jamal ibrahim [[email protected]] ( 1 ) أول أغسطس 2005 . . تأكد نبأ رحيل الدكتور جون قرنق . . ذلك الصباح ، جئت باكراً إلى الوزارة ، وقصدت مكتب القيادي الرابع في الوزارة . كان لوحده منزعجا ويمسك بجواله ويرد على مكالمات مقتضبة ، بين الحين والآخر . الفضائية السودانية تعلن عن بيانات رسمية حول مصير النائب الأول دكتور جون قرنق ستبث خلال لحظات . سحابة من التوتر والقلق تظلل الجميع . قال لي القيادي : " تأكد أن قرنق لقي حتفه ، وأن الطائرة سقطت في طقس تحف به مخاطر ولا تعرف بعد التفاصيل . " وأطلعني على بيان رسمي سيذاع خلال لحظات ، مكتوب بخط يد وزير الإعلام وقتذاك . كانت قد سبقت إذاعة ذلك البيان ، بيانات وتصريحات لم تؤكد أو تنفي مقتل النائب الأول قرنق . تداولنا حول ضرورة أن يكون هنالك صوت واحد يعبر عما حدث ، وأيقنت أن غياب المعلومات الأكيدة ، هو وراء هذا الارتباك الذي يحيط بالحادث . لقد استمع الناس للخبر يخرج عن هيئة الاذاعة البريطانية ، لا عن إذاعة أم درمان ، أو عن التلفزيون الرسمي . كان لديّ إحساس قوي أننا أضعنا فرصة الحسم الإعلامي لنبادر بإعلان ملابسات إختفاء الطائرة ومقتل النائب الأول بصورة قاطعة وفورية ،لا أن تبثه هيئة الإذاعة البريطانية . ضياع تلك الفرصة أعطى الإنطباع وكأن لحكومة السودان ما تخفيه حول ملابسات حادث الطائرة . لا يعفينا أن التسريب الخبري عن الحادث وقع بعد الثامنة أو التاسعة مساء الأحد 31يوليو2005 ، فيغيب الصوت الرسمي . وهذا الارتباك حسب تقديري ، نتج عن ضعف الإستجابة الذي لمسته بشخصي للحادث الذي طرأ في تلك الليلة . فإذا كانت استجابة وزارة الخارجية هي استجابة متواضعة ، مما رصدنا أنا وزميلي الصديق السفير عبد الرحمن بخيت ، وقبلنا القيادي الرابع في الوزارة ، حيث سهرنا نتابع تطورات الخبر حتى ساعات الفجر الأولى ، فإن ضعف الإستجابة ، كان مضاعفا من طرف الأجهزة الأخرى التي كان يهمها أن تتابع ، ويهمها أن تعرف قبل أي طرف أجنبي ، حقيقة ما وقع لطائرة النائب الأول لرئيس الجمهورية . ليس سهلا أن يصدق الإعلام الأجنبي أن قيادات الحكومة السودانية لا تعرف شيئاً كثيراً عن تفاصيل رحلة النائب الأول إلى كمبالا : الخلفية والغرض والهدف ، الوسائل واللوجستيات ، وفوق ذلك الاستحقاقات الأمنية ، ومسئوليات الحكومة أزاء حادث كهذا . لن يكون سهلاً على الأجهزة الرسمية أن تحدد خطاً لمعالجة تداعيات الحادث . ومن الواضح أن المفاجأة ألجمت الأجهزة قبل أن تلجم أصوات القيادات وتلعثم ألسنتهم . تضاربت التصريحات ، بما ضاعف الشكوك وزاد الريب . ( 2 ) ثمة ما يزعج أيضا في تعاملنا الرسمي مع الحدث الخطير . من الغريب أن يكون البيان الرسمي حول الحادث ، مكتوباً بخط اليد ، لا منضداً بأحرف جلية ، ومصاغا عبر تنسيق مسبق من طرف الأجهزة المعنية بالشأن ، مثلما تتصرف كل الأجهزة الرسمية بمؤسسية راسخة ورصينة ، في مثل هذه الظروف . يعكس الشكل الذي خرج به البيان ، تلك الفجوة الواسعة التي بيننا والتزام الرصانة والمؤسسية التي ينبغي أن نعالج بها تداعيات طاريء بحجم اختفاء طائرة تقل الرجل الثاني في الدولة ، لم ينقضِ بعد إسبوعان على تولي الرجل منصبه بصفة رسمية ، مع ما صاحب توليه من تعقيدات أملتها تفاصيل اتفاقية تاريخية ، تم التوصل اليها بعد تفاوض مضنٍ تجاوز عاما كاملا . لم تكن من ضمن مسئولياتي الواضحة ، تولي مخاطبة الصحفيين المحليين أو الأجانب عما حدث ، فتلك مهمة كان يقوم بها وزير الخارجية بشخصه في أغلب الوقت ، وهو يعلم بالطبع أني أتولى مهمة الإعلام والنطق الرسمي . برغم تضافر عوامل متعددة أفضت إلى الحوادث التي أعقبت الإعلان عن اختفاء طائرة النائب الأول ومقتله ، إلا أن تخبط الأداء الإعلامي في الإنباء عن الحادث ، ضاعف من الشكوك التي حامت حول "دور" قد تكون لعبته الحكومة فيه ، على الأقل في التعتيم على الخبر لبعض الوقت ، مثلما أوضحت في السطور السابقة . تلك شكوك أثبتت الأيام ، والتحقيقات الرسمية التي أجريت أنها محض شكوك ، ولدتها تصرفات مثل التصرفات المرتبكة وغير الرصينة للإعلام الرسمي ، وتناقض المعلومات التي جاءت على ألسنة المسئولين سواءاً من جانب الحكومة ، أو من جانب الحركة الشعبية ، التي لم تشارك عناصرها بعد في "حكومة الوحدة الوطنية" التي نصت على قيامها اتفاقية السلام الشامل في يناير 2005. ( 3 ) بعد التاسعة صباحاً ، بدأت سحب الدخان الكثيف تغطي سماء وسط الخرطوم ، وتصل إلى نوافذ مبنى وزارة الخارجية . نعرف أن للحركة الشعبية مكاتب رئيسية تقع على مقربة من "شارع المك نمر" ، في تقاطعه مع "شارع البلدية" ، ليس بعيداً من مبنى وزارة الخارجية . سمعنا عبر الهواتف الجوالة أن مصادمات قد وقعت في "السوق العربي " وسط الخرطوم . تسري الأنباء المزعجة مثل سريان النار في الهشيم . ثمة من يؤكد أن الدخول إلى وسط الخرطوم مخاطرة ، وأن "الجنوبيين " يطالون بالتخريب كل شيء متحرك . المحلات التجارية تغلق ابوابها على عجل . السيارات تهرب من الشوارع على غير هدى . شائعات عن قتل ونهب واعتداءات . الفتنة بدت أقرب من حبل الوريد . في إدارة الإعلام ، عملنا على بث البيان الرسمي على مختلف بعثاتنا في الخارج ، في جهد متأخر نسبياً ، لاحتواء تداعيات تسريب الخبر عبر ال"بي بي سي "، وما قد أثاره ذلك التسريب من ايحاءات سالبة . في آخر النهار ، اتصلت بي شقيقتي التي تعمل في مستشفى ابن سينا الواقع في امتداد العمارات ، بالخرطوم . نصحتها أن تنتظرني حتى ولو تجاوزت الساعة الثالثة بعد الظهر ، إذ من الواضح أن وسائل المواصلات العامة منعدمة في الطرقات . آثرت أن أخرج بسيارتي عجلاً إلى وسط الخرطوم . تجنبت الشوارع التي أغلقت بسبب التخريب . الدخان ما زال عالقاً في سماء الخرطوم وشوارعها . مما رأيته في الشوارع ، أقنعني أن عقد الأمن على وشك الإنفراط . التوتر يكاد يخالط الهواء ، أو يخرج مع الدخان الذي نتنفسه والحرائق حولنا . ( 4 ) لحظات العنف العصيبة تستدعي من الذاكرة اللحظات الشبيهة . تذكرت وأنا أقود سيارتي في الشوارع المخنوقة بالدخان ، ما عشته وأنا صبي في سن الخامسة عشر من مواجهات عنيفة بين "الشماليين" و" الجنوبيين" ، وقعت في منتصف الستينيات من القرن الماضي ، حين سرت شائعة عن مقتل وزير من الإقليم الجنوبي في حكومة أكتوبر ( حكومة الإنتفضة الشعبية التي أنهت الحكم العسكري في السودان ، إثر حادث إغتيال طالب جامعي في 21 أكتوبر 1964) ، ووقعت مصادمات عنيفة في العاصمة الخرطوم ، فيها من المفارقات ما يضحك وما يبكي في آن . تذكرت أطياف تلك الأيام السوداء التي عشناها في صبانا في الستينيات من القرن الماضي ، وقد طويناها طياً لا مجال للرجوع لفتح جراحاتها من جديد .. نحن في عام 2005 . تغيرت الدنيا واختلفت عن أيام عام 1964. نحن في قرن جديد . ألفية جديدة . مرت العاصفة على العاصمة كما تمرّ كل الأيام السوداء الكالحة . في أول اجتماع تداولي للمجلس القيادي في وزارة الخارجية ، أشارك فيه بحكم إدارتي للإعلام في الوزارة مع بقية المدراء العامين ، رأيت من واجبي أن أرفع ملاحظاتي حول حاجتنا لإعلاء همة العاملين بالوزارة ، خاصة من بين الدبلوماسيين والسفراء . أشرت إلى وجودنا تلك الليلة ، أنا والسفيرعبد الرحمن بخيت مدير إدارة السلام والشئون الإنسانية بالوزارة ، كوننا السفيرين الوحيدين إلى جانب الرجل الرابع في قيادة الوزارة ، الذين كنا حضوراً في مبنى الوزارة ، ليلة حادث سقوط طائرة النائب الأول لرئيس الجمهورية . تحدثت بمرارة عن غياب السفير المشرف على المناوبة تلكم الليلة . كنت أعرف أنه سفير صديق وأحترمه كثيراً ، ولكن كلمة الحق والمصارحة ، ينبغي أن تقال . آثرت أن لا أذكر اسمه ، ولكني ألمحت إلى أنه آن لنا – نحن السفراء - أن نتعامل بمسئولية عالية مع مثل هذه التطورات والحوادث الطارئة. هذا الذي وقع ، لا يهمّ إدارة الإعلام ولا إدارة السلام مباشرة ، ولكنه يهمّ كل إدارات وزارة الخارجية . أشرت كذلك في حديثي إلى التقاعس الذي لمسناه – أنا والسفير بخيت ، مدير إدارة السلام بالوزارة– في ضعف استجابة المناوبين في بعض الأجهزة المختصة ، من غير وزارة الخارجية ، مع اتصالاتنا الجادة بهم حول الحادث ليلة 31 أغسطس 2005. ( 5 ) طافت بذهني ذكرى قديمة أيضاً ، لتجربة عشتها وأنا دبلوماسيّ صغير مناوب في الوزارة ، في منتصف سنوات السبعينيات من القرن الماضي . كنت في غرفة المناوبة مع ضابط اللاسلكي المناوب معي ذلك اليوم وكان يوم عطلة عامة . لم تكن وسائل الإتصالات قد أحدثت ثورتها بعد . لم نعرف تلكم الأيام الحواسيب ولا الهواتف النقالة . نحن في عام1975 : بداية الربع الأخير من القرن العشرين . فوجئت بوقوع انقلابٍ في نيجيريا نهار ذلك ليوم الذي عملت فيه مناوباً . قمت كدبلوماسيّ مناوب ، بواجبي على وجهٍ مرضٍ . أخطرت المكتب الوزاري التنفيذي ، والذي أخطر بدوره " الفك المفترس" ، ذلك لقب سريّ كنا نطلقه على الراحل محمد ميرغني مبارك ، وقد كان يشغل منصب وكيل الوزارة وقتذاك . أعددت تقريراً نقلته على عجل لمدير المكتب الوزاري التنفيذي وقتذاك ، أحمد يوسف التني ، وقد كان وقتها بدرجة المستشار . تلك درجة وظيفية عالية لها حظها العالي من المهابة والتقدير . نظر التني في التقرير ودخل به على وكيل الوزارة الذي حلّ على عجل بمكتبه . أعددنا نصاً مختزلاً بما وقع ، وتم ارساله إلى القصر الرئاسي على عجل أيضاً . بقيت بمبنى الوزارة في بناية "جلاتلي" ، قبالة القصر الجمهوري ، لنحو ساعتين فوق المقرر . حين وصل من يتسلم مني مهمة المناوبة ، صحبته إلى مكتب المستشار أحمد التني ، الذي شد على يدي ، وسألني إن كنت أجيد اللغة الفرنسية . قلت له : "للأسف لاأعرف الفرنسية ! " ضحك الرجل ، وقال لي : - "حظك . . ! لقد أعجب الوكيل بما قمت به من أداء مقدر ، وأظهرت همة عالية . كان توقع الوكيل أن يحضر مسئول من الإدارة الإفريقية وساءه أن لايحضر منهم أحد . أراد الرجل أن يكافؤك علي همتك العالية . ثمة وظيفة مطلوبة في سفارة لنا تعتمد لغة التعامل فيها اللغة الفرنسية ..!" لم أتحسر على ضياع الفرصة ، بل سعدت كثيراً لأن ما قمت به ، وجد تقديراً ملموساً من قيادة الوزارة . لم أشعر بخسارة أن فرصة ضاعت عليّ للعمل في سفارة بالخارج . إن الإخلاص والعمل بمسئولية ، يتراكمان عبر جماع من التجارب والوقائع والفرص التي تعرض للإنسان في مسيرة حياته . قيمة العمل بمسئولية ، لا تنفصل عن التقدير ، أو عن الجزاء الذي يأخذ شكل الجائزة . لا أدعي أني أملك من الهمة العالية ، ما أفاخر به نظرائي في المهنة ، ولكن تلك صفة أعتز بأن أسعى إليها وأتمثلها في أدائي، وهي أقرب لما تشربته في مسيرة حياتي الدبلوماسية ، من العكوف لإنجاز كل شيء بمستوىً عالٍ من المسئولية ، وبذل الجهد والتفاني لتحقيق المطلوب بما يحقق المردود المبتغى ، وكسب ثقة الآخرين . وأنا أكتب هنا ، لا أريد أن أثمن عملا أنجزته في تلك اللحظات الحاسمة ، بقدر ما قصدت أن أنوّه بالدرس الأول المستفاد ، وهو أن تكون مقدراتنا حاضرة حين نحتاجها . أن نكون بمستوى المسئولية وقراءة الأحداث ، بما يجعل من أداء الدبلوماسية ، أداءاً متقدما على الآخرين . متقدما على بقية الأجهزة ، لا يأتي في ذيلها تابعا . الدرس الثاني الذي تعلمته في إدارتي للإعلام الدبلوماسي في وزارة الخارجية ، هو احترام "قيمة الوقت" ، وضرورة استثمار اللحظة الآنية ذلك الإستثمار الإيجابي الذي يقرأ سريعاً تداعيات الأحداث ، فيلقي بالمعلومة ويسبق بها نشأة الشائعة فيدفنها في مهدها . تعلمت أن التلكوء في مخاطبة الإعلام ، يعني ترك الساحة للإعلام "غير المضمون" ، ويضعف المصداقية ، في آخر الأمر . . *فصل من كتاب "كنت ناطقا رسمياً " قيد الاعداد. نقلا عن الأحداث عدد يوم 6/8/2009