قلنا فى الحلقة الماضية أن عبد القادر(رودولف سلاطين) ولد فى فيينا سنة 1857م، من عائلة يهودية الأصل.فقد كان جده الرابع من كبار موظفى الأمبراطورية النمساوية. تحولت عائلته للمسيحية،ولكن عقيدتهم الدينية لم تكن راسخة ومتشددة. وذكرنا أنه ذهب الى السودان فى سن السابعة عشر ولم يفلح فى الدخول الى اقليم دارفور.ولكن بعد ثلاثة أعوام تسلم خطاباً من غردون باشا يدعوه فيه للمجيء الى السودان والعمل تحت ادارته فى خدمة الحكومة المصرية والتى كانت تحت الوصاية البريطانية.عينه غردون حاكماً لدارفور وكانت مهمته الأولى هى إخماد نار الثورات التى إندلعت فى ذلك الإقليم النائى. يقول سلاطين:( ولما كنت الأوروبى الوحيد فى تلك البلاد الغريبة، وكان السكان من حولى يدسون لى ويكرهون فإننى كنت ألجأ الى وسائل عديده لكى أعرف المؤامرات والترسيمات التى تدور حولى. وكنت أحياناً بواسطة النقود أو الهدايا التى أرسلها سراً أعرف ما سيحدث لى قبل حدوثه وأحتاط له). ومما عرفه سلاطين أن جنوده يقولون ان الحكومة قد عينت فى المراكز العليا نصارى لمحاربة المهدى ولذلك فإن الله ينصر المهدى ويهزم الحكومة. وبعد مشاورات عديدة وتفكير عميق وقف سلاطين أمام جنوده وقال:(قد سمعت أن البعض يعدنى أجنبياً غير مؤمن بالإسلام ولكنى أقول لكم إنى مؤمن كما أنتم مؤمنون، وأشهد أن لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله). فهتف الجنود وهللوا وكبروا، وصلى معهم سلاطين، وأمر بذبح عشرين ثوراً قرباناً-كرامة.لكن ما لم يمر بخلد سلاطين وقتها أنه سوف يمر عليه يوم يقوم فيه شخص درويش اسمه كاظم موسى بعملية ختانه، بتعليمات من خليفة المهدى.يقال أن سلاطين أمر بحرق جثة كاظم موسى بعد معركة فركه فى شمال السودان إنتقاماً.وهنالك رواية أخرى عن خاتن-طهار-سلاطين، مفادها أن سلاطين أرسل فى طلبه بعد فتح السودان.وكانت له لحية كبيرة ووقورة، فأمر سلاطين بحلق لحيته لما يعرف من مكانة اللحية عند الأنصار.ولكن لدهشة سلاطين والحضور فإن الخاتن ضحك بعد أن أزيلت لحيته، وقال لسلاطين:(أن لحيتى التى حلقتها وأزلتها سوف تنمو من جديد وسوف تكون أحسن مما كانت عليه، أما ما أزلته أنا من قبل فلن ينمو مرة أخرى الى أن يرث الله الأرض ومن عليها). كتب غردون فى يومياته عن اسلام سلاطين واستسلامه بعد ذلك لقوات المهدية دون حرب أونزال، أن الشجاعة ليست من صفات سلاطين. وأنه يجب وضعه فى مصحة لتطهيره وعلاجه وتأديبه اذا تم اطلاق سراحه من الأسر. ولكن من منطلق العقلانية وسياسة الأمر الواقع لابد أن نتفهم ظروف سلاطين الحرجة التى هو فيها.وما لايمكن فهمه هو دوافعه لدخول هذه الصعاب وركوب المخاطر.حاربه الرزيقات والميما والبنى هلبه بضراوة وشجاعة يحسدون عليها.وساء حاله عندما سقطت مدينة الأبيض حاضرة اقليم كردفان فى يد المهديين.كانت القبائل التى تحارب فى صفه هى البيقو والبرقد وزغاوة جنوب دارفور والمسيرية والداجو وبعض المعاليا. فى ذلك الوقت كان هنالك شخص سويسري يدعى قوتفريد روت متواجداً بدارفور فى مهمة خاصة بمحاربة الرقيق(والله أعلم).مرض قوتفريد ومات ودفن بالفاشر حاضرة دارفور. انقطعت الإتصالات بين سلاطين ورؤسائه فى الخرطوم، وقد كان يأمل فى الحصول على إمداد ومؤن، أما الأن وقد هزم الأنصار هكس باشا فى شيكان بالقرب من الأبيض فقد تلاشى ذلك الأمل السراب، ولم يبق أمامه إلا الإستسلام. ونزولاً عند رغبة ضباطه سلم سلاطين حكم دارفور لخالد زقل قريب المهدى وذلك فى بلدة شعيريه. وهكذا تقع دارفور فى يد المهديين دون أن يجردوا لها حملة منتظمة. يقول سلاطين أنه فى تلك الليلة لم يغمض له جفن،كانت عشية ليلة الميلاد، وسرح فكره بعيداً الى وطنه وأهله فى فيينا،ومرت أمامه صور حفل الكنائس البهيج والذى يقام بمناسبة عيد الميلاد فى النمسا، بينما يقبع وحيداً، حزيناً، ومهزوماً، فى دارفور.