تشاد تتمادى في عدوانها على السودان    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    الفاشر.. هل تعبد الطريق الى جدة؟!!    لم تتحمل قحط البقاء كثيرا بعيدا من حضن العساكر    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    الخارجيةترد على انكار وزير خارجية تشاد دعم بلاده للمليشيا الارهابية    الأحمر يعود للتدريبات    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    شاهد بالفيديو.. محامي مصري يقدم نصيحة وطريقة سهلة للسودانيين في مصر للحصول على إقامة متعددة (خروج وعودة) بمبلغ بسيط ومسترد دون الحوجة لشهادة مدرسية وشراء عقار    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    كباشي والحلو يتفقان على إيصال المساعدات لمستحقيها بشكل فوري وتوقيع وثيقة    المسؤولون الإسرائيليون يدرسون تقاسم السلطة مع دول عربية في غزة بعد الحرب    الحرس الثوري الإيراني "يخترق" خط الاستواء    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    هيفاء وهبي تثير الجدل بسبب إطلالتها الجريئة في حفل البحرين    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مؤتمر الدوحة لتمويل سلام دارفور .. إشكاليّة الإعمار ورهق المانحين !! .. بقلم: د. حسين آدم الحاج
نشر في سودانيل يوم 09 - 03 - 2013

بداية أود أن أوضح بأننّى ظللت بعيداً عن مفاوضات الدوحة لسلام دارفور وفعالياتها والتى إنتهت بتوقيع إتفاقيّة سلام دارفور بين حكومة السودان وحركة التحرير والعدالة فى شهر يوليو من عام 2011 وذلك لأسباب ذاتيّة تعلقت بإرتباطات مختلفة إضافة إلى عدم تلقى دعوة من القائمين بأمر تلك الفعاليات للمشاركة، ويا ليتهم فعلوا، فقد كنا على إستعداد لرفدهم بما لدينا من أفكار وملاحظات قد تساعدهم فى التعامل مع بعض القضايا ذات العلاقة مع جذور المشكلة بدارفور، ولذلك أوجّه الشكر لكل من إتصل بى من أبناء دارفور والإخوة فى الدوحة بشأن مشاركتى ونتمنى أن نكون عند حسن ظنّهم فى مقبل الأيام، ومن غريب الصدف أنّنى كنت فى الدوحة ذاتها صبيحة يوم توقيع الإتفاقيّة إذ توقفت فيها لبضعة أيام قادماً من أبوظبى بعد المشاركة فى مؤتمر نظمته الوكالة العالميّة للطاقة المتجددة (IRENA) التى تحتضنها دولة الإمارات العربيّة المتحدة، وغادرتها قبل ساعات قليلة من توقيع الإتفاقيّة والتى لم أحضرها لظروف الطيران، إلاّ أننى إلتقيت خلال وجودى هناك بالمئات من أبناء دارفور والسودانيين المقيمين وأولئك الذين نفروا نحو الدوحة لتشريف المناسبة، ومع ذلك ظلّ الشعور بالمسؤوليّة الأخلاقيّة والأدبيّة ينتابنى دائماُ أن لا بد وأن أدلى بدلوى ولو بالرأى عمّا يدور فى الساحة بخصوص الأزمة المنعقدة لواؤها فى دارفور، خاصة وبالرغم من بُعدى المكانى عن المفاوضات إلاّ أننى ظللت قريباً منها عبر وسائط الإعلام المتنوعة والإتصالات المختلفة بطريقة جعلت الصورة ومراحل التفاوض كاملة الوضوح عندى.
ولعلّ من نافلة القول أن أهم حدث يدور اليوم فى الساحة بخصوص تطورات قضيّة دارفور يتعلق بموضوع إنعقاد مؤتمر المانحين لتمويل السلام والإعمار بالإقليم والذي من المقرر أن ينعقد يومى 7 و 8 من شهر أبريل المقبل 2013، أى بعد شهر واحد، ولقد تناولت بعض التصريحات والأقلام مؤخراً مسألة إنعقاد هذا المؤتمر وتجاذبتها من زوايا مختلفة، أو بالأحرى من زاويتين متضادتين، أبرزها النداء الذى أطلقه السيّد ياسر عرمان مسؤول الشؤون الخارجيّة بالجبهة الثوريّة السودانيّة بتاريخ 2 مارس 2013 نشرته موقع سودانايل والعديد من المواقع الإلكترونيّة طالب فيه بعدم قيام المؤتمر أو تأجيله بناءاً على حيثيات أوردها فى مقاله وقد ردّ عليه المستشار عبدالرحمن حسين دوسة بحيثيات مضادة تمّ نشرها بتاريخ 5 مارس 2013 بذات المواقع الإسفيريّة تدعم قيام المؤتمر، وبالطبع لكل من هذين الرأيين مناصرون ورافضون فى الوقت الذى ينشط فيه قيادات حركة التحرير والعدالة وبدعم كامل من الدبلوماسيّة السودانيّة فى أسفار مكوكيّة حول العالم لحشد المجتمع الدولى للتبرع بسخاء من أجل السلام فى دارفور.
من خلال متابعتى لهذا الموضوع وما أكتنفه من ردود الفعل أجدنى فى موقع المتسائل فإلغاء أو حتى تأجيل المؤتمر أصبح فى حكم المحال خاصة وقد هيأت قطر نفسها وأبدت جاهزيّتها لإستضافة الحدث وتعهد بعض الرؤساء بالحضور ونشط التجانى سيسى ورفاقه فى زيارة الدول التى يُعتقد أنّها مانحة حتى أنّه من فرط تفاؤله توقع الحصول على مبلغ 6 مليار دولار وإذا لم يحصل على شيئ، حسب قوله، فسيعتمد على الإمكانات المحليّة ولا ندرى كيف سيفعل ذلك حينئذ.
قبل أن نخوض فى تحليل هذه الفرضيّات دعونا نستوضح التجربة السودانيّة فيما يختص بمسألة المانحين، ففى الوقت الذى تنشط فيه حركة التحرير والعدالة فى تحسيس العالم لدعم دارفور بعد نحو أربعة أسابيع فقط بدأ عدد من الدول العربيّة دفع حصصها من الدعم المالي المقرر للسودان بموجب قرارات القمة العربيّة التي إنعقدت بمدينة سرت الليبيّة عام 2010، وقدره مليار دولار أميركي، ومن بين هذه الدول التى بدأت تدفع قطر والمملكة العربيّة السعوديّة والجزائر (الصحافة 6 مارس 2013) وهى من أغنى الدول العربيّة المستقرة سياسياً، وقد وجّه المندوبون الدائمون لدى الجامعة العربيّة في مشروع القرار الذى إعتمدوه في ختام إجتماعهم بحر الأسبوع الماضى، الشكر للدول الثلاث، كما حثوا الدول الأعضاء الأخرى الوفاء بإلتزاماتها الماليّة الواردة في قرارات مجلس الجامعة على المستوى الوزاري ومستوى القمة لدعم السودان، كما دعا المندوبون أيضاً في مشروع القرار الذي تمّت إحالته لإجتماع وزراء الخارجيّة العرب الدول الأعضاء وصناديق التمويل والإستثمار العربيّة المشاركة الفاعلة في مؤتمر المانحين لإعادة إعمار دارفور، أى أنّ مشروع القرار دعا إلى دعم حكومة السودان من جانب بالإضافة إلى دعم إعمار دارفور من جانب آخر،، والملاحظة الهامة هنا أنّه وبعد ثلاثة سنوات كاملة من قرار القمّة العربيّة بضرورة دعم حكومة السودان بادرت ثلاثة دول عربيّة فقط حتى الآن الوفاء بإلتزاماتها، مع ملاحظة أخرى هامة أيضاً وهى أنّ ثورات الربيع العربى قد أخرجت العديد من الدول العربيّة الغنيّة من توازنها الإقتصادى بدرجة لا تسمح لها حتى بالإنفاق على حاجاتها الضروريّة.
قبل ذلك، وعقب توقيع إتفاقيّة السلام الشامل بين الحكومة السودانيّة والحركة الشعبيّة، إنعقد مؤتمر للمانحين لدعم جنوب السودان فى أوسلو عاصمة النرويج فى مايو 2008 بمشاركة الأمم المتحدة والبنك الدولي وفاقت التبرعات يومها الأربع مليار دولار لكن لم يتم الوفاء إلاّ بالقليل منها حسب تصريحات المسؤولين الجنوبيين أنفسهم.
فى عام 2007 تمّ تأسيس صندوق في الجامعة العربيّة خاص بدارفور وشهدت الخرطوم تظاهرة عربيّة تبرعت بمبلغ 250 مليون دولار بخلاف الدول العربيّة التى لم تحضر والتى بدورها تبرعت بمبلغ 150 مليون دولار وبلغت قيمة الإلتزامات 400 مليون دولار.
ولقد تمّ عقد مؤتمر للمانحين لإعادة بناء وإعمار شرق السودان فى شهر ديسمبر 2010 فى الكويت وكان الدفع سخياً إذ تجاوز المبلغ المتبرع به أكثر من مليار دولار دفعت حكومة الكويت وحدها 500 مليون دولار لكن دول أخرى تلكأت فى الدفع بالرغم من تأكيد إلتزامها بذلك أثناء المؤتمر.
فى شهر مارس 2010 تمّ إنعقاد مؤتمر للمانحين لدول منظمة المؤتمر الإسلامى لتنميّة المشاريع بدارفور بمدينة شرم الشيخ برعاية مشتركة بين مصر وتركيا وتبرع المانحون بمبلغ 850 مليون دولار حيث بلغت جملة المبالغ التي رصدت لتنميّة وإعمار الإقليم أكثر من ملياري دولار، لكن المنظمة، والتى تغير إسمها منذ فترة إلى منظمة التعاون الإسلامى، إحتفظت بتلك المبالغ توخياً للحصول على ضمانات كافيّة فى كيفيّة إنفاقها بما يتسق مع الأهداف التى من أجلها تمّ جمع تلك التبرعات.
فى خلال ذات المؤتمر قرر المجتمعون بمبادرة من منظمة المؤتمر الإسلامي والبنك الإسلامى للتنميّة ودولة قطر إنشاء "بنك دارفور"، بهدف خدمة إقليم دارفور، بحيث يعمل البنك مرحلياً برأسمال قدره 200 مليون دولار يقدم من خلاله التمويل اللازم للمشاريع الصغيرة التي تعين أهالى الإقليم على تأمين لقمة العيش والدخول فى دورة الإنتاج ويعزز من فرص السلام، وقد إلتزمت دولة قطر بإنشائه برأسمال قدره 2 مليار دولار بناءاً على تعهدات المانحين والتي بلغت 850 مليون دولار كما أشرنا أعلاه دفعت منها قطر نحو 200 مليون دولار أى بنسبة 10 من رأسمال البنك.
إضافة لذلك، وقبل حوالى ثلاثة أشهر، تمّ تأجيل مؤتمر للمانحين لدعم السودان كان من المخطط إلتآمه فى تركيا لكن تدخلت الحكومة الامريكيّة فى اللحظات الأخيرة وأبطلته فتكفلت ألمانيا بتنظيمه فى وقت لم يحدد بعد وربّما يتم قبل نهايّة هذا العام.
وفى الشهر الماضى وردت أنباء من واشنطن عن إعتزام الحكومة الأمريكيّة تنظيم مؤتمر للمانحين خاص بدعم جنوب السودان، إنتقدته الحكومة السودانيّة بشدّة، لكن يبدو أن التخطيط له يتم بهدؤ وربما ينعقد قبل نهايّة هذا العام أيضاً، فإعلان الخبر فى العُرف الأمريكى يعنى أن خطوات عمليّة قد تمّ إعتمادها، وبالرغم من أنّ جنوب السودان قد أصبح الآن دولة منفصلة ذات سيادة إلاّ أنّ الكثير من قضاياها ما تزال متشابكة مع دولة السودان الأم.
من الضرورى كذلك الإشارة إلى أنّ مجموع كل هذه الإلتزامات فى مؤتمرات المانحين السابقة من أجل السودان يقل عن مجموع المنح الفرديّة الكثيرة من مختلف دول العالم والتى قد تصل إلى مليارات الدولارات ذهبت معظمها لمعالجة القضايا الإنسانيّة فى دارفور خلال العقد الماضى.
أعود إلى تساؤلى السابق عقب هذا المشهد الدرامى وهو إلى متى سيستمر المانحون فى دعم السودان، جنوب السودان، شرق السودان، دارفور، وبالتأكيد سوف يسعى البعض لعقد مؤتمرات مانحين لجنوب كردفان والنيل الأزرق إذا ما عمّ ربوعهما السلام؟ فالمانحون قد دفعوا فى السنوات الماضيّة المليارات لجنوب السودان ولشرق السودان وللسودان ولدارفور بل إن المندوب الأمريكى صرحّ الأسبوع الماضى أنّ بلاده قد أنفقت 7 مليار دولار للمعونات الإنسانيّة فى دارفور وحدها خلال العقد الماضى، وها هم الآن يتلقون مناشدات لتبرعات إضافيّة لذات الجهات المتلقيّة سابقاً قبل نهايّة هذا العام: دارفور والسودان وجنوب السودان!! فمن سيدفع لمن؟؟
حتى وإن تمّ التبرع فى مؤتمرات المنح القادمة فسوف تكون جملة المبالغ المخصصة لكل طرف محدود إذ ستقوم الدولة المانحة بتوزيع معوناتها (مثل كيمان لحم) بين هذه الأطراف المتلقيّة لتنال كل منطقة نصيبها حسب درجة أهميّتها للدولة المانحة، وإذا دخلت دولة جنوب السودان فى المعادلة فسوف تأخذ نصيب الأسد من تبرعات أمريكا والدول الغربيّة ليس فقط بسبب التماهى السياسى بل لأنّ الدول المتبرعة سوف تأخذ فى الحسبان أيضاً حصول السودان ومناطقه المأزومة على منح من الدول العربيّة بينما لا يتوفر ذلك لجنوب السودان.
مثل هذه الأوضاع لا شكّ فى أنّه سيؤدى إلى إصابة المانحين بالرهق جراء إدخال أيديهم فى جيوبهم بإستمرار طوال السنوات الماضيّة والمقبلة أيضاً فكثرة السؤال والمذلة يولدان الإحساس بالضجر حتى عند الشخص الكريم، وبسبب هذا الرهق وإنكماش الإقتصاد العالمى ربّما يتردد العديد من الدول فى التبرع السخى فى مؤتمر دارفور لكن من المأمول أن تلعب القيادة القطريّة دوراً حاسماً فى نجاحها وهذا متوقع طالما أنّها تستضيف المؤتمر وهذا هو الكرت الرابح فى يد السلطة الإنتقاليّة.
هذا من ناحيّة، ومن ناحيّة أخرى يبرز تساؤل آخر وهو هل سيدفع المانحون تبرعاتهم نقداً أم فى شكل مساعدات عينيّة؟؟ هنا مربط الفرس فمعونات الدول الغربيّة الديمقراطيّة مربوطة بموافقة برلماناتها ويمكن للحكومة فى هذه الدول أن تعلن تبرعاتها كما تشاء لكن القرار النهائى مرتبط بموافقة البرلمان، إنّ الشاهد والعُرف المتبع فى تقديم دعومات الدول المانحة من الدول الغربيّة أنّها تُعطى فى شكل معونات عينيّة أكثر من أنها نقديّة، تقوم الحكومة بعد موافقة البرلمان بشراء المعونات من داخل أسواق بلدها ثم ترسلها إلى الدولة المتلقيّة، بمعنى آخر أنّ الحكومة تقوم بتدوير ميزانيات الدعم الخارجى فى داخل إقتصادها أولاً فتضرب عصفورين بحجر: تدعم إقتصادها بفلوسها ثمّ تدعم الدولة المتلقيّة بمعونات عينيّة توازى قيمتها ما وعدت به فى إجتماع المانحين ويا بلد ما دخلك شر، وكمثال لهذه السياسة تتمثل فى المعونة الأمريكيّة السنويّة لمصر بموجب معاهدة كامب ديفيد إذ تستلم مصر شحنات القمح والآليات الأمريكيّة وغيرها بما يوازى قيمتها حجم المعونة المتفق عليه لكنها لا تستلم مبالغ نقديّة، هذه النقطة يجب ملاحظتها جيداً من طرف قيادة السلطة الإقليميّة لدارفور فى مؤتمر الدوحة ومحاولة إستخدامها بذكاء للحصول على معونات كبيرة وسنفسر لاحقاً كيف سيكون ذلك.
قبل سنوات وعدت الحكومة الأمريكيّة مفوضيّة الأتحاد الأفريقى بمعونة قدرها 10 مليون دولار وعندما حان موعد التسديد أرسلت أمريكا عدداً من سيارات الدفع الرباعى وأجهزة الكمبيوتر وملابس وأجهزة لجنود حفظ السلام كلها مشتراة من الأسواق الأمريكيّة لكن ليس من بينها فلوس كاش، معظم الدول الغربيّة تفعل مثل ذلك واليوم تمتلك مفوضيّة الإتحاد الأفريقى أكثر من 70 سيارة مهداة من الدول الغربيّة فى إطار دعمها المادى بينما هى فى غير حاجة أليها.
أمر آخر بذات الأهميّة وهى معضلة الشفافيّة والتى تعانى منها الكثير من الدول خاصة الأفريقيّة، فالدولة المتبرعة تتوخى أن يتم صرف تبرعها فيما وافقت عليه فى المبتدأ لكن، وعن تجارب، تكتشف أنّ المبالغ النقدية سوف لن تذهب إلى ما نوت إليه فتتخذ قراراً بدفع المعونات فى شكل مواد عينيّة وحتى هذه ربّما تباع فى الأسواق خاصة الغذائيّة منها، ولذلك تفضل بعض الدول أن تدفع جزءاً من تلك المبالغ إلى جمعيات الإغاثة الدوليّة التابعة لها أو الوكالات الإنسانيّة التابعة للأمم المتحدة، وبالتأكيد فإنّ مبلغ ال 7 مليار دولار التى أنفقتها الولايات المتحدة فى إغاثة دارفور خلال العشرة سنوات الماضيات تكون قد ذهبت معظمها فى شراء المواد الغذائيّة والأدويّة وأشياء أخرى من الأسواق الأمريكيّة قبل إرسالها إلى الإقليم إضافة إلى منح ماليّة لمنظمات الإغاثة الدوليّة.
أمر آخر بذات الاهميّة وهو مدى توفر القدرات والكفاءات للجهة المتلقيّة لإدارة منح ملياريّة من الدول المانحة، بمعنى أقرب هل تمتلك السلطة الإقليميّة لدارفور قدرات وخبرات لإدارة مبلغ 6 مليار دولار إذا تيسر لها ذلك؟ نعرف أنّ الأخ التجانى سيسى أستاذ جامعى وخبير دولى فى مجال الإقتصاد لكن معظم الذين حوله لا تجارب لهم أو قدرات لديهم لإدارة ماليّة حتى لمشروع صغير ولذلك فإنّ المانحين فى مثل هذه الحالة ربّما لا يجازفوا بالتبرع بأموال كبيرة وحتى إن فعلوا فسوف يخصصونها عبر مدى زمنى طويل تحت إدارة صارمة من الحسابات والمراجعات خاصة وأنّهم على علم بقضايا الفساد وعدم الشفافيّة فى الدول الناميّة.
إنّ صندوق إعمار الشرق وتجربتها جدير بالإنتباه فى هذه الجزئيّة من المقال نسبة لتشابهه مع ما ستقدم دارفور إليه، فقد تأسس هذا الصندوق بناءاً على إتفاقيّة أسمرا التي وقعت في أكتوبر 2006 بين الحكومة السودانيّة وجبهة الشرق وتمّ التأسيس بموجب المرسوم الجمهوري رقم (1) لسنة 2007 الصادر في الثالث والعشرين من يناير 2007 تحددت في وضع السياسات العامة والخطط لاعادة البناء والتنميّه في شرق السودان، ومتابعة برامج إعادة البناء والوقوف على عمليات التوطين دون المساس ببرامج مشاريع التنميّه القوميّه التي تشرف عليها الحكومة المركزيّه في شرق البلاد، بميزانيه بلغت 600 مليون دولار للفترة من 2007–2012، وبالرغم من تأكيد إدارة الصندوق نجاحها فى تنفيذ الأهداف المرصودة فى برامج الإعمار إلاّ أنّ الإستفهامات والإتهامات ظلّت تتوالى فى تقييم ذلك وإختلفت حولها الآراء فهناك من يرى بأنّ للصندوق منجزات على الأرض لايمكن تجاوزها أوغض الطرف عنها إلّا أنّ آخرين يعتقدون أنّ محصلة الصندوق خلال السنوات التي أعقبت إتفاقيّة أسمرا كانت صفراً كبيراً وأنّه ليس لها اثر ملموس بولايات الشرق الثلاث ويتسق هذا مع آراء قطاع واسع من أهل الشرق الذين ظلوا يوجهون سهام النقد لصندوق الإعمار ويدمغونه بالفشل في تنفيذ مشروعات ذات جدوى وفائدة للمواطن (الصحافة 26 فبراير 2013).
مثل هذه التباينات فى تقييم نجاح الصندوق من عدمه تعود بالدرجة الأولى لنوعيّة الكفاءات والقدرات التى تضطلع بتخطيط وتنفيذ مشاريع الإعمار ويمثل هذه إحدى المعضلات الصعبة التى سوف تجابه حركة التحرير والعدالة ممثلة فى سلطتها الإقليميّة إن هى أصرّت على تنفيذ برامج إعمار دارفور لوحدها، وهو أمر بالجد فوق طاقتها البشريّة على حسب ما نعرف، خاصة إن كانت الأموال المتوفرة كبيرة ممّا سيشكل لها هاجساً حقيقياً.
إنّ الدول المانحة ستنظر فى هذه القضيّة بعين الإعتبار فلا يعقل أن تتبرع بملايين الدولارات ولا تعرف كيف سيتم صرفها فى سبيل إنفاذ البرامج المتفق عليها.
مقترح لإستراتيجيّة الحركة فى التعامل مع مؤتمر المانحين
غير أنّ من حسن حظ سلطة دارفور الإقليميّة أنّ هناك ترحيباً عريضاً من الدول الرئيسيّة المانحة وعلى رأسها الولايات المتحدة والدول الأوروبيّة والصين واليابان وكوريا الجنوبيّة إضافة إلى الدول العربيّة بل تأكد، حسب بعض مصادر الإعلام السودانيّة، مشاركة بعض الرؤساء الأفارقة منهم رئيسا دولتى جنوب أفريقيا وتنزانيا وهم من الرؤساء ثقيلى الوزن أفريقياً، كما أنّ أمير دولة قطر الشيخ حمد سيعتبر نجاح المؤتمر تحدياً شخصياً له يمسح به ما ناله من رشاش وإتهامات عن دوره فى تأجيج ثورات الربيع العربى وربّما يعزز حلمه بالفوز بجائزة نوبل للسلام عبر دارفور فى نهايّة المطاف إن تحقق السلام الشامل، ولذلك فإنّ كل القيادة القطريّة ودبلومسيتها الناعمة ستكون مسخرة لدعم السيسى ورفاقه، وبالرغم من توقعى من أنّ القيادة القطريّة تكون قد رسمت كل السيناريوهات الممكنة لإنجاح المؤتمر إلاّ أن دور السلطة نفسها يظلّ محورياً فى الخروج بمكاسب معتبرة، عليه فإنّى أقدم إليهم المقترحات أدناه ليتفكروا فيه قبل قيام المؤتمر وأتمنى أن يتوفر لهم وقت لذلك فبيت الشورى ما إنخرب:
أولاً: يجب مراعاة تجارب المانحين، خاصة الدول الغربيّة وأمريكا واليابان، ونزوعهم للتبرع بمواد عينيّة عوضاً عن مبالغ نقديّة، فالدولة المانحة يمكنها أن تلتزم بدفع قيمة تبرعات عينيّة أضعاف ما يمكن أن تدفعها من مبالغ نقديّة طالما أنّ ذلك يضمن لها أنّ تلك المشاريع العينيّة سيتم تنفيذها بواسطة شركاتها الوطنيّة ويحقق لها ذلك تدوير المبالغ التى تبرعت بها فى دائرة إقتصادها الوطنى بينما تستفيد الدولة المتلقيّة تنفيذ مشاريع مختلفة على أرضها، وعلى هذا الأساس يجب على السلطة التركيز على ترويج مشاريع وبرامج للتنفيذ بدلاً عن طلب تبرعات نقديّة بالرغم من أهميتها، مثال على ذلك يمكن أن تطلب السلطة من المانحين تنفيذ طرق مسفلتة داخل الإقليم بطول إجمالى 3000 كيلومتر من الطرق البينيّة التى تربط أنحاء الإقليم مع محاور طريق الإنقاذ الغربى فتنشأ عبر ذلك شبكة متكاملة من الطرق على مستوى الإقليم دون أن تجهد السلطة نفسها بمتاعب التنفيذ، فى هذه الحالة ستقوم الدول المانحة إمّا بالتعاقد مع شركاتها الوطنيّة لتنفيذ هذه الطرق أو تستأجر شركات أخرى من الباطن للقيام بعمليات البناء، وقس على ذلك فيمكن طلب بناء عشرة ألف فصل دراسى بالمواد الثابتة أو حتى بالمواد جاهزة الصنع (Pre-made) لمراحل الأساس والثانويات، بناء 20 مستشفى تخصصى، حفر ألف بئر ماء و300 دونكى و100 شفخانة ريفيّة، بناء 500 قرية لعودة النازحين واللاجئين، بناء 3 مطارات وإعادة تأهيل الموجودة منها، إنشاء محطات كهربائيّة بإجمالى قُدرة 1000 ميقاواط ومد شبكات لمياه المدن الرئيسيّة، بناء 20 معهد تدريب صناعى وزراعى وحيوانى (Vocational Schools) للتدريب الحرفى لأبناء النازحين واللاجئين الذين تخطوا السن المدرسى، ألخ،،، لقد تمكن صديقنا المهندس عبدالجبار محمود دوسة مسؤول الإعمار فى السلطة الإنتقاليّة السابقة (ميناوى) من إعداد خطة متكاملة للإعمار تضم مشاريع مختلفة أرجو أن يكون الإخوة فى السلطة الإقليميّة الحاليّة قد إستفادوا منها.
ثانياً: الدول العربيّة، بعكس الدول الغربيّة، تميل للتبرع النقدى وفى هذه الحالة يجب التنسيق مع دولة قطر لجمع كل التبرعات النقديّة وحفظها لدى بنك قطر الوطنى ولا تمس إلاّ بعد وضع تشريعات وضمانات خاصة بعمليات السحب وكيفيّة الإستخدام.
ثالثاً: ضرورة طلب المشورة الفنيّة من البنك الدولى وبنك التنميّة الأفريقى والإتحاد الأوروبى والدول المانحة حول تنفيذ المشاريع المقترحة، وتكوين آليّات فعالة لمتابعة وفاء الدول بتعهداتها النقديّة والعينيّة، وتكوين لجنة خبراء من المنظمات الماليّة الدوليّة من داخل المؤتمر لطمئنة المانحين أنّ تبرعاتهم سوف يتم إستخدامها بصورة جيّدة، وفى هذه الحالة يمكن أيضاً الطلب من الدول المانحة فتح مكاتب متابعة لها فى الإقليم لتقصير ظل التعاون والإتصالات المتعلقة بتنفيذ المشاريع.
رابعاً: ضرورة إعادة تأهيل السلطة الإقليميّة نفسها فمعظم الكوادر التى تتسنم المناصب حالياً لا يبدو أن لديهم الخبرات المطلوبة للتعامل بكفاءة مع متطلبات الإعمار وقضايا السلام بدارفور وهذه منقصة قد تضر بتنفيذ برامج الإعمار مستقبلاً.
خامساً: ضرورة التواصل وبناء العلاقات مع المثقفين والشرائح الفاعلة من أبناء الإقليم خارج إطر الحركات المسلّحة فقضيّة دارفور قضيّة عامة يجب ألاّ تحتكرها حركة أو سلطة ولعلّ التجانى سيسى يدرك جوانب الإخفاقات فى سلطته ويجب عليه أن يسعى لتحسينها.
خلاصة القول نتمنى أن يحسن الإخوة فى السلطة الإقليميّة الإستماع لمختلف الآراء وتوسيع دوائر المشورة قبل إتخاذ قرارت مصيريّة بشأن مستقبل الإقليم والسلام، كما يجب عليهم أن يتحلوا بالحكمة وأدب القول والفعل والإحترام فى تعاملهم مع الحركات الرافضة لإتفاقيّة الدوحة (فجرح سنان ولا جرح لسان) فهم أيضاً لهم قواعد وآراء وقبل ذلك هم أبناء الإقليم ومن يدر فلربّما يكون الجميع ذات يوم فى سلطة واحدة.
نتمنى لمؤتمر المانحين كل النجاح كما نتمنى كياسة التصرف فى توظيف الأموال والمنح والتبرعات التي سيقدمها المانحون، وتوصيلها إلى مستحقيها فى دارفور بالشكل المطلوب عبر مختلف قنوات الصرف والبرامج مع الحرص المغلّظ على مبادئ الشفافيّة والمحاسبة والشراكة مع الدول المانحة فى تنفيذ المشاريع، ثمّ الأيمان بأنّ كل ما سيتم من تنميّة هدفه الأساسى إنسان دارفور ووحدة الإقليم فى ظل الوحدة القوميّة للدولة السودانيّة،،،،، وبالله التوفيق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.