واضح أنه كلما دخلت البلاد في ورطة جديدة رغبت الحكومة في استغفال القوى السياسية المركزية من جديد. وأحيانا يبدو أنه كلما ادلهمت الخطوب في البلاد المنكوبة أصلا بدت قيمة الحوار أعلى سقوفا من سقوف البطش، والدعوة إلى التراص في الصف الوطني أفضل من الإساءة لرموز المعارضة الموصوفة بالعمالة. كذلك يبدو تودد الحكومة آنئذ للسيدين أدعى لرد الإعتبار المظهري لهما بدلاً عن وصمهم بأنهم صناع الطائفية الذين ضيعوا وقت البلاد في الخلاف، والكلام. وهكذا ظلت الحكومة عن طريق الدعوة الشكلية إلى الحوار تقود مبادرة الفعل السياسي بينما تنحصر المعارضة في ردود فعلها التي تزيد سوء صورة الواقع في أعين المواطنين بشكل يعفيها من التبدير في الفعل السياسي. والملاحظ أن إستراتيجية الحكومة قد نجحت طوال العقدين الماضيين في شغل المعارضة بالرد على تفاصيلها اليومية بدلا من جعل المعارضة قادرة على تحميل الحكومة مشقة الرد عليها بعمل نوعي. هذه الإستراتيجية السياسية للحكومة لا تبذلها وحدها، وإنما لديها جيش من الكوادر الذين تستخدمهم في المناسبات الإجتماعية، وعبر الإعلام والثقافة، والأحداث التي يتقاطع فيها الوطني مع الحكومي، ومنظمات المجتمع المدني التي يتبع قادتها إلى النظام. وأحيانا توكل الحكومة لمن يقفون في المناطق الرمادية الفرصة لأداء الدور. بل وأحيانا أخرى يقع هؤلاء، من غير الإسلاميين، فريسة في شراك هذه الإستراتيجية، ليكونوا وكلاء لما يسمى بهتانا بحكومة القاعدة العريضة. هذه الأيام عادت نغمة الحوار بحجة أن لا بديل عنه في حل أزمات البلاد وقد أطبق الحديث عن جدوى الحوار الوطني على الإعلام الحكومي والخاص التابع للكادر الإسلاموي. ومرة أخرى إنجرت بعض القوى السياسية متحمسة للرد. بيد أن الحكومة لا تحفل بالرد الإيجابي فقط، فالمهم عندها ليس هو الحوار من حيث أنه قيمة سياسية مطلوبة، وإنما المهم هو النجاح في تنظيف منطقتها ودفع الكرة إلى منطقة الخصم. والحكومة هنا تلعب دور قلب الدفاع (القشاش) في كرة القدم، حيث أن المهم هو إبعاد الكرة إلى النصف الآخر ما دام أن ذلك لا يسبب مخاطر في خانة مرماه. وما أخطر تكاثر فعل الجناح الخير أو (الإنسايد الساقط) الخصم في ملعب قلب الدفاع. هذا النوع من الإستراتيجية السياسية والتي ربما لا يفطن لها بعض من أصحاب النوايا الطيبة في القوى السياسية يسبب الكثير من المضاعفات للعمل المعارض فيما يقوي هيمنة الحكومة المبنية على لازمة إرهاق خصومها حتى تبدو خطاباتهم، وأفعالهم، وكأنها لا تتسق منهجيا، ولا تصب في مضمون الفاعلية السياسية. ما قبل الدعوة إلى إقامة سرايات الحوار الوطني الآن كانت الحكومة قد خرجت من لعبة الإنتخابات مزهوة بنصرها المزيف على الأحزاب، ثم سيطرت بالكبت على الوضع الداخلي تماما بعد التخلص من شراكة الحركة الشعبية المتشاكسة التي كلفتها الكثير. آنذاك لم يكن أمام الحكومة إلا كنس آثار الإتفاقية التي جاءت ببندي التحول الديموقراطي والمشورة الشعبية اللذين أكرهت الحكومة عليهما ضمن بنود مكرهة متعددة وقعت عليها في نيفاشا. وقبل أن يكمل الربيع دورته إلا وعادت حليمة إلى قديمها. فسياسة الكبت والترهيب قد طالت معظم نشطاء القوى السياسية في الداخل. كما تعرض نشطاء المجتمع المدني إلى الإعتقال في بيوت أشباح محدثة. وعموما قد أجبر الناس الفاعلون في المجتمع على مغادرة البلاد فيما حقنت الصحافة بمصل الموت السريري. وبناء عليه ما عادت تحفل الصحف إلا بالتحرير الصحفي الذي يهتم بتفاصيل كل شئ ماعدا نقد الحكومة وتنوير المواطنين بحقائق الأوضاع المتدهورة في البلاد. _2_ بالنظر إلى تكاليف الحرب المقيتة فإن الحوار كلازمة سياسية وحيوية ضروري ولا محيص عنه، حتما، في حال حدوث التوازن العسكري والسياسي. ومهما أنتجت أي حرب من تغيير سياسي فإن المضاعفات الإنسانية والإجتماعية ستظل وصمة في جبين كل الفرقاء، ويتحملون مسؤوليتها بتقديرات متفاوتة. وهذه هي الحقيقة التي لا منجاة للحكوميين والمعارضين، سلميا وعسكريا، من الفرار منها. غير أن المفهوم أيضا أن أسباب الحرب أحيانا تنفرض فرضا ويبقى لا مفر للمعنيين بها سوى خوضها دفاعا عن النفس والعرض والمال، إلخ. وبدلا من التحاور معهم بصدق دعا البشير في مستهل بدء تصريحاته التي لا تمثل رجل دولة كل الراغبين في مشاركته الكيكة إلى منازلته عسكريا حتى يمكنه النزول إلى مبتغاهم. وبرغم أن تلك الدعوة قد تلقفتها فصائل التجمع الوطني برحابة صدر بيد أنها كلفت البلاد وقصمت ظهرها. والآن فإن الرغبة الحكومية المستبطنة ما تزال تتودد لحاملي السلاح في التخوم بينما تتم مخادعة القوى السياسية المركزية بأهمية الحوار في مستقبل البناء الوطني من جهة، وأهميته أيضا من الجهة الأخرى في معالجة مضاعفات ماضي الخلاف التي ضيعت سلامة الحاضر، وقتمت فرص مستقبل أفضل للسودانيين جميعهم. هناك ما بين الحرب والسلم طريق ثالث لم تستطع قوانا السياسية في المركز تفعيله ليثمر ألا وهو طريق الإنتفاضة السلمية المجربة من قبل. ولعله لدى هذه القوى ألف حق في القناعة بهذا الطريق دون تراجع، ومهما كانت كلفته. وليس من واجب الأستاذ الشفيع خضر الخجل من نظرات غازي صلاح الدين أو مطرف صديق حين يعلمهما بأن حزبه تبنى الإنتفاضة بوصفها بناء في موروث إيجابي وهو أقل تكلفة من فاتورة الحرب وعدمية الحوار. ولا نظن أن الحكومة في أي بلد هي التي تحدد سقف آمال شعبها متى ما دعا داعي الصراع إلى الإنتفاض سلميا من أجل التغيير. وهذه الآمال وجودية وملحة، خصوصا وإن كانت هذه الحكومة قد إختارت الطريق الرابع وهو استخدام سلاح القوات المسلحة لتجيير الأوضاع السياسية، والأمنية، والإقتصادية، والإعلامية، والتجارية، إلخ، لصالح الفئات الإسلاموية التي تدير الشأن العام دون فئات المجتمع الأخرى. إن الحكومة تدرك أن الطرق الثلاثة الناجحة في التغيير السوداني المتمثلة في الإنقلاب العسكري، والإنتفاضة السلمية، وحمل السلاح المفضي إلى الحوار إنما هي فاعلة في تحديد حاضر القوة على الأرض. وحين تبعث دعوتها إلى المعارضة إلى إتباع الطريق الرابع للتغيير عبر الحوار المجاني فهي تدرك أنه لم تكن هناك تجربة حوار ناجحة غير مسبوقة بفعل عسكري في تاريخ الصراع حول السلطة. وبالتالي تبقى مراوغة الحكومة بثيمة الحوار ضغطا سياسيا مشرعا عند النكبات في وجه قادة القوى السياسية، إن رغبوا في خوضه فهم وطنيون شرفاء، وإن شككوا فيه عدوا كمتواطئين، وإن رفضوا فهم عملاء. بهذا التقدير يتم إبتزاز زعماء المعارضة والتضييق عليهم، ولا سقف يحد هذا الإبتزاز تجاه كوادرهم والذي قد يصل إلى درجة الإغتصاب أو التهديد بإرتكابه. وهاتان وسيلتان جديدتان من وسائل تكامل الدور الإسلاموي مع الفعل السياسي، والإعلامي، والتجاري، والدعوي، وضف تكريم المبدعين، وفتح المجال لأهل الثقافة عبر زين، وتصوير الشروق لإبتسامات لقاء الميرغني بالبشير. بشكل أكبر هذه هي إستراتيجية الحركة الإسلامية التي إتبعتها منذ مجيئها إلى السلطة حيث توظف كوادرها الناشطة في كل المجالات للاستئثار بمناخ التفكير السياسي وذلك ما يمنح السلطة هامشا كبيرا لإحكام القبضة على الفعل السياسي وتحجيم مساحة التناور المعارض. _3_ وعلى كل حال يمكن أن يفيد مؤتمر الدوحة الذي دعا إليه بعض المثقفين لجعل الحوار سبيلا للحل السياسي في قراءة المعارضين لأفكارهم بعضهم بعضا أكثر من فائدته لخلق تحول سياسي منشود في السودان. ونعتقد أن كل التوصيات التي سيخرج بها المؤتمرون ستضعها الحكومة في الرف الذي راكم آلاف التوصيات المغبرة، وبعضها قضم منها الفأر. وما أكثر المؤتمرات التي بذلها المفكرون والمثقفون منذ مثول الإنقاذ. كذلك يمكن أن يفيد حديث د. الشفيع خضر التلفزيوني في تنوير المواطنين بالمأساة الوطنية، ولكن لا أمل يرجى من كل قادة المؤتمر الوطني الذين لا يملكون قناعة بأن الحوار هو سبيلهم للتخلص من جرائمهم المرتكبة خارج سياق العمل السياسي. ومن جانب آخر فإن مشاركة السياسيين في مؤتمر الدوحة ومشاركة د. خضر في تلك الحلقة التلفزيونية ترسلان صورة سلبية للمقتنعين بضرورة التغيير السلمي عن طريق الإنتفاضة، وتعبر مشاركة الحزبيين في مؤتمر الدوحة أيضا عن تناقض القوى السياسية المعارضة التي دعت إلى تغيير النظام بينما ما تزال بعض كوادرها القيادية تؤمن بأن مؤتمر الدوحة يمكن أن يجلب الديموقراطية. وكما نعرف أن المؤتمر المذكور لا يهدف بطبيعة الحال إلى دعم الشعب السودان عبر الإنتفاضة، والتي كانت آخر بروفاتها قد تمثلت قبل رمضان. إضافة إلى ذلك فإن المؤتمر المحضور شمل نافذين من الحكومة ما يعني أنها ستكون جزءً من الحل المتصور وهي ذات الحكومة التي أجمعت معظم قوانا السياسية، والعسكرية، على إقتلاعها من جذورها..كما الإقتلاع الذي تم لجذور سلطتي عبود ونميري. إن تطلعات معظم الحادبين والمشفقين على مستقبل البلاد لا ترى إلا ضرورة تغيير النظام اليوم قبل الغد. فوجوده في السلطة يعظم كل يوم فرص تشظي البلاد أكثر مما هي عليه الآن. فالنظام مهما أظهر نواياه للجلوس للحوار مع المعارضة السلمية والعسكرية فإنه يضع نصب أعينه المزيد من التمكين الإسلاموي الممنهج، والماكر. وهل من أحد يشك إزاء مخطط الحركة الإسلامية، حيث جاءت إلى السلطة لتبقى، لا لتتحاور لصالح برنامج يختلف عن برنامجها الذي كلف الكثير من تماسكها، وبالتالي أفضى إلى هيمنة غالب كوادرها الفكرية، والسياسية، والإعلامية، والإقتصادية، على كل نشاطات المجتمع . نحن لا نحتاج إلى تذكير قادتنا الناشطين في المجال السياسي، والفكري، والثقافي، والذين يرون أن مجرد الجلوس للحوار مع رموز الحكومة، مهما علت شروط المعارضة لإنجاح الحوار، سيقود إلى تحقيق تطلعات معظم السودانيين الراغبين في التغيير بإتجاه ديموقراطية كاملة الدسم. ولكننا فقط نحث بعضهم على الوضوح في إتساقهم الفكري والسياسي حول أيهم أكثر فاعلية في إنقاذ السودان: العمل العسكري، أم المعارضة السلمية، أم الحوار مع النظام؟ إننا نفهم أن عمل السياسي يقوم في جانب منه على إنتهاج سبيل المناورة، أو الاستكشاف الذي يحقق له تطلعاته غير أن المسألة التي أفهمنا لها الإنقاذيون عيانا بيانا هي أنهم جاءوا لصياغة السودان بإتجاه الأسلمة وفق برنامجهم الإسلاموي. وقد تمكنوا من وراثة البنية الفوقية للبلاد، وجذروا بعض وجودهم في مناحي الحياة العامة، وهم محروسون بالدبابات. فكيف السبيل للحوار مع فئة كهذه. بل وما هو معنى الحوار بالنسبة لهم أصلا؟ حقا إننا نواجه نظاما شرساً ليس هو ككل أنظمة السودان السابقة. فهو نظام مؤدلج وكوادره محدثون في نظرتهم للكسب السياسي التنظيمي. إنهم قارئون بشكل جيد لطبيعة التناقضات المجتمعية السودانية وليست هي حالة تدعوا للأسف حين نراهم يوظفون هذه القراءة سلبيا لصالح القناعة الفكرية الضيقة للفئة على حساب الجماعة. فالمؤسف هو عدم فهمنا الصحيح لطبيعة التأثير الذي تحدثه فكرة الأسلمة في الفرد. فهي أسلمة قائمة على إكساب ذاتها حقوق الجماعة التي تتساكن معها ولو بالقوة الباطشة والفعل المنكر قناعة بأن ذلك يخدم الدين. والإسلاميون يدبرون ويبررون كل ذلك إستنادا على قراءة خاطئة وإنتهازية للقرآن الكريم وسنة النبي الأكرم والتاريخ الإسلامي. ولهذا ظل السودان طوال العقدين الماضيين مثل الرهن العقاري بالنسبة لكوادر الحكومة، أو غنيمة الحرب التي ظلوا يديرونها تاريخيا، وما يزالوا مع من أسموهم بالطائفيين، والشيوعيين، والجمهوريين، والقومجية، ودعاة إصلاح المركز من أبناء المناطق، والقوى الإمبريالية والصهيونية، ومع كل الذين يؤمنون بالترفق مع هذا التنوع السوداني الحساس الذي يتطلب نهجا خاصا للحفاظ على مكتسباته. فليكن الحوار الحقيقي بين المكونات السودانية المعارضة للإتفاق أولا حول أسس وكيفية التغيير. وهذا هو الحوار المفيد الذي يضع المعارضين في الكفة الراجحة في ميزان القوى. وإن تم ذلك فإن النظام حتما سيتنازل تلقائيا عن قبضته وسيتخلى السلطويون تحت الضغط العام المتحد والجاد عن بعض سياستهم إلى أن يضعف النظام ويتمهد الطريق للإنتفاضة. salah shuaib [[email protected]]