كنت أريد الانتظار بهذه المقالات عن بيت الضيافة حتى تصدر في سلسلة "كاتب الشونة: دراسات في الفكر النقدي" التي أقوم عليها. وسبق لي نشرها مسلسلة في "الرأي العام" في 2009. وبعضها الذي تناول رد الاعتبار لضحايا 22 يوليو من الشيوعيين جرى نشرها في تواريخ أسبق. ولكن رأيت التعجيل بنشر مسودة المقالات هنا بعد أن رأيت الاضطراب العظيم أخيراً حول كشف تقرير علوب عن المقتلة وكيف عُدنَا به أعداء كما كنا لا أخواناً في الوطن توثق أواصرنا المعرفة التي جاء بها إلى دائرة الحوار. وجدد ظهور القاضي علوب في برنامج "مراجعات" للأستاذ الطاهر حسن التوم الدعوة القائمة في وجوب أن نتنادى في الحقل السياسي والأكاديمي وأسر الشهداء إلى وجوب قيام الدولة بتحقيق مستحق لحادثة بيت الضيافة نطوي به صفحتها للابد. فقد أزعجني قول القاضي إن دولة نميري، التي كلفتهم بالتحقيق في انقلاب 19 يوليو 1971، هي نفسها التي حجبت عنهم وقائع محاكم الشجرة بأمر عال من نميري. وكان القاضي من الأمانة فلم يشمل مذبحة بيت الضيافة في تقريره لتعذر الوثائق. وهذا ما يجعل قيام الدولة بالتحقيق وفتح أرشيفها على مصراعية للمحققين ضربة لازب. وبالطبع فالتحقيق ينبغي أن يفتح في وقائع لعنف الدولة والعنف المضاد لها خلال تاريخ الحكم الوطني كله طلباً للتعافي الوطني وأن ننهض بعده لشغل الوطن أخوة فيه. ولا أُمني أحداً بجديد في الموقف في هذه المقالات.. فأنا من حملة نظرية "القوة الثالثة" الشيوعية ما في ذلك شك. ومفادها أن من ارتكب مذبحة الضيافة قوة ثالثة نزلت حلبة الصراع وأردت أن تقضي على الشيوعيين والمايويين بضربة واحدة وتمسك بزمام الأمور. ما ستجده طريفاً مع ذلك هو تقعيد دعوتي فوق نهج تاريخي استوفى المصادر الأولية والثانوية ما استطاع. وهو مما يعين صاحب الرأي الآخر على تكييف دعوته على بينة. ورأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ بحتمل الصواب. ومهما كان فأنا اعتقد أن الشيوعيين موزرون، حتى لو كانوا براء من مقتلة بيت الضيافة، لموت هؤلاء الضباط وهم في ذمتهم في الحبس. قولاً واحداً ولا لجاج. كان أقله أن يطلقوا سراح أسراهم لبتدبروا أمرهم كما تدبر ضباط شيوعيون أمرهم في ذلك الوقت العصيب. لنطوي صفحة بيت الضيافة وكل دفتر عنف للدولة وعنف مضاد لها ليسلم لنا الوطن القبيح المضرج بالدماء. كفاية. فإلى المقال الجديد: خطر لي لأول مرة المشابه بين انقلاب 1958 وانقلاب 1989 بعد قراءة كتاب الأستاذ المحبوب عبد السلام المحظور. وبدت لي سوءتنا الفكرية جلية لأننا ربما لم نحسن حتى تحليل الأداة الظالمة، الانقلاب، التي حكمتنا لنصف قرن أو يزيد. اكتفينا في علم الانقلاب باللجاج حول من قام به أو لم يقم به نكاية واحدنا بالآخر. وتواضع فريق منا بأن الأحزاب هي التي توسس للجيش "الغافل" به. وبس. رأيت في كلا انقلابي 58 و89 سياسياً "طمت بطنه" من اضطراب حكمه (أو الحكم الذي يعارضه) فأوعز لطائفته في الجيش بانقلاب مشروط. واستخدم "طمت بطنو" من عبارة لضابط بالجيش عن حال الفريق عبود حيال دولته في آخر أيامها. وأعني بالانقلاب المشروط أن يفرض "حالة طواريء" في البلد ريثما يعود المدنيون للحكم بصورة أخرى. ولكن كانت المفاجأة أن الجيش عجبه الحال وتغدى بالسياسي الغرير. نبدأ بالدكتور حسن الترابي وانقلاب 1989. جاء في كتاب المحبوب أن خطة الترابي كانت أن يستولي الجيش على الحكم لسنوات معلومة ريثما تستقر الأمور وتعود السياسة إلى مجاريها المدنية . . كما كنت. ولكن كانت للعسكريين فكرة أخرى. فقد فوجئت بقول المحبوب إن الإنقاذ مددت سجن الترابي صبيحة الانقلاب (الذي كان تعمية وحركة في شكل وردة) من شهر إلى 6 شهور. ثم تحفظت عليه في منزله بعد خروجه منه. ولما طلب أن يَمثٌل أمامه العسكريون الذين قاموا بانقلابه لم يظهروا. ثم حدث المعلوم من صراع المنشية والقصر واعتقالات الشيخ المتكررة. ذلك أو شيء قريب منه حدث للسيد عبد الله خليل البيه مهندس انقلاب 17 نوفمبر 1958. قال البيه للجنة التحقيق في الانقلاب في 1964 إنه لا يدري لماذا قام الجيش به. فقد كانوا في رأيه "مبسوطين وأنا جبتلهم أسلحة." واستغرب البيه للجنة التحقيق أن يُوحي هو بتمرد عسكري يؤدي إلى عزله من الحكم. ومن الجهة الأخرى استنكر الفريق عبود أمام اللجنة تنصل البيه عن فكرة الانقلاب. وقال إنه من المضحكات أن يتملص البيه من فكرته الانقلابية. فلو قال لهم يومها "بلاش" لما وقع الانقلاب. وليس في أمر البيه والفريق تناقضاً. فكل فسر الواقعة بحسب مقاصده. فقد تواضعنا جميعاً على فهم الفريق للواقعة بأنها "تسليم وتسلم". ولم نلتفت لرأي البيه عن اتفاقه مع الفريق بتدخل الجيش لفرض حالة "طواريء" يقيم بعدها حكومة وحدة وطنية ومجلس سيادة يمثل فيها الجيش. وقد اتفق معظم قادة الانقلاب أمام لجنة التحقيق بأن هذا بالفعل ما تواضع عليه البيه والجيش. بل قالوا إن الجيش قد حنث بهذا الإتفاق. لم نتوقف ملياً عند قول المرحوم أمين التوم في مذكراته إن الجيش لم ينقلب على الحكومة بأمر من البيه فحسب بل انقلب على البيه نفسه. وظل البيه، في قول أمين ، حسيراً ما عاش "يقص قصته بعد الأوان . . ويقول إن الضباط خدعوه." فقد كان داخله الشك في ليلة 16 نوفمبر في ولاء الضباط له. فحضر للقيادة ليطمئن منهم على التزامهم بخطته. فلم يجد سوى الفريق عبود واللواء حسن بشير وطلب منهما استدعاء الضباط الآخرين فتذرعا بأنهم مشغولون بالانقلاب في وحداتهم. خد عندك! ولما اجتمع الضباط صباح 18 نوفمبر اتفق رأيهم على "حكم الديش". قال اللواء حسين علي كرار إنهم جاءوا للاجتماع وفوجؤوا بتغير في الموقف حول تشكيل حكومة وطنية ومجلس سيادة مدني عسكري. وجلس بينهم الفريق يقرأ قائمة معدة بأسماء المجلس العسكري والوزراء. الدرس: لطمام البطن السياسي عواقب وخيمة. بجيبه ضقلها يكركب. Ibrahim, Abdullahi A. [[email protected]]