الأسبوع قبل الماضي ، تحدثنا عن احتفال ( الانقاذ ) بمرور عشرين عاما على وجودها في السلطة ، وقلنا في مدخلنا لذلك أنه قد لا يكون من المناسب ، الحكم على الوقائع التاريخية خارج السياق الذي وقعت فيه ، وذهبنا الى ان الطريقة التي كتب بها تاريخنا السوداني ، في غالب عهوده الوطنية ، وفي جوانب كثيرة منه ، طريقة عاطفية مليئة بالأساطير والخرافات ، وضربنا مثلا لذلك بتاريخ الثورة المهدية ، وكيف أننا في مناهجنا الدراسية نقرأه على نحو مخالف للواقع الذي عايشه أجدادنا ، على الأقل في واقع ديار الكبابيش وديار الجعليين ، وفي شرق السودان كما أضاف أحد الأخوة الأعزاء في تعليق على هذا الجزء مما كتبنا . في سياق وصف وتقويم التجربة الانقاذية ، يمكنني القول أن نظام ( الانقاذ ) كان مختلفا ، بدرجات واضحة ، عن الأنظمة الوطنية التي تعاقبت على حكم السودان ، ليس لكونه أطولها عمرا فحسب ، لكن لكون السياق التاريخي الذي أتى فيه ، والحيثيات المحلية والاقليمية والدولية التي صاحبت مجيئه كانت مختلفة أيضا ؛ وقد أشرنا الى جزء من هذا في مقالة الأسبوع قبل الماضي ، وقلنا ان مجئ ( الانقاذ ) الى دست الحكم تزامن مع حدثين غيرا وجه العالم وغيرا المعادلات التي تحكمه ، الأول هو انتهاء الحرب الباردة وانفراد الولاياتالمتحدة بالنفوذ ، ورسم ملامح ما بات يعرف بالنظام الدولي الجديد ، والثاني هو اكتشاف ما أصبح يعرف بالشبكة العنكبوتية ( الانترنت ) والتطور المذهل الذي حدث لوسائل الاعلام والاتصال بدخولها عصر الوسائط المتعددة !! و يمكننا القول أيضا أن حكم ( الانقاذ ) واجه أشرس معارضة سبق وأن واجهها نظام حكم وطني ، وقد استفاد معارضوه من اختلال منظومة العلاقات الدولية ، عقب انتهاء الحرب الباردة ، ومن سياسات ما عرف ب( الحرب على الارهاب ) التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م الشهيرة ، واستفادوا كذلك من تطور وسائط الاتصال ، ومن شبكة المعلومات الدولية ، كما لم يتح لمعارضة سودانية من قبل !! وسواء كان بجهد المعارضين أو بما اقتضته الموازنات الاقليمية والدولية ، أو بحاصل جمع الجهدين معا ، تعرض السودان في عهد ( الانقاذ ) لأشرس حصار دولي ، شمل الجوانب السياسية والعسكرية والدبلوماسية والاقتصادية والتنموية ، بما لم يتعرض له نظام حكم سوداني من قبل . كما وتم شن حملات عسكرية مباشرة على الحكم في السودان سواء في جنوب البلاد أو شرقها أو غربها أو حتى على خطوط نقل البترول في الشمال !! وعلى الرغم من المعارضة الشرسة عسكريا وسياسيا ، ومن الحصار السياسي والدبلوماسي والعسكري والاقتصادي ، أنجز حكم ( الانقاذ ) في مجال مشروعات البنى التحتية ، ومشروعات التنمية الاقتصادية ، والمشروعات السياسية ما لم يسبقه عليه نظام حكم وطني ، ولا بأس هنا من التذكير بمشروعات الطاقة في مجالي النفط والكهرباء والسدود ، ومشروعات التصنيع الثقيل العسكري والمدني في اليرموك وجياد والصافات ، ومشروعات الجسور على المجرى الرئيسي لنهر النيل وروافده ، وبمعدلات النمو الاقتصادي المضطرد باعتراف المؤسسات الدولية حيث ظلت نسبة النمو الاقتصادي تضع السودان ضمن الدول الخمسة الأولى عربيا وافريقيا . تجربة ( الانقاذ ) اذن كانت مختلفة من هذه الزاوية ؛ زاوية اختلاف الظرف التاريخي الدولي الذي جاءت فيه للوجود ، وزاوية المعارضة الشرسة التي وقفت في وجهها وحاولت اقتلاعها بكل الوسائل ، وزاوية الانجازات الكبيرة التي أمكنها فعلها برغم ضراوة المعارضة السياسية والعسكرية ، وتعدد أوجه الحصار الدولي ؛ وسيكون تجاهل هذه الوقائع والأحداث ، أو عدم وضعها في سياقها التاريخي وتحريرها من التضخيم أو الاختزال ، أول عناصر الفشل في الوصول لحكم منصف لهذه التجربة من عمر استقلالنا الوطني . طوال السنوات العشرين الأولى من عمر الاستقلال ، ظلت بلادنا ( تأكل من سنامها ) كما في المثل الدارج أو من ( سنكيتها ) ان جاز الاشتقاق ، فقد احتفظ النظام التعليمي بألقه وجودته ومجانيته ، واحتفظ نظاما الخدمة المدنية والعسكرية بانضباطهما وحيدتهما ونزاهتمها الا ما ندر وشذ ، وظل الاقتصاد يحافظ على تصدره لقائمة الاقتصاديات في محيطه الاقليمي ، والعملة الوطنية تحافظ على تفوقها على الدولار وعدد من العملات العالمية ؛ لكن حالة الرفاهية والرخاء هذه ، والتي تمتعت بها أجيال ما بعد الاستقلال ، أخذت تتراجع بعد أن نفد ما في ( السنام ) لا بسبب تكاثر الأكلة على القصعة ، ولكن بسبب أن من آلت اليهم أمور البلاد والعباد ما بعد الاستقلال ، لم يضعوا من السياسات والبرامج ما من شأنه المحافظة علي الواقع وتطويره بما يتجاوب ومقتضيات التطور والزيادة في عدد السكان !! الآن ، ونتيجة لعدم الاستقرار الناتج عن استمرار دورات الصراع الساسي بين الحكومات والمعارضات ، فقد تراجع ترتيب السودان في مجالات كانت له فيها الريادة كالتعليم والصحة والخدمة المدنية ، ولا سبيل لاستعادة ذلك التميز الا باعادة ترتيب الأجندة الوطنية ، بحيث تصبح قضايا الناس الأساسية ، من تعليم جيد وصحة ومياه نقية ، هي الهم الأول للحاكمين والمعارضين على حد سواء ؛ وهذا يعني أول ما يعني ارساء دعائم الاستقرار السياسي والتداول السلمي للسلطة ، ونبذ كل أشكال الاحتراب والاقتتال ودواعيهما . والكلمة المفتاحية – فيما نعتقد – هي كلمة المصالحة أو الصلح ، فهي الأقرب الى موروثنا الاجتماعي والثقافي ، والى خلق المتدينين من بيننا !! من السهل أن يسير الحاكمون والمعارضون في طريقين متقاطعين ، ومن الطبيعي أن يتغنى أنصار ( الانقاذ ) بانجازاتها غير المسبوقة ، وما أكثرها ، و أن يسير ركبان المعارضة بأخطاء الانقاذ ، وما أكثرها كذلك ، لكن أن تضع الانقاذ أخطاءها على طاولة البحث الداخلى ، أو على الملأ ، وأن يفعل المعارضون الشيء نفسه ، فذلك ما نعتقد أن بلادنا تحتاجه في المرحلة الراهنة من تجربتها السياسية ، لا بغرض التشفي ولكن بغرض خلق أكبر قاعدة من الرضا والالتفاف حول ما أنجزته بلادنا في مجال السلام الشامل واعادة بناء الدولة . فالسلام واعادة الحقوق هما المدخلان الأنسب لتحقيق المصالحة الشاملة . البعض من زملائنا الكتاب ، ومن السياسيين والمفكرين ، ظل يدعو ، بين حين وآخر ، الى الأخذ بتجارب أمم ودول سبقتنا في مجال اعادة رتق النسيج الاجتماعي ، وتجاوز مرارات الماضي التي تخلفها الحروب الأهلية والاقتتال الداخلي ؛ ويضربون لذلك أمثلة بتجربة دولة جنوب افريقيا وتجربة المغرب ، وتجارب أخرى كما في عدد من دول أمريكا اللاتينية كالأرجنتين والسلفادور وغواتيمالا والبيرو ، كما جاء في مقال للأستاذ مصطفى البطل نشر في صحيفة ( الأحداث ) أواخر يونيو الماضى بعنوان ( كباب الحكومة وارهاب المعارضة ) ، وأجد أن طرحا كهذا ، ان كان أصحابه يرغبون في تحقيق أكبر قدر من الاجماع حوله ، يحتاج لمزيد من التحرير حتى تنتفي عنه شبهة الغرض والاستغلال السياسي الضيق . في مفاوضات السلام التي جرت في نيفاشا مطلع هذه الألفية ، وبحسب مصادر شاركت في التفاوض ، تم طرح موضوع ( الحقيقة والمصالحة ) من قبل مفاوضي الحركة الشعبية ، وخضعت الفكرة لنقاش عميق ، لكن – بحسب الافادات التي تحصلت عليها – أثيرت أسئلة جوهرية تتعلق بطبيعة القضايا التي يتعين أن تستجلى حولها الحقيقة ، وتلك التي يتوجب أن تكون أساسا للمصالحة ، وأول هذه الأسئلة الجوهرية كان عن الفترات التاريخية التي ينبغي أن تشملها جهود كشف الحقيقة. فاذا كان البعض يعتبر أن نظام ( الانقاذ ) قد ارتكب أخطاء في حق مواطنيه يتعين كشف تفاصيلها وتسمية مرتكبيها ومحاسبتهم والاعتذار عنها ، فان المنطق يقول أن ( الانقاذ ) لم تكن أول من يستن هذا ، ونرجو أن تكون آخر من يفعل ، فهنالك أخطاء جسيمة راح ضحيتها الآلاف ارتكبتها الثورة المهدية ضد مواطنيها ، وهناك أعمال أشبه بالأبادة الجماعية ارتكبتها قوات الغزو الانجليزي ضد جيوش المهدية في كرري وأم دبيكرات ، وهناك أعمال عنف وقتل سبقت اعلان الاستقلال كما في أحداث توريت في أغسطس 1955م ، وهناك أحداث الجزيرة أبا في مارس 1970م ، وهناك ضحايا مدنيون وعسكريون خلفهم انقلاب يوليو 1971م كما في مجزرة بيت الضيافة ، وهناك أحداث يوليو 1976م أو ما عرف بالغزو الليبي للسودان !! الذي انتهى اليه المفاوضون في نيفاشا ، هو أنهم اعتمدوا مبدأ المصالحة كأمر لا يكتمل السلام الا به ، وقد تم التنصيص على موضوع المصالحة في فقرتين ضمن بروتوكول قسمة السلطة كما جاء في المادة ( 1-7 ) : ( يتفق الطرفان على بدء عملية مصالحة وطنية شاملة وتضميد الجراح في جميع أرجاء القطر كجزء من عملية بناء السلام . وتتولى حكومة الوحدة الوطنية صياغة آلياتها وأشكالها ). وفي الفقرة الثانية : ( تعمل حكومة الوحدة الوطنية على تنفيذ حملة اعلامية في جميع أنحاء القطر وبجميع اللغات الوطنية في السودان بهدف نشر اتفاقية السلام والنهوض بالوحدة الوطنية والمصالحة والتفاهم المتبادل ) . وفي جدول وسائل تنفيذ اتفاق قسمة السلطة أفردت فقرة ل ( عملية المصالحة الوطنية وتضميد الجراح ) باعتبار أنها مسئولية الرئاسة وحكومة الوحدة الوطنية ، على أن تبدأ بعد اجازة الدستور القومي الانتقالي وتشمل جميع أنحاء السودان . وقد تمدد حديث المصالحة لنجده أيضا في ديباجة اتفاقية وقف اطلاق النارالدائم والترتيبات الأمنية : ( يعيد الطرفان التأكيد على التزامهما بالتسوية النهائية والعادلة والسلام الشامل وأمن ورفاهية واستقرار الشعب السوداني في اطار المصالحة القومية الصادقة والمخلصة ) ونجده كذلك في برتوكول منطقة أبيي ، تحت عنوان عملية المصالحة : ( عند توقيع اتفاقية السلام الشامل ، تبدأ الرئاسة – كمسألة مستعجلة – عملية السلام والمصالحة لأبيي ، والعمل من أجل الوفاق والتعايش السلمي في المنطقة ) . الأساس النظري لعملية المصالحة اذن موجود ، وبعض آلياته التشريعية والتنفيذية تمت الاشارة اليها ، لكن الحقيقة تظل أنه لم يبذل جهد كاف لوضع ما تم الاتفاق عليه موضع التنفيذ ، سواء من حيث حجم العمل المطلوب أو من حيث مراعاة المواقيت المتفق عليها ، ولا يختلف عاقلان في أن المسئولية في ذلك تقع على عاتق شريكي اتفاق السلام الشامل ، بغض النظر عن مبرراتهما المشتركة ، أو مبررات كل طرف منهما لحيثيات هذا الاخفاق .