السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    عيساوي: حركة الأفعى    أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظرية المؤامرة ومسؤولية انفصال جنوب السودان 2 – 2 .. بقلم: د. سلمان محمد أحمد سلمان
نشر في سودانيل يوم 18 - 09 - 2012

تعرّضنا في المقال السابق إلى سياسات الاستعلاء والإقصاء التي اتّبعتها الحكومات المدنية والعسكرية منذ قبل الاستقلال تجاه السودانيين الجنوبيين، والاستخفاف الكبير الذي تعامات به هذه الحكومات معهم. كما ذكرنا فقد أعطت نتائج السودنة الجنوبيين ست وظائف فقط من ثمانمائة وظيفة، وتمّ تمثيل الجنوبيين في حكومة السيد اسماعيل الأزهري الأولى في يناير عام 1954 بثلاثة وزراء دولة جنوبيين بلا أعباء. وقد استمر هذا الوضع لبعض الوقت إلى أن ابتدع السيد الأزهري وزاراتٍ هامشية للجنوبيين مثل وزارة المخازن والمُهِمّات (نعم كانت هناك وزارة بهذا الإسم)، ووزارة النقل الميكانيكي، وكذلك وزارة الثروة الحيوانية التي ارتبطت بالجنوبيين منذ ذلك الوقت وأصبحت "حقّا" مطلقاً للجنوبيين لاينافسهم عليها أحد.
وقد وضحت سياسة الاستعلاء والإقصاء في أسوأ صورها في يونيو عام 1965 عندما عدّل الحزبان الكبيران الدستور من خلال أغلبيتهما في الجمعية التأسيسية وألغيا الرئاسة التناوبية الشهرية لمجلس السيادة. آلت بعد ذلك التعديل رئاسة مجلس السيادة إلى الأزهري بصفةٍ دائمة. ولكن تم الاتفاق أيضاً على أيلولة رئاسة الوزارة إلى المحجوب، ونائب رئيس الوزراء إلى الحزب الوطني الاتحادي/الاتحادي الديمقراطي، ورئاسة الجمعية التأسيسية إلى حزب الأمة. وقد طبّق الحزبان هذه القسمة الجائرة كما هي بعد انتخابات عام 1985. عليه فقد أنهى ذلك التعديل الرئاسة التناوبيّة لمجلس السيادة كل شهر، وجرّد التعديل العضو الجنوبي من رئاسة المجلس التي كانت تؤول إليه بعد كل أربعة أشهر.
ما يحزن ويحيّر في ذلك التعديل غير الموفق (بالإضافة إلى مضمونه) توقيته وتجاهله لمؤتمر المائدة المستديرة ومحاولات حلّ مشكلة الجنوب بعد ثورة أكتوبر. ففي الوقت الذي كان الجنوبيون يطالبون بحقوق سياسية إضافية إذا بالحزبين الكبيرين يجردانهما حتى من حقوقٍ دستوريةٍ قائمة. لقد أرسل ذلك التعديل رسالة إقصائية واضحة للجنوبيين وقوّى أيدي القادة الجنوبيين الذين كانوا لايثقون بالسياسيين الشماليين أمثال غوردون مورتات وأقري جادين واللذين غادرا البلاد مباشرةً بعد إلقاْء كلمتيهما في مؤتمر المائدة المستديرة. وقد كان هذا التعديل في رأيي أحد الأسباب الرئيسية لفشل مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر المنبثقة منه.
ترى لماذا لم يفكر أيٌ من قادة الحزبين في خلق وظيفة نائب رئيس مجلس السيادة وإسناد تلك الوظيفة إلى العضو الجنوبي بالمجلس؟ إن خلق تلك الوظيفة لم يكن ليحتاج لتعديلٍ آخر للدستور، وكان من المحتمل أن يخفّف من الآثار السلبية الكبيرة التي نتجت من تجريد العضو الجنوبي من الرئاسة الدورية الشهرية التناوبية للمجلس.
وكأن ذلك لم يكن ليكفي فقد وافقت الجمعية التأسيسية بالإجماع في يونيو عام 1965 على مقترح السيد محمد أحمد محجوب باعتبار الحرب في الجنوب تمرداً على القانون والنظام وأعطته كل الصلاحيات وما يحتاجه من ميزانية لدحر التمرد وإعادة القانون والنظام، فأعلنها حرباً شعواء على الجنوب وشعبه.
هذه بعض الأمثلة للأخطاء الكبيرة التي ارتكبها الساسة الشماليون في حق الجنوب والتي ناقشناها بتوسعٍ في المقال السابق.
2
تطرّقنا في المقال السابق إلى نظرية المؤامرة. وهي النظرية التي تُلقي بمسؤولية انفصال الجنوب على الأيادي الخفية لما تسميه النظرية دول الاستكبار والاستعمار والصهيونية العالمية والامبريالية والمنظمات المسيحية بما في ذلك مجلس الكنائس العالمي. ويجادل أصحاب هذه النظرية أن الإسلام والعروبة في السودان كانا مستهدفين من قبل هذه الأيادي الخفية التي رأت في تمزيق السودان وفصل الجنوب تحقيقاً لمراميها ووقف الزحف الإسلامي العربي في أفريقيا جنوب الصحراء.
لقد كان السرد التاريخي الموجز للعلاقات الشمالية الجنوبية والذي تعرّضنا له في المقال السابق دليلاً قاطعاً على أن السياسيين الشماليين هم الذين خلقوا وصعّدوا أسباب الانفصال بنقضهم للعهود وبإهدارهم كل فرص السلام وإنهاء الحرب وتوزيع الثروة والسلطة بصورةٍ عادلة.
سنناقش في هذا المقال ثلاثة محاور لنثبت أن نظرية المؤامرة إدعاءٌ غير صحيح وتضحده كل التطورات التاريخية في علاقات الشمال والجنوب. وهذه المحاور الثلاثة هي:
أولاً: النظام الفيدرالي كان هو مطلب الجنوبيين الوحيد حتى التسعينيات.
ثانيا: السياسيون الشماليون هم من طلب الاستعانة بالدول الأخرى لحل مشكلة الجنوب.
ثالثاً: السياسيون الشماليون حكومةً ومعارضةً هم من أعطى الجنوبيين حق تقرير المصير بما في ذلك حق الانفصال.
وسنتعرّض لكلٍ من هذه المحاور بإيجازٍ في الفقرات التالية من هذا المقال.
3
أولاً: النظام الفيدرالي كان هو مطلب الجنوبيين الوحيد حتى التسعينيات:
كان مؤتمر جوبا الذي عُقِد في يونيو عام 1947 هو أولُ لقاءٍ نِدّيٌ ووُدّيٌ بين قادةٍ شماليين وجنوبيين سودانيين. لقد كُتِب الكثير عن هذا المؤتمر وتباينت التعليقات على قراراته: هل نادى بالوحدة أم بالفيدرالية أم حتى بتقرير المصير؟. لكن الحقيقة هي أن السيد جيمس روبرتسون السكرتير الإداري للسودان وراعي المؤتمر كان قد اتخذ قراره بوحدة السودان قبل المؤتمر وكان الغرض من الدعوة للمؤتمر هو التمهيد لتطبيق هذا القرار كما ذكر هو بنفسه في كتابه (افريقيا في فترة الانتقال). لكن لابد من الوقوف برهةً أمام كلمة السلطان لوليك لادو أحد القادة الجنوبيين في المؤتمر والتي شبّه فيها العلاقة القادمة بين الشمال والجنوب بعلاقة الزواج، وأوضح أن الطرفين يحتاجان لبعض الوقت للتعرّف على بعض قبل أن يتم الزواج. ترى هل كانت تلك اللغة هي حديثٌ عن ضرورة أن تكون الوحدة جاذبةً؟
أثار الجنوبيون مطلب النظام الفيدرالي عام 1951 في لجنة الدستور التي ترأسها القاضي ستانلي بيكر. وقد تحدث السيد بوث ديو الممثل الوحيد للجنوب في لجنة الدستور المكوّنة من ثماني عشرة عضو موضحاً أن مطلب النظام الفيدرالي يمثّل رأي الجنوبيين. تجاهل الشماليون ذلك المطلب وتعاملوا معه باستخفافٍ ولم يتم حتى نقاشه بصورةٍ جادة.
في أكتوبر عام 1954 تبنّى حزب الأحرار الجنوبي مطلب النظام الفيدرالي رسمياً خلال مؤتمره الذي عقده في جوبا وكانت نتيجة التصويت للنظام الفيدرالي أشبه بنتيجة الاستفتاء للانفصال في يناير عام 2011. ناقش الحزب قراره مع الحزبين الكبيرين في الخرطوم وتمّ الاتفاق على تضمين ذلك في قرار استقلال السودان. وفعلاً أجاز البرلمان في الخرطوم في 19 ديسمبر عام 1955 قراراً تضمّن إعطاء مطلب النظام الفيدرالي الاعتبار الكافي. وكان ذاك جزءاً من اتفاقٍ صوّت بموجبه الجنوبيون في البرلمان على استقلال السودان. تراجع السياسيون الشماليون بعد أسابيع عن وعدهم ورفضوا قبول النظام الفيدرالي وكانت الهتافات تتعالى "لا نظام فيدرالي لأمةٍ واحدة (نو فيدريشن فور ون نيشن)."
طرح السيد ويليام دينق النظام الفيدرالي في مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965، وأوضح للساسة الشماليين أن مطلبي الانفصال وحق تقرير المصير اللذين أثارهما السيدان أقري جادين وغوردون مورتات أثناء المؤتمر هما تكتيكٌ تفاوضي وأن الجنوبيين سيقبلون النظام الفيدرالي. ولكن الساسة الشماليين من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار رفضوا النظام الفيدرالي للجنوب، ووصل مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثني عشر إلى طريقٍ مسدود.
صدقت توقّعات السيد ويليام دينق. فقد قبل الجنوبيون بمقتضى اتفاقية أديس أبابا عام 1972 بالحكم الذاتي والذي هو أقل من النظام الفيدرالي، ولكن عاد نميري وحلفاؤه الحزبيون الجُدد في بداية الثمانينيات لينسفوا ذاك الاتفاق عبر التدخّل في أعمال حكومة الجنوب وحلّها هي ومؤسساتها، وعبر تقسيم الجنوب وفرض قوانين سبتمبر عام 1983، وتحويل مياه النيل في الجنوب عبر قناة جونقلي، وكذلك بترول الجنوب، إلى الشمال.
إن هذا السرد التاريخي لا يمكن أن يترك بأي حالٍ أي موطأ قدمٍ لنظرية المؤامرة. إن ما أدّى لرفع سقف مطالب الجنوبيين لحق تقرير المصير، والذي أدى إلى الانفصال، هو رفض الساسة الشماليين لمطلب النظام الفيدرالي الذي كان غاية مبتغى الجنوبيين، ونقض المواثيق وإهدار فرص السلام باستخفافٍ بواسطة الساسة الشماليين، وليس بواسطة الأيدي الخفية لدول الاستكبار.
4
ثانيا: السياسيون الشماليون هم من طلب الاستعانة بالدول الأخرى لحل مشكلة الجنوب:
بدأت حكوماتُ السودان المتعاقبة الاستعانةَ بدول الجوار والدول الكبرى والمنظّمات الإقليمية والدولية للوصول إلى اتفاقٍ مع الحركات المسلحة والأحزاب الجنوبية منذ عام 1965. فبعد أسابيع قلائل من انتصار ثورة أكتوبر اقترح السيد ويليام دينق في رسالةٍ بعث بها إلى السيد سر الختم الخليفة رئيس وزراء الحكومة الانتقالية عقد مؤتمر مائدة مستديرة لمناقشة مشكلة جنوب السودان. رحّبت الحكومة بالمقترح وبدأ النقاش بين الطرفين في التفاصيل. أصرّت الأحزاب الجنوبية على أن يُعقد المؤتمر خارج السودان وأن يحضره مراقبون دوليون. رأت الحكومة عقد المؤتمر بالخرطوم مُشيرةً إلى التغييرات السياسية الإيجابية في البلاد، ورفضت حضور مراقبين على أساس أن هذا مؤتمرٌ سودانيٌ بحت. بعد نقاشٍ ومكاتباتٍ مطوّلة تراجعت الحكومة عن رفض حضور المراقبين مقابل موافقة الأحزاب الجنوبية عقد المؤتمر في الخرطوم. وهكذا توصّل الطرفان إلى هذا الحل الوسط، وتمّت دعوة كلٍ من كينيا ويوغندا وتنزانيا ونيجيريا ومصر وغانا والجزائر لإرسال مراقبين إلى مؤتمر المائدة المستديرة. وقد حضر المراقبون من هذه البلدان، وتفاوت مستوى تمثيلهم بين وزراء وسفراء.
وهكذا انفتح باب استعانة السودان بالدول الأخرى لحل مشكلة الجنوب، وبدأت هذه الاستعانة بطلبٍ من الحكومة نفسها. عليه لم تكن هناك صعوبة أن تنعقد المفاوضات بين حكومة السيد جعفر نميري وحركة تحرير جنوب السودان بقيادة السيد جوزيف لاقو في أديس أبابا في فبراير عام 1972، وسُمّيت الاتفاقية التي وقّعها الطرفان في مارس من ذاك العام "اتفاقية أديس أبابا." وقد وقّع على اتفاقية أديس أبابا (بجانب الحكومة وحركة تحرير جنوب السودان) ممثلون لامبراطور اثيوبيا، ومجلس الكنائس العالمي ومجلس الكنائس الأفريقي ومجلس الكنائس السوداني. وهكذا امتد دور دول الجوار من مراقبين إلى شهودٍ على الاتفاقية، ودخلت الكنيسة العالمية والأفريقية حلبة النزاع السوداني بموافقة، إن لم نقل بدعوة، الحكومة السودانية.
استمر طلب العون من حكومات الخرطوم بالدول الأخرى والمنظمات الإقليمية والدولية. سافر أول وفدٍ من حكومة الإنقاذ في أغسطس من عام 1989 لمقابلة أعضاء الحركة الشعبية في أديس أبابا، وبوساطة الحكومة الاثيوبية بناءاً على طلب الإنقاذ. تبعت هذا وساطة الرئيس السابق السيد جيمي كارتر التي رحّبت بها الحكومة السودانية واجتمع الطرفان في نيروبي في أواخر نوفمبر وأوائل ديسمبر عام 1989. أتت بعد ذلك وساطة الحكومة النيجيرية ومفاوضات أبوجا في عامي 1992 و1993 بناءاً على طلب حكومة الإنقاذ أيضاً.
في سبتمبر عام 1993 قامت الحكومة السودانية بطلب وساطة منظمة الايقاد لحل مشكلة جنوب السودان، ووافقت المنظمة على الوساطة بين الطرفين. كانت الحكومة السودانية تعتقد أنه بإمكانها أن توجِّه وتتحكّم في دور المنظمة بحكم علاقة الحكومة الوطيدة وقتها بالنظامين الجديدين في أديس أبابا وأسمرا. ولا بُدّ من التذكير أن الخرطوم كانت قد أعلنت أنها ساعدت الثوار في البلدين في الوصول إلى السلطة.
وقد أكّد الدكتور علي الحاج ذلك عندما ذكر لجريدة الانتباهة: "أقول إن دخول الايقاد لم يكن تآمراً من جهة خارجية أو قوى دولية، كان دخولها برغبتنا وتقديراتنا وحساباتنا نحن وليس غيرنا." كما ذكر أيضاً "دخول الايقاد في ملف السلام صنعناه نحن وتورطنا فيه بأيدينا منذ بداية تأسيس هذه الهيئة مطلع التسعينيات." (مع علي الحاج في مهجره، الجزء الثاني، جريدة الانتباهة، الثلاثاء 05 حزيران/يونيو 2012).
هل ما يزال بعد هذا العرض الموجز هناك شكٌ في أن التدخّل الاجنبي تم بدعوةٍ وترحابٍ من الساسة الشماليين؟
5
ثالثاً: : السياسيون الشماليون حكومةً ومعارضةً هم من أعطى الجنوبيين حق تقرير المصير بما في ذلك حق الانفصال:
وافق الدكتور علي الحاج مع الدكتور لام أكول في فرانكفورت في يناير عام 1992 على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان وأخرج علي الحاج بذلك مارد حق تقرير المصير من قمقمه. لم يعد حق تقرير المصير بعد ذلك التاريخ جرماً يعاقب عليه القانون بل أصبح حقاً قانونياً لشعب الجنوب بمقتضى اتفاقٍ وقّعته الحكومة السودانية نفسها بدون وساطةٍ أو ضغوطٍ من طرفٍ ثالث.
أكّد ذلك الحق الفريق الزبير محمد صالح بتوقيعه مع الدكتور رياك مشار على ميثاق السلام في أبريل عام 1996، ثم اتفاقية الخرطوم في أبريل عام 1997، ثم اتفاقية فشودة مع الدكتور لام أكول في سبتمبر عام 1997. وقد أطّر كل ذلك الدكتور حسن الترابي في دستور التوالي عام 1998.
من جانب المعارضة الممثّلة في التجمّع الوطني الديمقراطي وقّع الدكتور أحمد السيد حمد نيابةً عن الحزب الاتحادي الديمقراطي مع السيد يوسف كوة ممثلاً للحركة الشعبية الأم على إعلان القاهرة في يوليو عام 1994 والذي تضمّن حق تقرر المصير لشعب الجنوب. لحقهما بعد شهورٍ السيدان عمر نور الدائم ومبارك الفاضل بتوقيعهما نيابة عن حزب الأمة مع السيد سلفا كير على اتفاق شقدوم في 12 ديسمبر عام 1994، والذي اعترف بحق تقرير المصير للجنوب. ثم وقّع الحزبان وقوات التحالف السودانية مع الحركة الشعبية على اتفاق قوى المعارضة الرئيسية السودانية في 27 ديسمبر عام 1994، والذي أكّد حق تقرير المصير للجنوب. وكلّلت الحركة الشعبية إنجازاتها بإعلان أسمرا في 23 يونيو عام 1995 والذي انبنى على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان ووقّعت عليه كل قوى المعارضة، أحزاباً ونقاباتٍ وتجمعاتٍ إقليمية. وانضم حزب المؤتمر الشعبي لهذ الحشد في اتفاق جنيف الذي وقّعه السيدان المحبوب عبد السلام وعمر الترابي مع السيدين باقان أموم وياسر عرمان في 19 فبراير عام 2001.
صبّت كل تلك الروافد في بروتوكول مشاكوس عام 2002، ثم في اتفاقية نيفاشا للسلام عام 2005.
وهكذا وافق على حق تقرير المصير كلُّ الساسة الشماليين: حكومةً ومعارضةً، إسلاميين وعلمانيين، يمينيين ويساريين، ديمقراطيين وشموليين، مدنيين وعسكريين، شيوخاً وشباباً.
نعم نفس الساسة الذين رفضوا بغطرسةٍ وعناد حتى مناقشة النظام الفيدرالي للجنوب عادوا ووافقوا على مبدأ تقرير المصير لشعب الجنوب بما في ذلك حق الانفصال.
نعم نفس الساسة الذين أمطروا أرض الجنوب بالحرب والدمار عادوا واحتفلوا مع القادة الجنوبيين في جوبا في التاسع من يوليو عام 2011 باستقلال وميلاد دولة جنوب السودان.
لم تفرض دول الاستكبار أو الامبريالية أو الكنائس العالمية حق تقرير المصير على الحكومة أو على المعارضة. لقد أعطت الأحزاب الشمالية نفسها ذلك الحق لشعب الجنوب.
6
لقد تعامل الساسة الشماليون مع مشكلة الجنوب باستخفافٍ وازدراءٍ وغطرسةٍ واستعلاء فعمّقوا المشكلة ودفعوا بالجنوبيين إلى رفع سقف مطالبهم من النظام الفيدرالي عام 1951 إلى حق تقرير المصير عام 1991. وقد انتزعوا هذا الحق بجدارة، وأدى ذلك في نهاية المطاف إلى انفصال الجنوب عام 2011 وبنسبةٍ قاربت ال 99%.
كما جادلنا في هذا المقال، ليست هناك أيدي خفية للاستعمار والامبريالية والصهيونية والكنيسة ودول الاستكبار قادت إلى انفصال الجنوب. إنها أيدي الساسة الشماليين الاستكبارية هي التي أهدرت كل فرص السلام ونقضت كل العهود وأدت إلى انفصال جنوب السودان.
ترى هل سنعي هذه الدروس في مشاكل دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان؟
7
من المبادئ الأساسية التي ترتكز عليها دولة العصر أن السلطة تعني المسؤولية، وأن المسؤولية تعني المحاسبة.
واضحٌ أن هذا لاينطبق على الساسة السودانيين الشماليين، فهم فوق المحاسبة وفوق القانون وفوق كل شيئ.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.