في رحلة الرهق الذي يصاحب العمل الصحفي ، نجد أنفسنا كصحفيين سوادنيين بالمهجر نعقد مع أنفسنا جلسات كثيرة للمصالحة والمصارحة لاتخاذ قرار ما بناء على ما تمليه علينا إرادتنا الذاتية والثقافية ورفض كل ما تمليه علينا سياسات المؤسسة المخدمة في المهجر المعين مع إخضاع أو تغييب رأينا كرأي مستقل وتحويله إلى تابع وفقاً لسياساتها . في كثير من الأحيان يتناوشني إحساس بالإنفصام على المستوى المهني خاصة وأنا أكتب بصحيفتين إحداهما هذه الصحيفة الأحداث مع عملي كمراسلة من موقعي الجغرافي وسط صحراء العرب لجريدة أخرى سعودية دولية. والمتأمل في حال الصحفيين السودانيين العاملين في دول الخليج يستطيع أن يرى بوضوح أن التجربة في مجال الصحافة قصيرة كانت أم طويلة لا تختلف عن كونها تجربة خاضعة ومسيرة ومروضة . أريد أن أخلص إلى أن محيطنا السوداني في هذا المجال هو الذي يصنعنا وأن المنافحة عن الحريات والوقوف في وجه الرقابة القبلية على الصحف ينبع الإحساس بها من موقعك المهني فإذا كنت تقبل بمصادرة كلمتك ورأيك في صحيفة عربية فأنت بهذه المصادرة في صحيفتك الوطنية أكثر ترحاباً ، لأن استعداد الإنسان لتقبل أسواط العذاب حتى تصل مرحلة العادية تقتل فيه كل ذرة إحساس بالألم ،أو كما قيل :"ما لجرح بميت إيلام". بالنسبة لشخص عمل في الصحافة السودانية زمناً أطول مقارنة بعمله في الصحافة العربية الأخرى يستطيع أن يرى الفرق بين قمع الرأي وتعليب الكلمة ويستطيع أن يفكر ماذا يمكنه أن يفعل إزاء هذا الحَجر ، أو أن يستوعب تبعاً لذلك ما يعنيه موقفه إزاء رفض مصادرة حرية التعبير والموقف المجرد فقط هنا هو أضعف الإيمان . أمامي أسماء لامعة في تاريخ الصحافة السودانية تجدهم عند الالتحاق بصحف خليجية خاصة المحلية منها يتم تدجينهم وحصرهم في زوايا الإدارات أو في الصحافة المتخصصة . يمكنهم أن يحققوا نجاحاً على المستوى المهني كل حسب مقدراته وتخصصه أما حينما يأتي زمان يراجعوا فيه حساباتهم وأسماءهم ويروا ما خزنته ألواح السير الذاتية يجدون تركة تجربة عميقة مكونة من تقلص مساحات حرية التحرك في مجالات الصحافة ، فالصحافي الرياضي يحيا ويموت رياضياً والاقتصادي يأكل ويشرب على رنين العملات وتصعد أنفاسه مع صعود الأسهم ويموت بالسكتة القلبية مع موت المضاربين .أما الصحافي في الملاحق الثقافية العربية فما زال يدور في فلك المتنبي ويمدح سيف الدولة وتُهدى له الخيول المسومة. منهم من يقتنع بأن ما أدركه من خبرة في هذه الأقسام كافٍ ،ومنهم من يشعر بأنه أحال نفسه لحالة التقاعد في طموح من يكون ؟ نظراً لعمق ووحشة وعذاب تجربة السنين التي لم تحصد غير اسم مخبوء خلف فخامة المكتب والعائد المجزي . اليوم مثلاً تم تكليفي من قبِل صحيفتي وهي أكبر صحيفة بالشرق الأوسط أن أغطي ندوة عن "تثقيف المرأة".بالنسبة لي كصحفية سودانية مشاكسة وكثيرة الاعتراض والمناكفة ، أقوم بالاعتراض مبدئياً على عناوين من هذه الشاكلة ، وهذا باب تأتيك منه جملة من المشاكل . وإذا وافقت على العنوان وذهبت أجد أن المتحدثين مصنفين على أساس الجنس وهذه قضية جندرة لن يسمع بها المجتمع الذي أغطي فعالياته إلا بعد مائة سنة قادمة . وإذا قبلت التمييز على أساس الجنس أجد أن المتحدثات يناقشن قضايا المرأة مع حضور مكون من النساء فقط والمواضيع تمت مناقشتها في بلدي قبل نصف قرن ،وقامت حركات نضال قادته منذ ذلك الزمان سعاد إبراهيم أحمد وفاطمة أحمد إبراهيم وخالدة زاهر. كما سأجدهن يطالبن بحقوق حصلت عليها جداتي وأمي وحصلت بعدهن على أكثر منها وتجاوز هذه الحقوق زمني والآن أفكر فيما هو أكبر وأجل.