[email protected] اكتشفت أنه من الصعوبة بمكان إدراك مبتغاي من شخصية تحكي واقعاً كالتي طالعتها في رواية "المزحة" رائعة الروائي العالمي التشيكي ميلان كونديرا .والصعوبة هنا نابعة من أنها رواية معقدة في إمتاعها ، ليس لديها أطراف واضحة يسهل إمساك الحكاية من إحداها .ففي سخرية لاذعة ، وسكب لمرّ العام في عسل الخاص استطاع أن يُخرجنا من الجو الرسمي واجتماعات الحزب وعقيدته وقانونه إلى قلب المراد من الرواية وهي صراع الفرد مع المؤسسة الحزبية ، وتفاقم هذا الصراع حتى إذا ضاق أفقها ألغت هامش الحرية الفردية من خلال هيمنتها الأيدولوجية الأحادية. ليست شخصيات كونديرا وحدها فذاكرتي الحية مكتنزة بشخصيات محورية في كل الروايات التي حظيت بالإطلاع عليها. وزادي في رحلة القراءة هذه هو هؤلاء الأشخاص الذين يجسدون الأحداث ، يختبؤون في أغوار بعيدة ويلوحون لي بإشارات من مناماتهم السعيدة .ولفرط تأثري بهذه الشخصيات فهي تتجسد لدي بين الحين والآخر في واقعي المعاش بشكل من الأشكال.وبين هذه التفاصيل لا تختفي بالطبع شخصية المؤلف ولكن كل مطّلعٍ مهما كانت درجة اطلاعه واهتمامه يستطيع أن يتحسس نَفَس المؤلف وبعضاً من تموجاته الداخلية من بين ثنايا النص، غير أن التصريح والإفصاح بهذه الفكرة لا يجد استحساناً ولا قبولاً من بين المهتمين بالشأن الثقافي ومعالجي القراءات. بعض الشخصيات تدخل إليك من القلب مباشرة فهي لا تحتاج إلى تعريف بل تحسها وكأنها غابت عنك حيناً ورجعت لتعيش معك في حقلك البري بطلاقة . قد تكون هذه الشخصية أماً أو حبيبة أو أب أو صديق، وقد يكون عجوزاً يتمثل في قصته صراع الإنسان مع الحياة كما في "الشيخ والبحر "لأرنست همنغواي ، وقد يكون باخرة أو قطار . وقد تترك كل هذه الشخصيات وتتعلق بمعنى حقيقي يتماهى ويندمج في تفاصيل الحكاية وعوالمها فلا تحتاج إلى تبرير تعلقك به إلى تفسير أو تركيب أو ذاكرة تتشكل . وإن كان لكل عمر نوع قراءات معين ، فهناك أشكال أدبية من القصص والروايات صالحة لكل زمان ومكان ولفئات عمرية مختلفة ما دام هذا العمر وصل بالفرد إلى مرحلة النضج العقلي.وفي استفتاء غير رسمي أجريته على عينة عشوائية من الزملاء ، منهم النِهِم في القراءة لدرجة تحس معها أن بقايا القصص والروايات تتدفق من بين صدغيه. ومنهم المنتقي وهذا من أكثر القراء وقوعاً في الحيرة نسبة لشروطه الصعبة وغالباً ما يخرج من أي مكتبة يغشاها خالي الوفاض. ومنهم القاريء الكسول الذي ينتظر منك أن ترشح له كتاباً وتعطيه عرضاً سريعاً ليختبر بعدها مدى استعداده لاختيار الكتاب المرشح.ما وصلت إليه من كل هؤلاء هو إجماعهم على أن الرواية تحتاج إلى ذوق فني رفيع وقاريء خاض قراءات صغيرة حتى ظفر بالوصول إلى متعة القراءة الطويلة . أما القصص القصيرة فهي رغم أن اسمها يوحي بسهولة كتابتها وأنها فن في متناول يد أنصاف المبدعين إلا أن الحقيقة أنها من أصعب أنواع الكتابات ، لأن المطلوب من الرسالة التي بين طياتها أن تصل في صفحات قليلة ، مع الاستغناء عن كثير من التفاصيل . وتكمن الصعوبة أيضاً في أن القاص قد يكتفي بالإشارة فقط إلى حدث أو معنى مما يستوجب أن يكون القاريء بالمقابل على قدر من الفطنة .كان الإجماع أيضاً على أنهم يرون في القصص القصيرة تلك الفاتنة المحتشمة ، أما الرواية فهي الفاضحة المعرية للتفاصيل . وفي كل لا بد أن تتخذ من الحب بمعناه العام ثيمة جوهرية حتى لو شُرح بمقابله مثل توظيف الظلم المُمارس على المكتويين بنار الحب أو المفارقات في قصص تخلق مقاربات مدهشة في عوالم المهمشين والمحبطين.