كلما قرأت القرآن او استمعت إليه، تبينت أنه، إلى جانب كونه صالحا لكل زمان ومكان، يُخاطب من يحكمون السودان على نحو مُباشر، هم ومن والاهم بنفاق، مُهلّلا مُكبرا معهم لعرض من أعراض الدنيا، أو صامتا ساكتا عن الحق. رفعوا المصاحف على أسنة الرماح، وعلى قمم البروج الشاهقة، وفي أركان شوارع الخرطوم، ووضعوه على مكاتبهم، وفي بيوتهم، وفي سياراتهم، وجعلوا من آياته شعارات لمؤتمراتهم وجمعياتهم، وهتافات لمسيراتهم، وسندا لحججهم، وتبريرا لتجاوزاتهم، وسلاحا ضد معارضيهم، وأساسا لحكمهم. لماذا إذن لا يقرأونه كما نقرأه، ويعونه كما نعيه، ويهتدون بهديه كما يزعمون؟ لن أستشهد بآيات التحذير والوعيد مثل الآية 16 من سورة الاسراء: "إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا"؛ ولا بالآية 14 من سورة آل عمران: "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المُقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الدنيا والله عنده حسن المآب"؛ ولا بالآية 34 من سورة التوية: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فبشرهم بعذاب أليم"؛ ولا الآية 26 من سورة الأحقاف: " ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكّناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأتينا من بعدهم قرنا آخرين"؛ ولا الآية 86 من سورة البقرة: "أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا نخفف عنهم العذاب ولا هم يُنصرون". وكتاب الله الكريم ملئ بمثل هذه الآيات التحذيرية التي قصد منها تهذيب النفس البشرية الأمارة بالسوء، أفلا يعقلون؟ أسنشهد فقط بالآيات التي وردت فيها (الحكمة) وهي كثيرة، منها الآية 69 من سورة البقرة: "يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا"؛ والآية 20 من سورة (ص): "وشددنا ملكه وأتيناه الحكمة وفصل الخطاب"؛ والآية 164 من سورة آل عمران: " لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين"؛ والآية 129 من سورة البقرة: "ربنا وابعث فيهم رسولا يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم أنك أنت العزيز العليم"؛ وآيات أخريات قرن فيها الله دائما بين الكتاب والحكمة، واشترط الحكمة لضمان عدالة المُلك كما هو الحال مع الأنبياء الملوك (ما يُسمى الآن بالحكم الرشيد). الحكمة ضالة المؤمن، وتعني في حدّها الأدنى معرفة قدر النفس وقدر الآخرين، والرغبة في التعليم والتعلم والاتعاظ من أخطاء النفس وأخطاء الآخرين، ومعرفة ما يُقال في كل مقام، وما لا يُقال، والتزام الصمت في بعض المواضع، وتجنب خداع النفس وخداع الآخرين، أما خداع الله فقد حذّر منه كتاب الله المبين في آيات عديدة منها الآية 142 من سورة النساء: "ان المنافقين يخدعون الله وهو خادعهم.." وتعني الحكمة أيضا التعقل والمعقولية، والبعد عن الشطط والتفاخر الكاذب (والصادق). لم يذكر الله في كتابه العزيز الهادي الذي جمع فأوعى أن الخير في البترول الذي ذهب، والذهب الذي وُعدنا، والقطن والحنطة واالبقول التي ذهبت بها ريح النفرة. ولكنه ذكر بالتحديد أن الخير الكثير في الحكمة. ما ينقصنا إذن هو الحكمة (والحياء)! نسأل الله لنا الصبر على مُصابنا ومصائبهم، ولهم الهداية (وما ذلك بكثير على رب العزّة رغم يأسنا وانقطاع عشمنا في هدايتهم)، وان يؤتيهم الحكمة بعد أن آتاهم المُلك، أو أن يأخذهم إلى جواره أخذ عزيز مقتدر ليعلموا أن الله حق، وأن كل نفس بما كسبت رهينة، وان الله قد يُمهل (لعقدين ونيف أوأكثر) ولكنه، جلّ جلاله، قطعا لا يُهمل.