجيز بعض التعديلات في برمجة دوري الدرجة الأولى بكسلا    صلاح-الدين-والقدس-5-18    المضادات الأرضية التابعة للجيش تصدّت لهجوم بالطيران المسيّر على مواقع في مدينة بورتسودان    ما حقيقة وجود خلية الميليشيا في مستشفى الأمير عثمان دقنة؟    محمد وداعة يكتب: عدوان الامارات .. الحق فى استخدام المادة 51    التضامن يصالح أنصاره عبر بوابة الجزيرة بالدامر    اتحاد بورتسودان يزور بعثة نادي السهم الدامر    الولايات المتحدة تدين هجمات المسيرات على بورتسودان وعلى جميع أنحاء السودان    "آمل أن يتوقف القتال سريعا جدا" أول تعليق من ترامب على ضربات الهند على باكستان    شاهد بالفيديو.. قائد كتائب البراء بن مالك في تصريحات جديدة: (مافي راجل عنده علينا كلمة وأرجل مننا ما شايفين)    شاهد بالفيديو.. شيبة ضرار يردد نشيد الروضة الشهير أمام جمع غفير من الحاضرين: (ماما لبستني الجزمة والشراب مشيت للأفندي أديني كراس) وساخرون: (البلد دي الجاتها تختاها)    شاهد بالصورة.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل تسابيح خاطر تنشر صورة حديثة وتسير على درب زوجها وتغلق باب التعليقات: (لا أرىَ كأسك إلا مِن نصيبي)    إنتر ميلان يطيح ببرشلونة ويصل نهائي دوري أبطال أوروبا    الهند تقصف باكستان بالصواريخ وإسلام آباد تتعهد بالرد    والي الخرطوم يقف على على أعمال تأهيل محطتي مياه بحري و المقرن    من هم هدافو دوري أبطال أوروبا في كل موسم منذ 1992-1993؟    "أبل" تستأنف على قرار يلزمها بتغييرات جذرية في متجرها للتطبيقات    وزير الطاقة: استهداف مستودعات بورتسودان عمل إرهابي    ما هي محظورات الحج للنساء؟    شاهد بالصورة والفيديو.. بالزي القومي السوداني ومن فوقه "تشيرت" النادي.. مواطن سوداني يرقص فرحاً بفوز الأهلي السعودي بأبطال آسيا من المدرجات ويخطف الأضواء من المشجعين    توجيه عاجل من وزير الطاقة السوداني بشأن الكهرباء    وقف الرحلات بمطار بن غوريون في اسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ أطلق من اليمن    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عروبة، اتجاه واحد... "1-2" .. بقلم: الخاتم محمد المهدي*
نشر في سودانيل يوم 04 - 07 - 2009


أنا منكم تائه
عاد يغني بلسان
ويصلي بلسان...
د. محمد عبد الحي- العودة إلى سنار
"هسي الناس ديل أغني ليهم شنو؟"
حين تأتيك مثل هذه العبارة من مطرب صيدح، وموسيقي عارف ومجرب، وفنان بزّ أنداده، وانفتل على سلم الشهرة صعوداً بسرعة الضوء؛ لابد وأن المعضلة أشد تعقيداَ مما تحسب. عبارة ترددت في أكثر من محادثة هاتفية بيني والفنان الاستثنائي عاصم البنا. محادثات لابد وأنها أكسبت AT&T مالاً وفيراً.
وأسارع إلى التأكيد هنا أني لست في معرض التبخيس من مقدرات عاصم البنا الهائلة، فما أنا ممن لهم آلة الحكم عليها، وإن كنت أحسبني أشد الناس إعجاباً به. وبالضرورة ليس المقصود استعراض بهاء عاصم البنا وفنه النادر، فما هو بحاجة إليّ في ذلك.
سياق العبارة كان في صدد التحضير للتسجيل لعاصم البنا في برنامج “اليوم على الحرة" ضمن الفقرة الفنية (التسجيل الحصري سيبث على الهواء قريباً إنشاء الله). ذلك كان إبان زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة. ولما صار الاتفاق على موعد التسجيل، بعد ما طوح به التأجيل أسابيع متطاولة، تفرع بنا النقاش اشتاتاً عبر الهاتف بشأن ما الذي يمكن أن يغنيه عاصم البنا في التسجيل، ويكون:
أ- ذي نفس سوداني صميم، لا تشوبه شائبة اختلاط بما جاورنا من ثقافات، و
ب- مفهوماً بما يكفي لئلا يستوحش المستمع إلينا بلهجة ونظم ولحن لم يعتده، فلا ندخل له من مدخل آسر.
أو هكذا كان الحديث.
عاصم البنا، نظر في كنزه اللحني المترع، وانتضى ثلاثاً، إحداهن من عيون الحقيبة (في الطيف أو في الصحيان)، وثانيتهن أعتقد غير جازم أنها من جديد إبداعه، لكنها تميزت بلحن سوداني حقيق، وكلمات بيضاء يفهمهن القابع ببطن "مول" في الخليج والهائم على وجهه في صحراء موريتانيا. وثالثتهن كانت بلحن وسلم "عربي" قشيب، تصعد فيها عاصم بالسلم الصعب، وأجلس كل "مقامٍ" فيها مكانه الذي يليق. غنى عاصم يومها غناء لم يتردد في ردهات استوديوهات فرجينيا منذ غرست أوتادها. كان المشهد غريباً يومها: عاصم في قمة بهاء (الجلابية والتوب) ومحاوره مروان زعتر في آية الأناقة الأوروبية، وثلاثة أرباع الطاقم الفني بين أميركي ولبناني وجزائري.
كان عاصم يومها حضوراً من عيار (يحدث الآن).
بدأ الحوار والشاهدين عليه في غرفة التحكم وتخومها بين مستغرب لهيئته، ومنتظر لكيف سيغني. نقر عاصم على عوده بأصابع من سحر سيال، واستل صوتاً فيه فتنة آسرة. ورويداً رويداً رأيت الرؤوس تتمايل، والأنامل تناغم نقراتها هنا وهناك على أسطح منوعة. وشيئاً فشيئاً أخذت ألاحظ من حولي عرباً وعجماً يتغير إحساسهم الظاهر من استغراب، إلى إعجاب، إلى حسدٍ صريح. ما إن انتهينا من التسجيل، ولملمت أغراضي من غرفة التحكم، حتى ألفيته محاطاً بالمعجبين والمعجبات من كل سنخٍ وأس، وتراقصت أضواء الكاميرات المدمجة في الهواتف النقالة، تحتفظ لكل باللحظة مجمّدة في قالب رقمي.
يومها، ولأيام تاليات اشتجر نقاش متطاول بيني وزملاء سمعوا غناء عاصم البنا مباشرة، أو أخبرهم عنه مخبر، فطلبوه في برنامج الإرشيف الرقمي، وشاهدوا التسجيل كاملاً، وخلب لبهم حضور ذهن عاصم في إجاباته السهلة عن عويص أسئلة من قبيل: لم لا نسمع عن الفن السوداني؟
شيء من النقاشات تلك جعلني اساءل نفسي وأخدان لي في الغربة:
- أغناؤنا ثقيل على المسامع؟ قطرٌ مصبوب على وقر أصمّ الآذان المختومة؟
- من مِن العرب العاربة والمستعربة، والغاربة، يعرف "الود"، أو"الحزن القديم" أو"خاف من الله؟"، أم "السنبلاية" وسحرهن المقيم؟
- هل من بين هؤلاء مستسيغ ل "هوج الرياح" وفعائلهن من حنجرة الجابري، وموشحاته الساحرة؟
- هل منهم من اهاجته "بتتعلم من الأيام"؟ أم من أشجته "قلنا ما ممكن تسافر"؟ ودع عنك "طائشة الضفائر".
وشيء من نقاشنا التف حول السؤال العويص بعاليه، واستولد منه أخريات:
- أغناؤنا ثقيل يستمسخ الطروب إيقاعه، أم خفيف يستثقل الرزين إرزامه؟
- أغناؤنا يطرب له شعب القرن وما جاوره، ويستثخن ذي واشجة مع "التخت" خماسيته؟
- وأين بالضبط، في ثنايا المعادلة أعلاه، تنضوي أغانٍ باهرات شجيات من عيار: "يا طير يا ماشي لي أهلنا" و "جدي الريل أبو كزيمة"، أو من طراز "ننساك" أو حتى "الزاهي في خدرو" نظماً ومفردات، وجملاً وحليات موسيقية؟
أفلاطونيات سودانية
كان عاصم حدثاً يومها.
لكن الحدث الحقيقي كان ما فعله عاصم... نقلته السودان فناً ومظهراً وسلوكاً، وإبداًعاً آسراً من أٌقاصٍ ما عرفوها سوى في الأخبار، وإتيانه بها في هالة من سحر عند بابهم. كان شيئاً لم يعتادوه.
كانت الثلة المحيطة بعاصم يومذاك لاتعرف عن السودان سوى مآس من قبيل حرب الجنوب، وبلايا دارفور.. ولا يعرفون عن غناءه ومبدعيه سوى ما تكلس في إرشيف دبق متآكل ببطن تلفاز قديم، من نغمة "المامبو السوداني"... وكل "زول" عندهم محمول عندهم على أحراش الجنوب وضواريه، وفقر الصحاري وجدبها، وقصارى إبداعه نقرٌ على طبل بإيقاع متنافر، وثلاثة مصفقين "يترترون"، والجلباب والطاقية والشلوخ واللون الداكن هن كل الهوية المعلنة والمعلومة. لا غير.
السودان عندهم وعند كثير غيرهم لا يبارح الصورة بعاليه كثيراً. وبوسعي ملء صفحات وصفحات مما يلقاه بنو جلدتي من سخرية مكتومة أحياناً معدودة، ومعلنة في الأغلب الأعم. وليس الأمر من قبيل أننا شعب متخلف تقنياً بما يمنعنا من نفث إبداعنا وتراثنا في سائر وسائط الإعلام التي تعددت حتى تعصت على الحصر. وليس الأمر من قبيل أننا شعب منغلق على ذاته، منطوٍ عليها، وفق "ماوية" فطرية، لا ينظر أبعد من "قيفة" نيله، ولا يطمح إلى أعلى من نخلة على جدولٍ منسرب إليه.
أزعم أننا شعب مفرط في إبداعه التراثي والمعاصر، إفراطاً يجعل من الصعوبة علينا بمكان تصنيفه ونشره بما يليق.
وأزعم أننا شعب مفرط لحد الإغراق المؤسف في حب إبداع غيرنا حباً دلهنا، وملك علينا أقطار إدراكنا حتى عمينا عن تعامي الآخرين عنا، وغمطهم أخمص حقنا في الخروج من تيبسنا في برودة وديجور انطوائيتنا المفترضة إلى شمس مهرجانات العرب الدافئة.
هذا واقع مؤلم، لكنه صحيح للأسف.
وأزعم أننا- في بسيط حالتنا السودانية- نعاني، ولا نكاد ندري، أسقام حب أفلاطوني لكل ماهو عربيٌ غناءً وموسيقى، ومظهراً، وثقافة. وهو نوع من الحب لو تعلمون وبيل.
وبحسب "جاحظنا" الالكتروني المعاصر- ويكيبيديا- فإن أفلاطون- وتنطق باليونانية: پْلاَتُونْ- الفيلسوف اليوناني القديم، وأحد أعظم الفلاسفة الغربيين، حتى ان الفلسفة الغربية اعتبرت انها ماهي الا حواشي لأفلاطون، عاش بين عامي 427 ق.م - 347 ق.م. وإليه ينسب التعريف" الحب الافلاطوني" وهو علاقة خالية من البهارات مقياسها الصداقة. وهو حبٌ يعرف بأنه من طرف واحد، أي لا مبادلة فيه، وهي أس كل علاقة وساسها. ويصح أيضاً أن يقال عليه حب "اتجاه واحد"، أي هو يخرج ولا يرجع.
وكذا حالنا السوداني مع الحالة العربية بعامة، ومع فنها وثقافتها بخاصة. نحن في سودانيتنا مغرقون في حب كل ما هو عربي: الثقافة العربية، والموسيقى العربية، والشعر العربي، والرقص العربي، والتهويمات العربية، والقائمة تطول.
البحث عن هوية
ولا نعني ب "سودانيتنا" ضيق الجغرافيا، ولا سعة الإثنوغرافيا. ففي كليهما إحراج لما نزعم توصيفه ب "حالة"، اكثر منها ثقافة، او جهوية، أو دوغما. والحالة السودانية التي نعني، أقرب فهما ومخبراً وبنية إلى "السودانوية" التي عناها البروفيسور الضخم الفخم أحمد زين العابدين رحمه الله. قال فيها وكتب وحاضر وألف وجادل، فأطنب. فاطلبوا تفاصيلها في تحابيره، والراحل وتراثه يكاد يُنسى.
وتكاد تجمع سحابة الكاتبين والباقرين بطون الثقافة على وجود أزمة تعريف/مصطلح للهوية السودانية. ونعني ب "هوية" هنا المصطلح على إطلاقه، أو على ما ذهب إليه المفكر الفرنسي أليكس ميكشيللي وفي تعريفه أن الهوية هي: "منظومة متكاملة من المعطيات المادية والنفسية والمعنوية والاجتماعية تنطوي على نسق من عمليات التكامل المعرفي وتتميز لوحدتها التي تتجسد في الروح الداخلية، التي بدورها تنطوي على خاصية الاحساس بالهوية والشعور بها".
وبالتقاط الخيط من ذر السابقين الأولين من لدن مدرسة الغابة والصحراء، ومناطحيهم التناظر والتثاقف في جماعة أبادماك، مروراً بكراسة محمد المكي إبراهيم- ودونها تأريخ طويل من المحاولات والمحاورات- وصولاً إلى آخر معركة اشتط أوراها بشأن ما اسماه د. عبد الله علي إبراهيم بتحالف الهاربين، وما استثاره من ردود ومراجعات، كل ذلك يكاد يفضي إلى أزمة بين الناظرين في تأطير الأزمة وتفكيكها.
ومن حيث ضاقت كوّة التعريف، انفتح علينا باب اللامنتمي، وتأكدت لدينا حالة البحث عن هوية- وعلى أكثر من مستوى.
تلمسناها في دياجير الثقافات الموازية، مرة اندغاماً غير مرحب به في الجارة "الشقيقة"، والصحيح أنها شقيقة بالمعنى الطبي. وضرب في هذا المنحى أهل السياسة طرائق قدداً، ليس أقلاً من "الاتحادي الديمقراطي" وليس أبعد من "التكامل".
واحتطبنا لها في غسق الأفريقانية، واحتوشنا رمال الصحراء بغصن ذي شوك، وفرشنا بضاعتنا البئيسة أدنى ظل "أبادماك". وقبلها، كان محمد المهدي المجذوب، وكان قصيده الرنان "انطلاق"، وكانت أبياته الخوالد:
وأرضاني الجنوب فما أبالي بمن يصم العراة ومن يلوم
هم عشقوا الحياة فعاشرتهم كما تبغى المشاعر لا الحلوم
فليتي في الزنوج ولي رباب تميل به خطاي وتستقيم
أجمشه فيجفل وهو يشكو كما يشكو من الحُمّة السليم
وفي حقويّ من خرز حزام وفي صُدغي من ودع نظيم
وأجترعُ المريسة في الحواني وأهذر لا أُلام ولا ألوم
طليق لا تُقيّدني قريش بأحساب الكرام ولا تميم
وأُصرعُ في الطريق وفي عيوني ضبابُ السّكر والطرب الغشوم
ولي شرف وما جدوى صياحي بفخر ليس يشربه النديم
ودونه لم يزد قائل.
تعممنا ب "الساكوبيس" الساطع البياض، وأطلنا "العَزَباَت". والعمائم تيجان العرب. فنالنا منهم ما نالنا. وليس المقام مما يصلح للاستفاضة في تجليات البحث عن هوية سياسة، وفي الأخيرة محل واسع للاطناب.
لكن التجلي الأقوى كان محله أذننا وما تنصت له. حبانا الله بآذان كبار، وجهد الناس ليجدوا لها تخاريج مناسبة، داسوا بها على أبجديات الاثنوغرافيا، وسائر صنوف علوم الناس والأجناس. أطرف ما سمعته من "تخريجات" كان من عمي رحمه الله رحمة واسعة. كان معهدياً صميماً، وعالماً باللغة والتأريخ، ومتحدثاً واثق الكلمة سريع الخاطرة. قال لي في سياق نقاش ساخن عن سمات "الحُر" و"العبِد" إن العرب، والعربي الصميم، ومن ينتسب للدوحة العربية بخاصة بين اقوام السودان الفيسفاء، أول ما تعرفه به هو كبر حجم أذنه! وزعم لي- غشت قبره رحمات الله ومغفرته- أن "العبِد"- أو من في دمه شبهة (قالها هكذا) أذنه لا بد وأن تكون صغيرة! لابد أن علم الفسيونومي، وقبله فراسة العرب، ضربت في مقتل!
وكنت قرأت في فجاج الانترنت مقالة لاذعة كتبها العم المجرِّب شوقي بدري من ضمن ذكرياته المسلسلة "المسكوت عنه"، كانت بعنوان (لماذا يتجنب العرب الفن السوداني؟). ويسرد بدري ذكريات عن حفل أم كلثوم الوحيد في الخرطوم، وكيف أنها عندما:
اتت للغناء في المسرح القومي في امدرمان سنه 1967 استورد السودان اجهزه و مكرفونات خاصه للمناسبه . و عندما طلب المسرح القومي من الست الحضور لنصف ساعه لتجربة الاجهزه ، لم تحضر و قال -مدير اعمالها ( الست مش فاضيه للحاجات ديه، ده شغلكو انتو) .... و لقد اظهرت الصحف المصريه صورة شخص تحت عنوان (سوداني يصر ان يسجد لام كلثوم) . و الشخص في الصوره لم يكن يبدو كسوداني بل مصري .عبدالحليم حافظ ... عندما حضر للسودان في نفس الايام مع فرقه اضواء المدينه .... (شخط) في وجه المعجبين في الخرطوم الذين تجمعوا امام القراند هوتيل و هم يصرخون (نار يا حبيبي نار) و كلهم من بقايا المصريين او شباب الخرطوم الذي تأثروا بفلم الوساده الخاليه رواية احسان عبدالقدوس ابن فاطمه اليوسف صاحبة مجلة روزاليوسف . لقد صرخ فيهم (روحوا في ستين الف داهيه و سيبوني في حالي). هذا امام الصحفيين ، منهم عبدالرحمن مختار و لقد تطرق لهذه الحادثه في كتابه خريف الفرح . و استفز لدرجه انه قال للشباب (انسوه و احرقوا اسطواناته) .
ولست أدري عن تلك الأيام الشيء الكثير، فلم أكن موجوداً على ظهر البسيطة وقتها، لكن الذي أعرفه وعايشته- مثل كثير غيري من أتراب السن والبلد- يفوق أضعافاً مضاعفة الحادثتين الواردتين في مقالة بدري. لكن قيمة ذكريات بدري في مقالته المشار إليها، تكمن في موقفه الصريح، الجريء، من أن:
الناس يوردون كل الاسباب لعدم انتشار الموسيقي السودانية في العالم العربي و يتفادون ذكر الحقيقة . السبب سيداتي سادتي ان الانسان لا يستمع لموسيقي شخص يحتقره . فلهذا نحن الشماليون لا نستمع الي موسيقي الجنوبين و لا نعرف فنانينهم . و لا نعرف اي شئ عن الغناء او الفنانين التشاديين . و العرب يحتقرونا ، و نحن نلهث جريا وراء حبهم. من المؤكد ان بعض السودانيين يحبون الاغاني المصريه و العربيه عن حق . و لكن هنالك الكثيرون الذين يتظاهرون بحب ام كلثوم كنوع من الرقي و التطور و استيعاب الثقافه . و لقد كان و لا يزال هنالك الاف مؤلفه من السودانيين يتحدثون باللهجه المصريه و هم لم يضعوا قدمهم في مصر ... بالنسبه لي ليس هنالك ما يعادل روعة عشه موسي و هي تغني (عني مالو) او اغنية الحمام الزاجل بواسطة مني الخير او الاستماع الي سميره دنيا و عابده الشيخ و سميه حسن .
ومعظم ما ذكره بدري بعاليه صحيح في قليل ما علمته وعايشته من مقايسة العرب لألحاننا وغنائنا وموسيقانا وما نطرب له.
السكوت، من غضب
قبل أسبوعين أو نحوهما تلقيت على البريد الإلكتروني للعمل رسالة حسبت مرسلها أنه يمازحني بها. وقبل أن يتيسر لي الكشف عن وجه للغضب لم يعهده عني، باغتتني نسخة أخرى من الرسالة ذاتها بعد دقائق من الأولى!
الرسالة كانت ملفاً صوتياً أحسبه من برنامج فكاهي ما، يقوم بدور البطولة فيه مستظرفٍ مقلد للأصوات والناس. ومدار تلك الحلقة- بحسب رواية المستظرف ذي الصوت الجميل والذوق الفاسد- مسابقة بين ثلاثة فنانين: مصري (لم أتبين اسمه) وعراقي (الراحل ناظم الغزالي) وسوداني (المرحوم سيد خليفة). ويقول المستظرف إن الثلاثة طلب إليهم التغني بفريدة نزار قباني "أيظن؟" على مذهب نجاة الصغيرة، ودار مناط التقليد على مطلعها:
أَيَظُنُّ أنِّي لُعبَةٌ بيَدَيْهِ ؟
أنا لا أفَكِّرُ بالرّجوعِ إليهِ
اليومَ عادَ .. كأنَّ شيئاً لم يكُنْ
وبراءةُ الأطفالِ في عَيْنيْهِ ...
المستظرف إياه قلد منحى المصريين في الغناء، وجاء بما حسبه نسخاً متقناً لطريقة ناظم الغزالي في استجرار المواويل على مايشيع بأرض الرافدين خمسيناتذك. وحين جاء الدور على سيد خليفة رحمه الله، حتى لوى المستظرف فمه، وطوى لسانه، وأبرز فكه الأسفل إلى الخارج، وطفق يمض مخارج الحروف مضغاً منكراً، ويقلب العين همزة قطعٍ بينة، ويسوي بين الظاء والزاي المهملة، ويأتي بهمهمات وسط النغم ما جاءت بها عنزة متعكرة المزاج، تحكك جلدة كتفها بحيط ثخين، ببطن "إشلاق" شرطة عند ركن قصي من عاصمتنا المثلثة.
غضبت غضباً كدت أنشق منه، ولولا بقية من تعقل لقمت إليه وإليها وأسمعتهما من الكلام "الناشف" ما يتعصى على الأذن. في بقية ظني يومها أن من سوء الأدب ممازحة زميل بالنعي على طريقة قومه في لفظ الكلام العربي. ولأهل العربية طرائق قدداً في لي عنق المخارج حتى تكاد تكسر.
كدت أصفعه بأنه من شعب لا يفرق بين الضاد والظاء نطقاً وكتابة، ويصر على صحة قلب الكاف قافاً في تقعر جهوي مؤسف. وكدت أبصق على أذنه حقائق دامغاتٍ: أن الذي مسخه المستظرف من غناء قال إنه سوداني هو اقرب إلى نقنقة الضفادع، وأن المرحوم سيد خليفة حفظ القرآن وجوده قبل أن يولي وجهه محجة الأزهر "الشريف" ليطلب علم الشريعة والفقه فيها، قبل أن يتحول إلى درس الموسيقى.. وأشياء أخرى سكت عنها بعدما سكن غضبي.
تذكرت يومها يوماً من أيام إقامتي بنواحي إمارة عجمان. كانت أيامها خلواً من المتطاولات الشوامخ، وعامرة بطيبة أهلها ورقة حالهم. هناك بضاحية من عجمان "كارفور" يتيم، كنا -على أيام "الإقامة"- نسميه (وحيد القرن). غشيته ذات نهار يفور قيظه، اطفيء نار ذلك النهار في برودته المنعشة. واسترعى انتباهي صندوق شبكي عند المدخل، اهيلت فيه صنوف من الكاسيتات لمغنين شتى، والصقت على جانبه ورقة حمراء مكتوب عليها بالأصفر الفاقع ما يفيد التخفيض الذي اوجبه اليأس من البيع. مِلت إليه وثقتي أني ظافر بين "كرور" بكنز مهمل. وقد كان. نقبت هوناً ما، فأصبت ألبوماً لفيروز كنت أبحث عنه منذذ زمن، وقد تقادمت سنينه وما أعيد انتاجه. فرحت به فرحاً انساني مؤونة بيتي، فحملته طروب الخطوة إلى حيث البائع. فالفيته صبياً لبنانياً على وجهه زغب. ناولته الألبوم، وأهويت إلى جيبي لأنقده الثمن، فإذا به يرجع بصره كرات بين الكاسيت وبيني. ألفيته يصعِد عينيه في جلبابي السوداني، وطاقيتي التي "شنقتها" وشبه شال على كتفي، ويلحظ سمرتي الداكنة، ثم تنحنح وثنى عطفه، ومرر الشريط على الكاشف الالكتروني، وقال لي بين تشاغله مع آلة البيع:
- حضرتك سوداني؟
- ايوة.. مرحب
- ليك! والسودانية بِتسمّعوا لفيروز؟
قالها وعجب الدنيا يتحلب بين مخارج حروفه. و (ليك) هذه يبتدر بها من آنس منك صحبة من بني وبنات لبنان، أو ساء أدبه فلم يتحرج أن يرفع الكلفة بينكما في غير محل رفع.
أوقفت يدي يمنتصف الطريق وطيها النقود، وتدافع من فمي كلام كثير عن أغاني فيروز وناظميها، وأشهر مواويلها، وبعض أمتع مسرحياتها الغنائية، وعن مدرسة الرحابنة. نقدته ما قالت به الآلة الاكترونية، وخطفت منه الشريط، وأوليته ظهري خارجاً، تاركاً إياه وقد كاد فكه الأسفل "يلحس" الحزام الآلي وما فيه من بقوليات عبأها من كان خلفي في الصف.
ما كدت أنحشر في سيارتي ويهش في وجهي جهاز تكييفها طارداً ببرودته عرق الغيظ والقيظ، حتى ألفيتني (ابرطم) غاضباً ومخنوقاً:
... والسودانية، بعضهم يعشق أم كلثوم حتى الثمالة. ولها طقوس وإجراءات في سماعها، يحتشد لها ليلة أربعاء أو خميس (في إذاعة العدو، آخر الليل من حيث تساقطت النجوم إلى مساكنها، يميز سريعاً بين آهات الموجي ودقائق السنباطي، وسلطنات بليغ)، ويطرب لها طرباً يذهب بالعقل والوقار..
... والسودانية، لهم مع حليم آهات معلنات وكثير شجن موؤد، من لدن سواح، حتى زي الهوا.
... والسودانية، يعرفون لطفي بوشناق.. ولومه لمن غاروا منه..
ثم ألقمت الشريط إياه إلى فاه جهاز الطرب في السيارة، ومضيت أدندن مع شجي الفيروزيات:
وقف يا أسمر في إلك عندي كلام
للحديث بقية -


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.