الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    قرارات جديدة ل"سلفاكير"    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رزنامة الأسبوع ...... عَمَلُ النَّمْل! ... بقلم: كمال الجزولي
نشر في سودانيل يوم 03 - 02 - 2009


(1)
تقديرنا للأستاذ محمد علي جادين، القيادي بحزب البعث (السوداني)، وإحساننا الظن بما يقول، لا تحدُّه حدود، لمعرفتنا الوثيقة به كرفيق سجن أواخر سبعينات القرن المنصرم، وكصديق توطدت علاقاتنا الفكريَّة والإنسانيَّة معه منذ ذلك الحين. ولعلَّ هذا بالتحديد هو السبب في دهشتنا، بل حيرتنا، إزاء ما أدلى به من حديث صحفي، بمناسبة انعقاد المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي، نصح فيه هذا الحزب، ضمن أحزاب اشتراكيَّة ويساريَّة أخرى لم يسمِّها، باعتماد (الديموقراطيَّة الليبراليَّة)، لأن هذه الأحزاب (هكذا بالجملة!)، على حدِّ تعبيره، "معروف عنها أنها (ضدَّ!) الديموقراطيَّة الليبراليَّة، و(مع!) الحزب الواحد. فبسقوط التجربة الشيوعيَّة، وانتهاء الحرب الباردة، أصبحت الديموقراطيَّة هي السبيل الوحيد في كلِّ المجتمعات. وصارت (كلُّ!) هذه الأحزاب ترفع (شعارات!) الديموقراطيَّة. والمطلوب ألا يكون (رفع) الشعار (لمجاراة الموجة!) السائدة فقط، وإنما تحتاج المسألة (لتوطين!) الديموقراطيَّة في (منظومتها الفكريَّة والعقائديَّة!)، ويشمل ذلك حقوق الإنسان .. والحقوق الثقافيَّة للمجموعات الوطنيَّة" (أقواس التشديد وعلامات التعجُّب من عندنا؛ الأحداث، ضمن تقرير لعادل عبد الرحيم، 24/1/09).
جادين، كما عرفناه، مفكر متميِّز، وباحث مدقق، وسياسي مبدئي، لا يأخذ القول أو يلقيه على عواهنه بغير تثبت، وهنا مبعث الدهشة والحيرة في الكلام المنسوب إليه أعلاه! فيقيننا أنه مدرك لكون الحزب الشيوعي (السوداني) لم ينتظر سقوط التجربة الشيوعيَّة (ولعله يقصد سقوط النمط السوفيتي في البناء الاشتراكي) كي يلفظ، مرَّة وللأبد، نظريَّة "الحزب الواحد" صاحب السلطة الخالدة المؤبَّدة إلى يوم يُبعثون، ويعتمد، نهائياً، "الليبراليَّة السياسيَّة"، أو "التعدُّديَّة" بالمصطلح السائد في السودان (ولديَّ ما يحملني على الاعتقاد، أيضاً، بأنها هي التي يقصدها جادين، لا الليبراليَّة الاقتصاديَّة).
وتأسياً بالحكمة القائلة بأن طرح سؤال واحد صحيح خير من معرفة جميع الإجابات، فهل تؤكد مقاربة (المنظومة الفكريَّة والعقائديَّة) للحزب هذه الحقيقة المعرفيَّة، أم تنفيها؟!
(2)
دعونا نتفق، ابتداءً، على أنه ليست ثمَّة أهميَّة لما إن كان مضمون هذه (الليبراليَّة السياسيَّة) يتمثل في (المساواة) أم في (الحقوق والحريات)، اللهمَّ إلا من الزاوية المدرسيَّة المحضة. فما يهمنا، تحديداً، هو أن هذا النوع من (الديموقراطيَّة) ظلَّ يمثل، تاريخياً، وبكلتا دلالتيه، سلاح الكادحين لانتزاع حقوقهم الاقتصاديَّة السياسيَّة والاجتماعيَّة الثقافيَّة، متطلعين لإعادة صياغة العالم الأفضل والوجود المغاير. ومن هذه الزاوية، تحديداً، (استحقوا) عداء الطبقات (الممتازة) ونخبها التي يرتبط لديها إقرار (الحقوق والحريات الليبراليَّة)، كحريَّة الضمير، والتفكير، والتعبير، والتنظيم، والتنقل، والتداول (الديموقراطي) للسلطة .. الخ، بتهديد (امتيازاتها)، أو، على وجه الدِّقة، بإمكانيَّة تغيير الأساس الاقتصادي السياسي الذي يضمن لها تلك (الامتيازات).
بعد الاتفاق على ذلك نعيد صياغة السؤال بشكل أكثر مباشرة، مركزين على ما أثاره جادين حول (الديموقراطيَّة الليبراليَّة والحزب الواحد)، ليس تغاضياً عمَّا أثاره أيضاً حول (الحقوق الثقافيَّة للمجموعات الوطنيَّة)، فذاك مبحث طويل من مباحث الحزب غير المنكورة منذ بواكير نشأته، غير أننا قد نعود إليه بانفصال، في رزنامة قادمة. السؤال إذن: هل الحزب الشيوعي (السوداني) حزب غير ديموقراطي، كما فى بعض الشائع من (فولكلوريات) خصومه الأيديولوجيين والسياسيين، وجادين ليس منهم بأيَّة حال؟! هل حقاً يتناقض فكرياً مع (الليبراليَّة السياسيَّة) المستندة إلى (الحريات) العامة و(الحقوق) الأساسيَّة للجماهير؟!
(3)
لا شكَّ في وفرة الشواهد التاريخيَّة. لكننا، ولضيق الحيِّز المتاح، سنكتفي بانتخاب ما يلي، ولمن أراد استفاضة أن يلتمسها في كتابنا (الشيوعيون السودانيون والديموقراطيَّة، ط 1، دار عزة 2003م):
(3/1) منذ الحلقات الماركسيَّة الأولى أعلن الشيوعيون السودانيون تعويلهم على النضال في سبيل هذه (الحريات والحقوق) كمدخل نحو تطوير مشروعهم الاشتراكي، وذلك من خلال نقدهم للتجربة السوفيتيَّة، حيث استبعد حسن الطاهر زروق أن تتطابق معها تجربتهم السودانيَّة قائلاً: ".. قد نستفيد من التجربة ونتفادى سلبياتها مثل غياب ضمانات حرية وسلامة الفرد، وعدم تقدير دور الدين فى حياة الشعوب" (جريدة السودان الجديد، 1/9/1944م ضمن محمد نورى الأمين، رسالة دكتوراه).
(3/2) تعزَّزت، لاحقاً، أصالة هذا الفكر في أكثر من مناسبة. فمثلاً، لئن كان شكل الحكم الذى تحدَّد، منهجياً ومؤسسياً، بمصطلح (الديموقراطيَّة الليبراليَّة)، قد نشأ وتكرس فى أوروبا منذ حوالي ثلاثة قرون، فقد شدَّد عبد الخالق على أن السودانيين عرفوا ".. نظام الشورى الذي هو لبُّ الديموقراطيَّة منذ عهود تضرب في أعماق التاريخ. فملوك كوش القدماء كان ينتخبهم زعماء القبائل، وملوك الفونج وشيوخ العبدلاب كانوا يُختارون بنفس الطريقة .. إن البعض يحاول أن يوهم الناس بأن الديموقراطيَّة نظام غربي لا يصلح لنا. صحيح أن الديموقراطيَّة البرلمانيَّة نشأت فى الغرب مع الثورة الرأسماليَّة وانهيار النظام الإقطاعي، ولكنا كنا نمارس مضمون الديموقراطيَّة القائم على الشورى قبل ذلك العهد بكثير جداً" (دفاع أمام المحاكم العسكريَّة، ط 1، دار عزة، الخرطوم 2001م، ص 66)
(3/3) لذا ظلَّ الحزب يعمل عمل النمل، ضمن أجندة التطور السياسي لبلادنا، على نفض الغبار عن الذاكرة الثقافيَّة الوطنيَّة الديموقراطيَّة لشعبنا، مع الوعي بالتجربة الغربيَّة في إطار ظرفها التاريخي المحدَّد، باتجاه الاستيعاب النقدي لخصائصها ذات الطبيعة التعميميَّة التي تؤهلها لتجاوز محدوديَّتها، في بعض ضروب الفكر السياسي، كمضمون أيديولوجي جامد لنظام اجتماعي معيَّن، لتصبح (إطاراً) ضابطاً لنظام حكم ديموقراطي يقوم، فى جوهره، على (الحريات) وعلى (المساواة) في (الحقوق) و(الواجبات). "إن اشتراك الشعب اشتراكاً واضحاً في حكم بلاده بوساطة ممثلين منتخبين أصبح حقاً لكلِّ الشعوب، أما الوصاية .. فدعوة منهارة مهما أتعب أصحابها الذهن في تسميتها بأسماء براقة. وهذه سنة التطور التي لن يُستثنى منها شعب السودان" (نفسه ، ص 67).
(3/4) ولأن التركيبة الذهنيَّة والوجدانيَّة لذلك الجيل المؤسِّس تشكلت، أصلاً، من بين وقائع الصراع الذى خاضته الحركة الوطنيَّة في سبيل الاستقلال، فقد قرَّ فى فكر الحزب، باكراً، أن ذلك النضال لا يمكن فصله عن النضال في سبيل الحريات والحقوق. وقد لاحظ عبد الخالق أن المشكلة الأساسيَّة التى واجهت السودان، آنذاك، تركزت ".. حول إبعاده عن توجيه حياته وفق نظام ديموقراطي" (لمحات ..، ص 35). ذلك أن المستعمرين، عندما أحسُّوا بخطورة تطوُّر الحركة الجماهيريَّة "سنوا القوانين الرجعيَّة، وحلوا منظمة أنصار السلام، وجعلوا من مصادرة حريَّة الأفراد والجماعات والصحف قاعدة لهم، وبدأوا، خلال عام 1951م، يعدُّون العُدَّة لحلِّ اتحاد نقابات العمال" (نفسه ، ص 70). كما أشار إلى "أن حريَّة المواطن .. لاقت تعنتاً كثيراً من جانب المستعمرين .. ولهذا اندمجتُ فى الحركة الشعبيَّة المطالبة بتوفير الحريات الديموقراطيَّة" (دفاع ..، ص 45). ولعلَّ فى ذلك تفسيراً واضحاً لتحالف الشيوعيين، أيامها، مع حزب الأمَّة، فى (الجبهة الاستقلاليَّة)، فقد نهض ذلك التحالف على مطالبتهما بكفالة الحريات.
(3/5) وفي 31/12/1955م، طالب النائب حسن الطاهر، أثناء مناقشة مشروع الدستور المؤقت تحت قبَّة البرلمان الأوَّل، بقيام الجمعية التأسيسيَّة لتمكين ممثلي الشعب من المشاركة في وضع الدستور الدائم، وأن يحترم ذلك الدستور إرادة الشعب ومصالحه، وأن يجعل جهاز الدولة ديمقراطياً وخاضعاً للرقابة والمحاسبة الشعبيَّتين، وأن يضمن المشاركة الشعبيَّة الواسعة في الحكم، وأن يوفر الحريات العامَّة وحريَّة العقيدة وحرية اعتناق الآراء السياسيَّة والعمل من أجلها، بالإضافة إلى تعديل القوانين لتتسق مع مشروع الدستور (محمد سليمان؛ اليسار السوداني في عشر سنوات ، ص 173 176).
(3/6) وإلى ذلك تزامن ميلاد الحزب، صيف 1946م، مع ميلاد حركة شعبيَّة واسعة، منفعلة، بحكم طبيعتها، بقضيَّة الحريات، كالنقابات العماليَّة، والاتحادات المهنيَّة، وتنظيمات الشباب والنساء والطلاب، وغيرها. وبإسهام الشيوعيين في استنهاضها وتطويرها شكلت حقول تدريبهم النضالي الأساسي، ووسمت فكرهم بطابعها الديموقراطي الشامل، حتى أن مخابرات الإدارة البريطانيَّة وصفت، في تقرير سرِّي عام 1949م، أول تنظيم ديموقراطي للشباب بأنه حركة شيوعيَّة ذات (أخطار)، من أهدافها .. تحرير السودان، وتأسيس نظام ديموقراطي (ضمن: م. س. القدال؛ معالم في تاريخ الحزب ..، ص 65).
(3/7) ورغم أن دورة اللجنة المركزيَّة في مارس 1953م شهدت بروز اتجاه يساري طفولي منكفئ على النصوص، يعتبر الانتخابات البرلمانيَّة محض لعبة برجوازيَّة، ويعارض المشاركة فيها، فإن الحزب قرَّر خوضها كوسيلة جماهيريَّة لتوسيع المناهضة للاستعمار وتعميق الديموقراطيَّة (ع. الخالق، لمحات ..، ص 82 83).
(3/8) وشهدت الفترة ما بين فبراير 1953م ويناير 1956م انخراط الشيوعيين وحلفائهم فى نضال لا يفتر من أجل ترسيخ الحقوق والحريات. من ذلك، مثلاً، مذكرة الحزب إلى الأزهرى، رئيس الوزراء آنذاك، حول قضية الحريات، وإضراب اتحاد نقابات العمال في سبيل الحريات، ونشاط الهيئة الشعبيَّة الدائمة للدفاع عن الحريات، ومذكرة رؤساء تحرير الصحف إلى الحكومة حول الحريات، ومشاريع حسن الطاهر زروق داخل البرلمان الأوَّل لإلغاء القوانين المقيدة للحريات، وما إلى ذلك.
(3/9) وجاء برنامج المؤتمر الثالث غداة الاستقلال (سبيل السودان نحو تعزيز الاستقلال والديموقراطيَّة والسلم فبراير 1956م)، ليبرز أهداف المرحلة، وأهمُّها دعم الاستقلال السياسي بالاستقلال الاقتصادي، وإشراك الجماهير في توجيه شئون البلاد، وليؤكد على أنه لا بُدَّ، لإنجاز تلك الأهداف، من اتحاد وطني ديموقراطي بين الجماهير العاملة والمزارعين وبين كلِّ الطبقات الثوريَّة الأخرى من برجوازيَّة وطنيَّة وبرجوازيَّة صغيرة في المدن، وأن توفير الحريات الديموقراطيَّة هو الطريق للتقدُّم والنمو السلمي للثورة الديموقراطيَّة (أنظر أيضاً: ع. الخالق؛ إصلاح الخطأ ..، ص 18 19).
(3/10) وفى تأييده لمطالبة النائب ابراهيم المفتي من داخل البرلمان برفع حالة الطوارئ (ديسمبر 1956م) عبَّر حسن الطاهر عن عمق اقتران قضيَّة الاستقلال السياسي بقضيَّة الحريات الديموقراطيَّة، مشدِّداً على أن "الاستقلال بدون حريات هيكل متداع بغير روح أو إرادة .. فعندما تختفي حريات الشعب .. تتغول الحكومات على المحكومين، وتسلط عليهم أوضاعاً ضد حرياتهم" (محمد سليمان؛ اليسار ..، ص 257).
(3/11) وسوف يعود نقد، السكرتير السياسي الحالي للحزب، فى نهاية 1997م، لينظر في الخصائص الوطنيَّة الديموقراطيَّة العامَّة لبرنامج 1956م بوصفه قد "طرح .. مبدأ جديراً بالتأمل .. والتجديد، هو: تمثيل عادل للقوى الموجودة في الجمعيَّة التأسيسيَّة داخل الحكومة، ومنع سيطرة قسم خاص .. على جهاز الدولة، أو ديكتاتوريَّة حزب من الأحزاب .. (و) الفكرة .. خلف هذه الفقرة تتسع لتستوعب ثلاثة مضامين: الأول ألا ينفرد الشماليون بالحكم دون الجنوبيين والأقليات القوميَّة. الثانى ألا ينفرد حزب بالسلطة. الثالث ألا يسيطر الجيش على السلطة". ويرى نقد أن هذه الفقرة "تعزِّز الأساس النظري لمبدأ تداول السلطة ديموقراطياً"، ثمَّ يخلص إلى أن "أطروحة الحكومة الوطنيَّة الديموقراطيَّة، وما تحمله دلالات تكوينها من مرونة وواقعيَّة، مضافة إليها أطروحة .. الانتقال المتدرِّج للاشتراكيَّة، حصَّنت البرنامج من الانزلاق إلى النصِّية المطلقة، ممثلة فى النصِّ المتواتر فى .. كلاسيكيات الماركسيَّة وأدبيات الحركة الشيوعيَّة: نص تحطيم جهاز الدولة القديم، وبناء جهاز .. جديد ، (فقد) استعاض عنه البرنامج بشعار سليم، وهدف واقعي .. في ظروف السودان: إصلاحات ديموقراطيَّة في جهاز الدولة". ولا يغادر نقد هذا الجانب دون أن يسجل ملاحظة ذات أهمية خاصَّة ، وهى أن البرنامج "لم يستخدم .. مصطلح ديكتاتورية البروليتاريا .. (و) أفلت .. من التأويل السلفي .. فى الأدبيات الشيوعيَّة عن أن دولة الديموقراطيَّة الشعبيَّة فى الصين وشرق أوربا تؤدى وظيفة ديكتاتوريَّة البروليتاريا فى ظروف تاريخيَّة خاصَّة". ويستطرد مؤكداً أن هذا المصطلح "لم يرد في وثائق اللجنة المركزيَّة بين المؤتمرين الثالث والرابع، ولا فى تقرير المؤتمر الرابع، ولا فى الدستور الذى أجازه المؤتمر الرابع، وما من مبرِّر نظري أو مسوِّغ سياسي يجيز أن يرد .. في برنامج حزبنا في المستقبل" (مبادئ موجِّهة).
(4)
(4/1) مع ذلك تستوجب الاستقامة الفكريَّة الإقرار الفصيح بأن الخط البياني لموضوعة (الديموقراطيَّة التعدُّديَّة)، وبقدر ما ظلَّ يسجِّل العديد من الصواعد لدى الحزب، ظلَّ يسجِّل أيضاً، وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاماً من عمره (1946 1977م)، العديد من الهوابط التي تستوجب الإحاطة بخلفياتها وشروطها الفكريَّة والسياسيَّة التاريخيَّة وثيقة الصلة بالطابع التركيبى المعقد لمفهوم الديموقراطيَّة. فعلى حين بقيت تمثل أحد أهم مطلوبات الحزب الاستراتيجيَّة، إلتبست أيضاً، فى فترات مختلفة، وبدرجات متفاوتة، وتحت الأثر الضاغط للتجربتين السوفيتيَّة والصينيَّة، بمفاهيم (الديموقراطيَّة الاشتراكيَّة، الشعبيَّة، الجديدة، الثوريَّة، الموجَّهة) .. الخ. وهى المفاهيم التى تصعَّدت من أنماط الهيكلة السياسيَّة الستالينيَّة للحزب والدولة والمجتمع، فى الاتحاد السوفيتى كما في أنظمة الديموقراطيات الشعبيَّة، مستهدية بأدبيات القدح المقذع للديموقراطيَّة الليبراليَّة، والذى أفردته الماركسيَّة اللينينيَّة، بخاصة فى طبعتها الروسيَّة القائمة على تعميم خبرة ثورة 1917م، حيث أن "الأمر الرئيس قد سبق وتحقق فى جذب طليعة الطبقة العاملة، وكسبها إلى جانب السلطة السوفيتيَّة ضدَّ البرلمانيَّة، وإلى جانب دكتاتوريَّة البروليتاريا ضدَّ الديموقراطيَّة البرجوازيَّة" (لينين؛ مرض اليساريَّة الطفولي ..، ص 77)؛ وحيث أن "دكتاتوريَّة البروليتاريا هى وحدها القادرة على تحرير الإنسان من اضطهاد رأس المال، وكذب وزيف ونفاق الديموقراطيَّة البرجوازيَّة .. المقتصرة على الأغنياء" (لينين؛ حول الديموقراطيَّة والديكتاتوريَّة ، ص 390)؛ وحيث أن من "الحماقة" و"السخف" الاعتقاد بإمكانية "الانتقال للاشتراكيَّة عن طريق الديموقراطيَّة بوجه عام" (لينين؛ الاقتصاد والسياسة فى عصر دكتاتوريَّة البروليتاريا، ص 281).
(4/2) والحقيقة أن التنازع بين هذين المفهومين من جهة، وداخل كلٍّ منهما، من جهة أخرى، بدا واضحاً فى فكر الحزب منذ مطالع الاستقلال السياسي، سواء من خلال المؤتمرين الثالث والرابع (فبراير 1956م وأكتوبر 1967م)، أم من خلال دورات الانعقاد ذات الأهميَّة الاستثنائية للجنة المركزيَّة (مارس 1953م مثلاً)، أم من خلال وثائق الحزب الأخرى ذات الطابع البرامجى. فعيون الحزب لم تكن كليلة يوماً عن النقد الماركسي التقليدي للديموقراطيَّة البرجوازيَّة، حيث تمارس (الثروة) سلطتها تحت ستار (الديموقراطيَّة) بصورة غير مباشرة، لكن أكثر ضماناً، حسبما يلاحظ إنجلز، بحيث تتمظهر فى السطح كما لو كانت سلطة الشعب أو غالبيَّته، بينما هي، فى حقيقتها، سلطة الأقليَّة البرجوازيَّة التى تمارس استبدادها المطلق على بقية الطبقات (ف. إنجلز؛ أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، ص 127). مع ذلك بقيت عيون الحزب مفتوحة أيضاً على الاتجاه النظري العام، من زاوية الماركسيَّة اللينينية نفسها، في تقييم هذه الديموقراطيَّة البرجوازيَّة كأداة لا تلغى الاضطهاد الطبقي، ولكنها تساعد على كشفه، لا تخلص الكادحين من الاستغلال، ولكنها تعينهم على منازلته. وقد كتب ماركس عن تأسيس الجمهورية فى فرنسا عام 1848م أنها تساعد على بسط سيادة الطبقة البرجوازيَّة، لكنها تهيئ، أيضاً، المناخ السياسى الملائم الذى يمكن المستغَلين من منازلة مستغِليهم (ضمن: دنيسوف "محرر"؛ نظرية الدولة والقانون، ص 129).
(4/3) وقد يكون مستحيلاً فضُّ هذا التناقض الذي انعكس بجلاء في تقرير المؤتمر الرابع (الماركسيَّة وقضايا الثورة السودانيَّة أكتوبر 1967م) وما أعقبه من أحداث معلومة جرت خلال السنوات التالية، بما في ذلك انقلاب مايو عام 1969م وانقلاب يوليو عام 1971م، بدون إدراك مسألتين مهمَّتين:
أولاهما: تتمثل فى مركزي (الجذب) و(الطرد) الأساسيين، بالنسبة لفكر الحزب، والكامنين فى كل من مفهوم (الديموقراطيَّة الليبراليَّة) التى تستصحب موضوعة (الحريات والحقوق السياسيَّة) وتهدر موضوعة (العدالة الاقتصاديَّة)، ومفهوم (الديموقراطيَّة الشعبيَّة) التى تفعل العكس تماماً.
أما ثانيتهما: فتتمثل فى الشكوى المستمرَّة من ضعف الأساس الاجتماعي للديموقراطيَّة الليبراليَّة فى السودان ".. حيث الوزن الكبير للقطاع التقليدي فى الحياة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، ومن ثمَّ وجود قوى إجتماعيَّة داخل الديموقراطيَّة البرلمانيَّة ذات مصلحة مضادَّة لتوسيع قاعدة الديموقراطيَّة وتجديد الحياة فى القطاع التقليدي" (الماركسية وقضايا ..، ص 134 ونقد؛ مبادئ موجهة ..).
(5)
(5/1) مهما يكن من أمر، فإن من فساد النظر، يقيناً، عدم ملاحظة أن مؤشر الأصالة الفكريَّة لدى الحزب ظل يسجل، برغم كلِّ تلك المؤثرات، وتائر عالية من النزوع إلى (الديموقراطيَّة الليبراليَّة) بمضمونها القائم فى الحقوق والحريات، واتجاه نظريَّة الحزب الأساسيَّة إلى التمحور حول قيام حكومة وطنيَّة ديموقراطيَّة تنجح فى إنجاز مهامها التي انتخبت بموجبها، فتفتح الطريق لتحويل مجتمعنا بالتدريج نحو الاشتراكيَّة (برنامج المؤتمر الثالث ونقد؛ مبادئ موجهة ..). ومن ثمَّ ظلَّ الحزب يبدى حماساً خاصاً لجعل قيام مثل هذه الحكومة ممكناً، وذلك بالنضال وفق الأشراط العامة لليبراليَّة السياسيَّة.
(5/2) هكذا ظلَّ الأداء العام للحزب، عبر مختلف محطات تطوره، والصراعات الفكريَّة التي دارت داخله، وبرغم تنكر الأحزاب اليمينيَّة لقواعد الليبراليَّة السياسيَّة عقب ثورة أكتوبر، بإقدامها على حله، وطرد نوَّابه من البرلمان، ورفض الانصياع لحكم القضاء المستقل، يدلُّ على احتفائه بمنجزات الشعوب فى جبهة الحريات والحقوق، كرصيد قابل للاستصحاب في سياق المشروع الاشتراكي، علاوة على عدم اقتناعه الواضح بأن النمط السوفيتي نجح فى تقديم أىِّ نموذج ملهم فى الديموقراطيَّة السياسيَّة. فبعد زهاء ربع القرن من تصريح حسن الطاهر المشار إليه، وما لا يزيد على العامين من أحداث حلِّ الحزب التي خففت، بطبيعة الحال، من كفة (الليبراليَّة) في ميزان المفاهيم الديموقراطيَّة لدى أعضاء الحزب بوجه عام، نصَّ دستور المؤتمر الرابع على أن ".. الديموقراطيَّة الاشتراكيَّة، مرتكزة على ما حققته الشعوب من حريَّة للفرد والجماعة في التعبير وحريَّة الفكر، ستكمل هذا البناء بتحرير الإنسان من سيطرة رأس المال واقترابه من مراكز النفوذ" (ص 8). وسوف يعود عبد الخالق عام 1971م ليؤكد على رسوخ هذا النظر الناقد، ضمناً، في فكر الحزب، لنموذج (الديموقراطيَّة الاشتراكيَّة) في الاتحاد السوفيتى، أو (الشعبيَّة) في الصين وشرق أوروبا، بقوله، مسترشداً بقانون (نفي النفي) الدياليكتيكي: إن "تغيير المجتمع إلى مرحلة أعلى لا يعني نفياً كاملاً لما أحرزته الشعوب من حقوق قانونيَّة إبان الثورة الديموقراطيَّة البرجوازيَّة .. (بل يعني) تحويلها من إعلان إلى ممارسة فعلية .. إنجاز مهام الثورة الوطنيَّة الديموقراطيَّة للانتقال للاشتراكيَّة لا يتمُّ إلا عبر الديموقراطيَّة في الحقوق السياسيَّة للجماهير، (أي) الديموقراطيَّة في النظام السياسي، (أي) تغيير المجتمع بالديموقراطيَّة الشاملة" (ع. الخالق؛ حول البرنامج).
(5/3) على أنَّ التحوُّل الكيفي التاريخي، من فوق مراكمة كلِّ ذلك المخض العنيف في فكر الحزب حول (الديموقراطيَّة الليبراليَّة) و(الديموقراطيَّة الشعبيَّة)، وقع، نهائياً، عام 1977م. فقد رفض الحزب، آنذاك، الانخراط في (المصالحة) التى عرضتها عليه سلطة النميري بشروطها، وأهمُّها قبول العمل فى إطار الحزب الواحد (الاتحاد الاشتراكي). وبالمقابل اقترح الحزب اصطفاف قوى المعارضة في (جبهة عريضة للديموقراطيَّة وإنقاذ الوطن)، حيث كانت البلاد تواجه أزمة نظام وسلطة، وأن (الديكتاتوريَّة) هى أهمُّ أسباب تلك الأزمة، وأن الحلَّ، بالتالى، لا يكون بالتصالح مع هذه (الديكتاتوريَّة)، بل بإحداث تحوُّلات ديموقراطيَّة راديكاليَّة. وفى أغسطس 1977م أصدرت اللجنة المركزيَّة بياناً بعنوان: (الديموقراطيَّة مفتاح الحل)، حيث أكدت أن الشيوعيين "لا ينادون: تسقط المصالحة عاش الشقاق، (بل) شعارهم كان وسيظل: تسقط الديكتاتوريَّة عاشت الديموقراطيَّة" (ص 21). وناشدت أطراف المعارضة الالتفاف حول جملة مطالب في هذا الاتجاه، بدلاً من المساعدة على ترميم النظام وهو فى حال تصدعه (ص 15).
(5/4) وفى دورة ديسمبر 1978م عادت اللجنة المركزيَّة لتستكمل بلورة فكر الحزب حول قضية (الديموقراطيَّة الليبراليَّة) بالمفارقة لكلٍّ من النموذج المعتمد فى المعسكر الاشتراكي من جهة، والتطبيق الخالي من المحتوى الاجتماعي، والسائد فى الغرب الرأسمالي من جهة أخرى. وفي هذا الإطار مايزت الدورة بين مفهومي (الجبهة الوطنيَّة الديموقراطيَّة) الوارد ضمن برنامج المؤتمر الرابع أكتوبر 1967م، و(جبهة الديموقراطية وإنقاذ الوطن) الوارد ضمن بيان أغسطس 1977م، لتخلص إلى أن (الانتفاضة) هى المخرج من أزمة الديكتاتوريَّة إلى فضاء الديموقراطيَّة التعدديَّة الليبراليَّة، من خلال صيغة الجبهة الواسعة، متناولة بالنقد أسلوب (الحزب الواحد) الذى فشل و"أصبح مرفوضاً ومرذولاً ومبتذلاً بالنسبة لشعب السودان"، مثلما "فشلت .. صيغة حل الأحزاب بالقانون والإرهاب فى عهد الديكتاتورية" (ص 5). عليه، ولكي يستقيم الحوار مع السلطة، فلا بد له من مقدمات حدَّدتها الدورة فى توفير مناخ الحريات وجماهيريَّة التفاوض (ص 10 13). ولكون السلطة أصدرت فى 27/11/1977م قانوناً يحمى قادتها من المحاسبة منذ 25 مايو 1969م، فقد طالبت الدورة، بالمقابل، "بردِّ الاعتبار لكل الذين استشهدوا فى الصراع ضد السلطة فى معارك عسكريَّة، أو فى السجون والمعتقلات، أو تحت التعذيب، ونشر حيثيات المحاكمات" (ص 14). وتبلغ الدورة ذروة استنتاجاتها، على صعيد التأسيس النظرى، بتقريرها أن "ظروف بلادنا، بتعدُّد تكويناتها الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة والقوميَّة، وعدم التناسق فى تطور قطاعاتها الاقتصاديَّة .. مازالت تشكل الأساس المادي الموضوعي لتعدُّد الأحزاب والكيانات السياسيَّة التى تتوسل بها الجماهير لحل مشاكلها على المستوى المحلي والمركزي" (ص 65). والأهمُّ أنها شدَّدت على تبرُّؤ الحزب نهائياً من أية محاولة للالتفاف على هذه القضية مستقبلاً بقولها: "نؤكد هذه الحقيقة كيلا تنتقل دعوى (الأحزاب انتهت وفقدت نفوذها) إلى الإفصاح عن نوايا فى الدعوة (لحزب واحد تقدمي بديل)، فصيغة الحزب الواحد، تقدمياً كان أم يمينياً، أثبتت فشلها فى السودان، وفشلت بالمثل صيغة حل الأحزاب بالقانون والإرهاب فى عهد الديكتاتورية" (نفسه).
بالنتيجة، ومن واقع مراكمة عمل النمل هذا، شكلت (دورة ديسمبر 1978م)، وقبلها (بيان أغسطس 1977م)، خطوة نوعيَّة متجاوزة بصورة حاسمة، في اتجاه توطين الليبراليَّة السياسيَّة فى نسيج (المنظومة الفكريَّة والعقديَّة) للحزب، كمنهج للحكم، ولتداول السلطة، ولإدارة النشاط السياسي عموماً.
(5/5) سوى أنه ليست لدى الحزب أيَّة أوهام حول العلاقة بين مشروع التغيير الذى يبشر به، والقائم، أصلاً، فى قيم ومبادئ العدالة الاجتماعيَّة بأفقها الاشتراكي، وبين الليبراليَّة السياسيَّة القمينة بنشر مناخ الحريات والحقوق، فهي علاقة جدليَّة بطبيعتها. وفي الواقع فقد تمَّ حسم هذه المسألة منذ دورة اللجنة المركزيَّة فى أبريل 1958م، حيث دار الصراع ليس فقط ضد اتجاه (الجمود) الذي لا يرى في قضايا الديموقراطيَّة والتحالفات والعمل الجماهيرى سوى الانحراف بنشاط الحزب إلى أساليب البرجوازيَّة الصغيرة، بل أيضاً ضد اتجاه (التحلل) الذى لا يستهدف إعادة النظر فى عمل الحزب لتجديد أشكاله على أسس ثوريَّة، بقدر ما يستهدف تصفية الحزب نفسه، بتحويله إلى مجرد حزب للانتخابات بدعوى أن الماركسية اللينينية لا تصلح فى بلد كالسودان (ع. الخالق؛ لمحات ..، ص 116 122).
(5/6) لذا فإن الحزب، وهو يعلن عن تمسكه بالديموقراطيَّة الليبراليَّة، لا يكفُّ عن خوض معركته فى وعى الجماهير من أجل التبصير أولاً بأن هذه الديموقراطيَّة لا تعنى فقط الممارسة البرلمانيَّة، وإنما تتسع لكلِّ أشكال نشاط الجماهير من خلال تنظيماتها المستقلة، وثانياً بضرورة إصحاح بيئة الممارسة الديموقراطيَّة، وعلاج (عَرَجها)، بحيث تتلازم مع تحوُّلات اجتماعيَّة عميقة، حتى لا تتكرَّس (الشكلانيَّة) طابعاً لها، و".. يُعزل النظام البرلمانى الشكلى يوماً بعد يوم عن حركة الجماهير"، على حدِّ تعبير عبد الخالق، فتنفتح الأبواب على مصاريعها أمام المغامرات الانقلابيَّة تؤسِّس للأنظمة الشموليَّة، يميناً ويساراً، لتنحشر الحركة السياسيَّة، والبلاد بأسرها، فى نفق من بعد نفق.
(5/7) من هنا جاءت دعوة الحزب المستمرة إلى (سودنة) التطبيق، ليس بالطرح النظرى فحسب، وإنما بتقديم المشروعات العمليَّة والإجرائية الكفيلة بأن تنأى بها عن محابس وست منستر، وتوسِّع طريق التطوُّر أمام التجربة النيابيَّة على ذات النهج الذى كانت قد اجترحته لجنة سوكومارسون، باستصحابها لخصائص الواقع الاقتصادي السياسي الاجتماعي السوداني فى أول قانون للانتخابات لسنة 1953م، بتخصيص خمس دوائر لخريجى المدارس وقتها، مِمَّا كان يستوجب الدفع بمنطق ذلك الإجراء، من خلال التجارب اللاحقة، في اتجاه مآلاته الأعلى، الأمر الذي لم يحدث للأسف (أنظر فحوى مذكرة الحزب إلى المجلس العسكرى الانتقالى حول قانون الانتخابات ، 1985م).
(6)
هكذا، وتأسيساً على كلِّ تلك الخبرات وغيرها، لم يعُد (عَرَجُ) الديموقراطيَّة الليبراليَّة فى بلادنا، كما فى بعض وصف الحزب لأدوائها منذ الاستقلال، وميلها إلى (الشكلانيَّة) بسبب هشاشة أساسها الاجتماعى المتمثل فى سطوة القطاع التقليدى، وضعف القوى السياسيَّة التى يُفترض أن تدعمها، وسعيها الحثيث لتبنى مناهج العنف لهدم الحريات والحقوق، فضلاً عن النقد (اليساري) الذى ليس نادراً ما يوجه إلى الحزب، بالاستناد إلى الأفكار البرجوازية الصغيرة المغامرة التى ".. ترى أن النضال من أجل الحقوق الديموقراطيَّة البرجوازيَّة لا يقود إلى شئ، وأن الطريق (الصحيح) هو الدعوة من فوق رأس البيوت للديموقراطيَّة الجديدة وحدها" (دورة يونيو 1968م)؛ لم يعُد شئ من كلِّ ذلك كافياً، منذ ما قبل انهيار حائط برلين بثلاثة عشر عاماً وحتى صدور برنامج المؤتمر الخامس قبل أيام قلائل، لدفع الحزب إلى التخلى عن النضال من أجل هذه الديموقراطيَّة التعدديَّة، أو حفزه للعودة، بأيِّ قدر من الاعتبار، إلى المناهج الشموليَّة الرابضة خلف البريق الأخاذ للشعارات! تلك، كما وصفها نقد، "تجربة خضناها ولسنا مستعدين لنخضع فيها لنصائح نظريَّة .. الديموقراطيَّة الليبراليَّة فى السودان كانت وما زالت فى مصلحة تطوُّر الحركة الجماهيريَّة، ومصادرتها كانت باستمرار لمصلحة التطوُّر الرأسمالي (و) حكم الفرد، حكم الفرد من مواقع التقدم وحكم الفرد من مواقع الرجعيَّة!" (حوار مع "بيروت المساء"، ع/أغسطس 1985م).
(7)
والآن، ما الذي يعنيه، على وجه الدِّقة، صديقنا المحترم جادين بدعوته الحزب الشيوعي إلى "عدم الوقوف ضد الديموقراطيَّة الليبراليَّة"، مع خالص مودتنا وتقديرنا لشخصه الكريم؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.