أحب السودان فأحبه سواد الناس قفل عبدالخالق عائداً الى الوطن وهومثقل بالمرض والرهق من فترات الملاحقة والاعتقال فى سجن ‘هايكستب‘ سىء السيرة. وفى سنى الدراسة بجامعة فؤاد الأول توثقت صلاته باصدقاء العمر تيجانى الطيب، والجنيد على عمر، وحسان محمد الامين وبابكر محمد على فضل وعمر وعلى محمد ابراهيم وأحمد سليمان. وأصبح هؤلاء فيما بعد نواة الحركة الشيوعية فى السودان. وبعض هؤلاء ومن بينهم عبدالخالق محجوب أسهموا فى تقوية المنظمات الشيوعية المصرية والقوا ثقلهم خلف مهمة توحيدها فى منظمة واحدة. فبقدر ما اكتسب هؤلاء من خبرات رفاقهم فى مصر يصدق القول بأنهم لم يتوانوا عن رد الجميل بأحسن منه عندما زجت اجهزة الامن المصرية بالمئات من قياديى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى (المصرية) فى غياهب السجون والمعتقلات. كانت التجربة المصرية عظيمة الاثر فى تطور عبدالخالق محجوب ورفاقه. فانجلى معدنهم فى خضم نضالات وتضحيات جسيمة صاغها شعراً الأخوان كمال وابراهيم حليم. وقليل من الناس من لاتحرك أشجانه وتلهب حماسه الى أعلى ذروة كلمات الشاعر الثائر كمال حليم "الذى يغوص فى مشاكل الحياة كما يغوص الفأس فى الأرض الطيبة": يارفيقىَ أنا وانت وعمى وابن عمى جماعةٌ من عبيدٍ يارفيقىَ فى العرى والجوع والكد كفانا عهود عرىً وجوعٍ ذهب العمر كالخريف بوادينا وماتتْ زهورنا فى الصقيع نحن من يخلقَ الربيعَ ويرنو عارياً باكياً لحسن الربيع يارفيقى ونحن ننحت فى الصخر قصوراً وننزوى فى قبور وبقدر ما أرتبط الشيوعيون السودانيون برفاقهم فى مصر وتوحدوا فى النضال من أجل استقلال مصر والسودان معاً، إلا أن هذا الارتباط لم يكن له أثر مباشر فى تجربة الحزب الشيوعى السودانى فيما بعد. فقد عانت المنظمات المصرية من غلبة العناصر الطلابية والمثقفة وقلة من العمال وتفشت فى صفوفها الانقسامات فانحسر نشاطها وظل حبيساً فى أوساط ضيقة لم تول إهتماماً كافياً بقضايا السواد الأعظم من الشعب فى أرياف مصر ومصانعها. والأفكار الماركسية فى حقيقة الأمر، لم تفد الى السودان عبر بوابة مصر فقط. فقد كان للجنود والمعلمين والموظفين البريطانيين تأثيراً موازياً ً فى استقطاب بعض طلاب المدارس الثانوية. وبين أيدينا مصادر تأريخية عديدة أوردت أسماء أشخاص مؤثرين فى هذا الصدد من بينهم احد مجندى الجيش البريطانى هو المستر ستورى وشخص آخر عمل معلماً بوزارة المعارف السودانية واسمه دكنسون، وكذلك المستر ب. ل. شينى مدير الآثار وقد توطدت الصلات بينه وعبدالخالق محجوب وكان حلقة الوصل لمده بمطبوعات الحزب الشيوعى البريطانى. فى ذات الوقت كانت هنالك افواج من الطلبة السودانيين الذين وجدوا الفرصة للدراسة فى انجلترا فاتيحت للبعض منهم الاتصال بالحزب الشيوعى هناك. وقد زار عبدالخالق انجلترا لحضور مؤتمر الحزب الشيوعى هناك فى عام 1954 والتقى عدداً من قادته من بيهم اثنين من كبار مسئوليه عن العلاقات الدولية هما بالم دت وادريس كوكس. وهذه الصلة تواصلت حتى اضمحلال الحزب الشيوعى البريطانى وانحسار نفوذه بين نقابات العمال. يشير المؤرخون لنشأة الأحزاب السياسية السودانية إلى أن النواة الأولى للحزب الشيوعى السودانى تعود إلى عشرينات القرن الماضى الى ان التجربة ماتت فى مهدها. والاشخاص الذين سعوا لغرس بذرة الافكار الماركسية آنذاك كانوا من بين المهاجرين الارمن الفارين من المذابح على ايدى الجنود الاتراك فى ثمانينات القرن التاسع عشر. وبعض هؤلاء المهاجرين تولوا تنظيم نقابات العمال فى مصر ، كما أرخ لذلك الدكتور رفعت السعيد. وفى السودان بادر ثلاثة من المستخدمين الأرمن هم ارتين آركيان وقد عمل وقتها ميكانيكياً بهيئة السكك الحديدية، وبادروس ساهورتيان الذى عمل بادارة الاشغال العامة، وأنيس ظهربيان وقد عمل وكيلاً تجارياً. وكما ورد فى طيات وقائع حركة 1924 . وكذلك فى كتاب ‘كفاح جيل‘ بقلم أحمد خير . فقد توثقت صلات هؤلاء المهاجرين أول ما توثقت به من السودانيين شخص اسمه على احمد صالح واشتهر باسم ‘على حاجى‘ وكان عاملاً بالمطبعة الحكومية. وقام على حاجى باستقطاب ستة من اصدقائه واهله من بينهم محمد خير المرضى وحبيب حنا سودانى من أصل قبطى وابراهيم سعيد عبده، والماظ عبدالله سعد، وابراهيم موس، وفرج الله سعد. وجل هؤلاء عملوا بالمطبعة الحكومية. هذه النواة الباكرة لم يكتب له الدوام بعد مغادرة مؤسسيها من المواطنين الأرمن وبعد التحول الدرامى لعلى حاجى أثناء محاكمة ثوار عام 1924. فقد تحول تحت قسوة الحبس والتحقيق والتعذيب الذهنى الى شاهد ملك ضد رفقائه. وبذلك إنسدل الستار على مرحلة ثانية فى تواتر الأفكار الماركسية الى السودان. لقد تضافرت جملة عوامل داخلية وخارجية فى قيام الحزب الشيوعى السودانى بعد انتهاء الحرب العالمية واجتثاث الأنظمة الفاشية فى أهم معاقلها فى المانيا، وايطاليا واليابان. وفى ذات الوقت استشرف العالم عهداً جديداً للديمقراطية والتحرر الوطنى. وكان استقلال الهند حافزاً قوياً للشعوب فى المستعمرات البريطانية والفرتسية والبرتقالية والهولندية. وينفس القدر كان قيام هيئة الأممالمتحدة تجسيداً لمستقبل العلاقات الدولية ومبادىء الحرية واليمقراطية والتحرر الوطنى.. ولم يقف السودان بمعزل عن تلك التحولات العالمية الهائلة، حيث تخففت القيود على المناشط الفكرية والصحفية، وبناء مؤسسات دستورية لم تلق تأييداً من الأحزاب والمنظمات الوطنية ولكن قيام هذه المؤسسات بحد ذاته والشروع فى مسودة لدستور السودان أكدت بشكل قاطع أن السودان قد وقف على أعتاب مرحلة جديدة فى مساره نحو الاستقلال الوطنى. خرج السودان من سنى الحرب العالمية مثقلاً بالفقرالمدقع والتخلف بسبب النهب المضاعف لخيراته بواسطة الاستعمار البريطانى. وكان جنود قوة دفاع السودان قد دخلوا فى عصيان باسل (1945) للاحتجاج على تسريحهم دون دفع استحقاقاتهم. وبالرغم من حالة الحصار القائمة لم تتوان الصحف فى التعبير عن تظلمات فئات الشعب السودانى الفقيرة. وفى ذات الوقت أخذت أعداد عمال السكك الحديدية بشكل خاص تتزايد بواتائر متلاحقة. وبالرغم من حالة الاحباط والتشرزم التى أصابت مثقفى الطبقة الوسطى ظلت مجموعات منهم قابضة على الجمر فى مواجهة الاستعمار البريطانى ووقوفهم الى جانب السواد الاعظم من السودانيين. وفى عام 1945 أسس الأستاذ محمود محمد طه تنظيم الاخوة الجمهوريين. وكان صريحاً وجسوراً فى نقده لطائفتى الانصار والختمية لتأرجحهما بين دولتى الحكم الثنائى. كذلك طرح الأستاذ محمود برنامجاً يدعو لقيام دولة مدنية على أساس القران وتعاليم الاسلام. فى هذه الأجواء نشأت أول حركة ماركسية - الحركة السودانية للتحرر الوطنى وتعرف إختصاراً باحرفها الأولى (حستو). وقد وقف على قيادتها الدكتور عبدالوهاب زين العابدين. قبل أن تنتقل القيادة من بين يديه الى عوض عبدالرازق قبل أن تؤؤل الى عبدالخالق محجوب. وبالرغم من قلة أعضاء ‘حستو‘ مقارنة بالأحزاب الطائفية إلا أنها جذبت الى صفوفها مجموعة من الشباب الناهض الذين تصدوا لبناء حزب سياسى أعلن انحيازه لحماية مصالح طبقات العمال والمزارعين وفئات العاملين. وقد وجدوا فى مصادر المعرفة الماركسية سلاحاً قوياً لتحليل طبيعة الاستعمار البريطانى، وانفتحوا على تجارب الشعوب الأخرى، لمقاومته وهزيمته فى نهاية المطاف. وتوحدوا مع الحركة الوطنية فى مصر تحت شعار ‘وحدة الكفاح المشترك‘. فى عام 1947 عاد التيجانى الطيب وهو لم يزل طالباً فى جامعة الملك فؤاد وقد حمل معه أول ماكينة رونيو صارت من بعد وثيقة الارتباط بالاصدارات السرية للحركة السودانية للتحرر الوطنى ثم الحزب الشيوعى فى وقت لاحق. كتب عبدالخالق محجوب بأن الظروف المحلية والاقليمية الدولية التى كانت قائمة أثناء وبد الحرب العالمية الثانية أفضت الى "بروز قوة اجتماعية تثق بشعب السودان ومستقبله، وتحدد دون وجل طبيعة النضضال ضد الاستعمار ومن أجل الاستقلال الوطنى، وأن توضح الحقائق الدولية والمعاضرة، وتوضح طبيعة العلاقات السودانية المصرية، وتبتدع التنظيم الحديث التقدمى الملائم للحركة الجماهيرية السودانية، وتضع منهجاً يلبى رغبات الشعب السودانى فى الديمقراطية السياسية والاجتماعية." (لمحات من تاريخ الحزب الشيوعى السودانى. ص. 38) وقد انشغل الباحثون فى السودان وخارجه بالتأمل والتقصى فى الأسباب التى أدت الى نجاح تجربة الشيوعيين فى السودان فى إقامة حزب سياسى تمكن من اقتحام ميدان العمل السياسى ووقف فى موقف الند للند من حيث التأثير السياسى مع الأحزاب الطائفية على عتوها. وهذا ماحمل طيب الذكر بروفيسور سعدالدين فوزى لطرح التساؤل فى طيات كتابه حول ‘الحركة العمالية فى السودان‘: "السؤال الذى طرحه العديد من الباحثين هو: كيف نشأ حزب شيوعى فى بلد يعمل أغلب أهله فى الرعى والزراعة. وتسيطر الطائفية على وعى الجماهير؟ كما أن الطبقة العاملة فى الصناعة الحديثة (البروليتاريا) ضعيفة التكوين، وهى الطبقة التى يوجه الحزب الشيوعى خطابه اليها ويقدم نفسه متحدثاً باسمها ومعبراً عن طموحها التاريخى. فالصناعة مازالت فى مراحلها الأولية، وأكثر من نصف العمال الصناعيين من غير المهرة. وحتى المهرة منهم غير مستقرين ويتنقلون من مهنة الى أخرى. وأغلبهم مستخدمين بواسطة الحكومة. فهى المخدم الأول." (فوزى ص. 12) وكانت الانظلاقة الحقيقية لنشاط الحزب الشيوعى بين طلبة الكلية الجامعية. وقد رصدت المخابرات الانجليزية انشطة الطلاب واستخدمت عنفاً مستهجناً ضدهم. وقد تضمنت وثائق المخابرات الابجليزية تقارير عن صدور منشورات معادية للاستعمار نسبت اصدارها الى كل من أحمد اسماعيل النضيف ومحمد عمر بشير. وفى وقت لاحق برزت أسماء عدد من قادة الطلبة الشيوعيين والديمقراطيين من بينهم مصطفى السيد ومحجوب محمد صالح وعثمان محجوب وخالدة زاهر. وقد أورد المرحوم أحمد سليمان ضمن مذكراته أن عبدالخالق وجهه الى بناء أفرع للحركة الشيوعية بوادمدنى. وأنه مضى للإتصالات مع بابكر كرار وسعد أمير. ولكن الأول عاد بعد اسبوع وأعلن عدم رغبته فى الإنضمام للحلقة الشيوعية. ومعلوم أنه فيما بعد قد شارك فى تأسيس حركة الاخوان المسلمين قبل أن ينفض أياديه عنها ويتولى تأسيس الحزب الاشتراكى الاسلامى. وفى أم درمان انخرط عوض عبدالرازق وتيجانى الطيب وعبدالخالق محجوب فى نشاط الندوة الأدبية وفى توسيع دائرة الفكر الماركسى فى مدينة أمدرمان قبل أن يتوجه عبدالخالق محجوب لاستنهاض عمال السكك الحديدة فى عطبرة ويجذب طلائعهم الى صفوف الحركة الشيوعية. نواصل..