ما يزال جرح الانقسام غائر بلا انحسار وما انفكّ المواطن من غثيان الصدمة المروعة التي باغتته في التاسع من يوليو من العام المنصرم. ظلّ القلق يساوره ويتبعه كالقرين وكأنه كابوس نغّص عليه سباته، أفاق منه فرأى أن أكثر من 70٪ من ثروته التي كان يعتز بها صارت بين ليلة وضحاها هالة من عدم. لم يصفو ذهنه بعد، مما ألمّ به، لأنه فَقَدَ في ذاك اليوم المشؤوم ثروة هائلة لا ولن تعوّض بثمن. كان يدرك كلّ الأدراك ويعلم أيما علم أنه لا يعني ثروة النفط فحسب؛ إذ أنه احتسب يومئذ خسارة معنوية، ثقافية ومعرفيّة خلفها في دخيلته بتر الوطن. يسأل نفسه ممتعضا: أين غابات الأبنوس بأحراشها العملاقة وأين المحميّات بطيورها وأزهارها وثرواتها البيئية النادرة؟ أين قرابة المائة لهجة من تلك اللهجات النيلية التي طالما قلدها في سرور وتعلّم بعض نواصيها من إخوته؟ أين الأنهر المتناثرة هنا وهناك، بين أيادي السوباط وأنامل بحر الغزال؟ أين قبائل النوير، الشلك، الدينكا، الزاندي التي أسعدنا تراثها وتباينها وكان ينتفخ فخوراً عندما يرى عروضها في الاحتفالات العالمية فيقول: هذا تراث وطني الحبيب. أين فنانيّ الأناتيك الذين اتخذوا حافة غابة السنط موطنا؟ بل أين أهلنا من الجلابة الذين هاجروا وتزاوجوا مع تلك القبائل؟ وأين تلك الأوشام المتباينة التي تعلو الجباه الشامخة في تناسق وانسجام؟ وأين جون وميري وصمويل وعبدالله؟ حتى هو غادر بعد زمالة طالت العقود الطوال؟ أين هؤلاء وأولئك؟ هل هم سعداء بحال دولتهم الجديدة التي أبكتنا كما أبكانا الانفصال وأزهق أفئدتنا الفراق؟ لم يكن يضع لهذا اليوم في نفسه أي حساب! عاوده ذاك الشعور المرّ بطعم الهزيمة التي لا يد له بها، كما ساورته تلك الغصّة الحنظلية المشوبة بطعم الفشل الذريع عندما احتفلت دولة جنوب السودان في التاسع من يوليو من هذا العام بعيدها الثاني للاستقلال: يقول: لم يكن أحد منّا يحسب لذاك أيّ حساب؛ وحتى عندما ثارت نار الاشهار بحملات التصويت لهذا الشأن فلم يعِ الأمر إذ لم يبلغ منه هذا الأخير إلى مبلغ، فضرب بما سمع عرض الحائط إلى أن رأى البرهان المبين بأم عينيه، أن اخوة الأمس صاروا غرباء اليوم. فها هم ذا يحتفون ويحتفلون بالبعد عنه والاستعصام عن قربه. يتساءل ماذا كان لو أحكم أهل الرأي المشورة والمفاوضة؟ وماذا لو أعطونا الفرصة أن نصوّت نحن أيضا في هذا الشأن؟ لأن الأمر يهمنا أيضا كما يهم أهل الجنوب! وماذا لو بقى جون قرن حيّا؟ فهو لم يناد بالانفصال. من السبب وكيف حدث كل هذا ونحن هاهنا قابعين دون أن نحرك ساكن؟ أسئلة كثيرة أبلت في اعتقال تفكيره وانهزام مروءته بلاءاً حسنا. لكن ما بيده حليه وعليه أن يسلّم الأمر لله. مضى عام على ذكرى هذا اليوم وما يزال وقع الصدمة المريعة في قلبه عظيم. لن ينسى ساعتذاك عندما طرق الصبح الأبواب وأيقظ القوم من سنتهم وقلقهم، ليروا ويسمعوا أن السودان الواحد صار سودانين! ليعوا أن خرطة أعظم بلاد إفريقيا على الإطلاق صارت خرطتين! طالع باهتمام صورة الخرطة الجديدة على التلفاز فبدت له مبتورة، ناقصة، لا تصدق. يقول: كنتِ أجمل خرائط العالم في شكلك البهي الذي مثَلَ في هيئة رأس شامخ ينظر إلى مستقبل باهر ويرسو فوق تاريخ شامخ تليد. بيد أن يوليو الأسود خدش تلك اللوحة الرائعة وبترتها أيديه "مِن خِلاف" وكأنّه يطبّق عليها أحكام الحدّ. نعم، سيبقى يوليو الأسود وصمة في تاريخ هذا البلد الفتي. فلله ما أعطى ولله ما أخذ.