وزير الداخلية المكلف يستعرض خلال المنبر الإعلامي التأسيسي لوزارة الداخلية إنجازات وخطط وزارة الداخلية خلال الفترة الماضية وفترة ما بعد الحرب    روسيا ترفض لتدخلات الأجنبية في السودان ومخططات تمزيقه    البرهان يودع سفيري السودان لمصر واثيوبيا "الفريق أول ركن مهندس عماد الدين عدوي والسفير الزين إبراهين حسين"    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    السودان..البرهان يصدر قراراً    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صنم الدولة: في تفكيك مفهوم السلطة لدي الدكتور الواثق كمير .. بقلم: عمر قمر الدين إسماعيل
نشر في سودانيل يوم 28 - 04 - 2013

(إن الذي يجعل التغيير السلمي مستحيلاَ، سيجعل من التغيير العنيف أمرا محتوما)
جون كينيدي
تمهيد :
يُحمَدُ للدكتور الواثق كمير تحريك الراكد في بِرْكة السياسة السودانية والتي أسِنَت من كثرة ما اُلقيَ عليها من لغطٍ لا يُبقي ظهراً للتلاقح الفكري، في ذروة تهييج اللجاجِ حول أمور لا علاقة لها بالتناول الموضوعي لهموم الوطن. و نشكرُ أستاذنا علي سعةِ صدرهِ و صبرهِ علي رَهَقِ الابتدار، إذ انه من السهل جداً أن تكون ضد أي شئ، و لكن أن تكون، ليس فقط مع، إنما تبادر بإلقاء عصاكَ في معترك السحرة، فهذا لعمري ضربٌ من شجاعةِ الرأيِ و حُسنِ امتلاك الزمام. فالعديد ممن خلُصت نياتهم للحوار قد أثُروا ابتدار الدكتور كمير بعديد المقالات و الحِجي فيما تناولوه، و قد مهًّدوا لمثل محاولتنا هذه ان تري النور بتسليطهم ضوءاً باهراً علي عتمات المقال وزواياه الخفية، مما يساعدنا علي تناول الامر في مقالنا هذا. وقد كان ممن أدلوا بدلائهم أساتذةٌ أجِلاّء ك"الزميل" الفاضل الهاشمي، والذي كنا من مجايليه في جامعة الخرطوم، والدكتور عبد الوهاب الأفندي و الأستاذ معاوية ياسين، والدكتور أحمد عثمان، و الصديق صلاح شعيب والذين، في تقديرنا، ضمن آخرين، قد قدموا ما أثري النقاش، و جعله موضوعياَ. وفي معرض تعقيبنا سنتوقف عند بعضِ مما سطروا كمُعين علي استجلاءِ ما نودّ قوله.غير أنّ أراهيط آخرين، جعلوا من مقال الدكتور كمير مطية لتغبيش النقاش و تحويره عن جادّتِه، و اكبر ظني أنهم خابوا.
ما دعانا لاختيار مفهوم السلطة لدي الدكتور كمير كمدخل لتحليلنا لمبحثه هو أن لحمة موضوعه و الفكرة الأساس والتي ابتني عليها حُجيَّتَه قد كانت حول السلطة، تصريحاً كان ذلك ام ترميزاً. و لأننا نعرف عن الدكتور كمير أهليتُهُ كمثقف عِوضاً عن مهنيته الأكاديمية فإننا سنحاول من خلال النظر في علاقة المثقف بالسلطة الولوج إلي عالم سلطته هو كمثقف و فاعل سياسي في انتاج النص المشار إليه، و من ثم نعرِض لمسألة العدالة الدولية، جنائيةً كانت أم انتقالية، كما تناولها الدكتور كمير وموقعها من إعراب السلطة.
صنم الدولة: إنتاج البديل
نافِلٌ ما نزعم، بأن الدكتور الواثق كمير قد قدّم أطروحته " الكرة في ملعب الرئيس: تفكك الدولة السودانية: السيناريو الأكثر ترجيحاً" إنطلاقاً من قاعدةٍ وطنيةٍ ، و غيرةٍ علي استقرار الوطن. وما حَمَلَه علي انتخاب الإنتماء للحركة الشعبية يوم ازورَّ مساجِلوه عن خوضِ الوغي، إلاّ الإلتزام الصّارم بما أملاه عليه ضميره تجاه البلد. و نحن في نقدنا لأطروحته، لا نتوخي إلا تمام تلك الرسالة،و سد ثغراتها.
بدءً، ولنتفادى الدخول في متاهات المصطلح و ظلاله المتعددة و احتمالاته و تأويله، دعونا نعرِّف ما نعنيه نحن بمفهوم السلطة حتى لا نخلط الفهوم متي ما أسقطنا تعريفنا علي مفهوم الدكتور كمير بغية تفكيكه. فقد تدرجت السلطة من اختزالها المقيّد بأنها القوة، لا غير،أو في ترميزات أخري الهيمنة، إلي فضاءٍ أكثر رحابة حين تعددت مستوياتٌها ودلالاتٌها بتعدد العلوم التي أنشأت تعريفات مستقلة أو متداخلة لمعني السلطة. و حتى لا نحمِّل مسألة التعريف حمولات من المعاني لا تفيدنا هنا، نكتفي بتعريف مختصر لميشيل فوكو والذي، في قول فيصل درّاج " انطلق من أرضية متحركة لعلائق القوي و التي بدورها تتولد بلا انقطاع.... فالسلطة عنده ليست بالضرورة رأس الهرم و حسب، وهي ليست فوقيةٌ دائماً، بل هي محيطةٌ تأتي من كلِّ صوب". فالسلطة إذن ليست أحادية، أو في حالة ركون صمدي، بل هي “سلطات" متولدة من مجموعة علائق معقدة تستمد وجودها و دلالاتها من أفراد " المدرس/الموظف/المثقف/العامل...." في الدولة و مؤسسات من الأسرة إلي المدرسة، و مكان العمل و الشركة و ليس انتهاءً ب “مؤسسة الرئاسة".
الدكتور كمير بدا قريباً من هذا المفهوم حين ذكر “السلطة" لأول مرةٍ في مقاله موضوع البحث. ففي وصفه للسيناريو الأول: الإبقاء علي الوضع الراهن، ذكر أن استمراره " ولو بتغييرات بسيطة وسطحية .... دون مساس جوهري ببنية السلطة وتركيبة الحكم" سيكون صعباً إن لم يكن مستحيلا. فذكره لبنية السلطة و تركيبة الحكم يشي من طرف خفي باستلهام “البناء" و التركيب" و اللذين يَدلاَّنِ علي أكثر من عنصر واحد تَشَاَركَ هذه العملية المعقدة من جوانب و زوايا متعددة. و لكن لا يلبث الكاتب هنا إلاّ هنيهةً، إذ أنه يُغادرُ هذا المفهوم ليتبنَّي أطروحته المركزية في أن السلطة كامنة في رأس هرم المؤتمر الوطني القابض. و في السيناريو التالي أخذت السلطة بعداً جغرافياً عندما ذكر أنَّ العمل المعارض المسلَّح يزحف “علي مركز السلطة" من الأطراف في شكل عصابات مسلحة. فالجبهة الثورية في نَظَر الدكتور كمير ومشايعيه تمظهرت في “متلازمة الجنوب الجديد" علي حد تعبيره، و هي منبر حصري للمهمشين علي أساس عرقي و إثني. هنا التقي الدكتور كمير بالجبهة الثورية من حيث لا يدري إذ أن كلاهما قد اجتزأ تعريف السلطة و حصرها.
في توصيفه لفعل الجبهة الثورية و إضعاف القوات المسلحة – الأطروحة التي سنعود إليها في غير هذا المكان- يري الدكتور كمير أن مثل هذه الأفعال ستقود حتماً “في نهاية الأمر إلي انهيار سلطة الحكومة المركزية". فالسلطة هي القوة المهيمنة مرهونةٌ بظرفَي الزمان، الآن، والمكان، الخرطوم حيث القوة المركزية و ما دون ذلك لا يعدو أن يكون معارضةً سلميةً خائبة، أو شراذم من عصابات مسلحة ذات دفع إثني تتحرك بعيداً عن مركز الفعل والتأثير. لقد نجحت عصبة الإنقاذ في سِنِيِّ قبضتها المتطاولة في تغبيش النظر حتى علي ذوي البصائر لحد تماهي مصير البلاد والعباد في مصير الإنقاذ، فضلاً عن تماثٌل أطروحات المعارضة و بروباجندا الدولة حدًّ التطابق.
إن شخصنة السلطة و حصرها في الرئيس قراءة مبتسرة لواقع الحال علي الأرض، دع عنك حمولاتها الدلالية الموحية بالاكتفاء بما هو متاح، و عدم الولوج في عنت البحث عن مخالف لما هو معطي. فالمؤتمر الوطني نفسه يموجُ بحراكٍ يُنبي بأنّ سلطة الرئيس أضحت محل تساؤل حتى من أقرب معاونيه، كما في حالة الدكتور غازي صلاح الدين، أو من كانوا يوماً من ثُقاته في الأجهزة النظامية كالفريق صلاح قوش، أو قادة الجيش المتهمين في المحاولة الانقلابية المزعومة. إن نجاح البشير ودائرته التي تضيق كل يوم، في الخروج منتصراً في كل الحالات السابقة لا يعني أنه الأقوى والمهيمن، بل تعني أن سلطته قد أضحت عظمة نزاع حتى داخل “الحوش". ويزداد التحدي لسلطة الرئيس سطوةً ومِنعة كلما نظرنا للشراذم المتناحرة من حوله، حيث يمثِّل وجوده الميزان الدقيق لا عن قوة وهيمنة، و لكن لخوف إن هو مال مع تيار ما، لم يطمئن إلي أن التيار الآخر سيأخذهما معاً. و في مقال الدكتور أحمد عثمان عمر “فخامة الرئيس ممثل الرأسمالية الطفيلية و رهينتها.." ما يكفي لتحليل هذه الظاهرة.و يظل السؤال المؤرِّق و المعقّد في آن: هل بإمكان البشير، ومن خلفه المؤتمر الوطني، أن يتبني أطروحة الدكتور كمير في الإصلاح والانتقال بالسودان من مربع العنف إلي رحابة التشارك في الوطن؟؟
إن في اعتقادنا الراسخ أنّ ذلك غير ممكن في ظل المعطيات الماثلة لأنّ الرئيس و جهازه التنفيذي هم ممن “ملكت إيمان" التحالف الشيطاني بين الأجهزة الأمنية ورأس المال الطفيلي. فمنذ استيلائها علي السلطة بمجئ الإنقاذ سعت الحركة الإسلامية العابرة للقارات علي إنشاء تحالف السلطة من مكونات اختارتها بعناية لتدير لعبة الحكم و الهيمنة علي الثروات من خلف ستار، مع إطلاق يد الأجهزة الباطشة لإرهاب الخصوم و إدارة حروب الموارد و هندسة الديموغرافيا بخلق تحالفات إثنية داعمة وأخري صاغرة أو عرضة للإحلال و الإبدال و إعادة التوزيع و الدمج. و هكذا انفصل الجنوب، و تمّ تدمير دارفور و ما يزال النزاع علي أشده في النيل الأزرق و جنوب كردفان و شمال البلاد و شرقها. و لا تزال المجموعة الأمنية القامعة تواصل عملها الموكل إليها، فهي حارسة هذا النظام، و ضامنة دراكيولات رأس المال الطفيلي، و الذي بدوره يغذى هذه الأجهزة بما تحتاجه من دعم لوجيستي و معينات لضمان استمرار النهب عن طريق المؤسسات المشبوهة و سياسات الدولة المتساهلة تجاه الخصخصة و الإعفاءات و الفساد المقنن من كل نوع. هذه النسخة المؤسلمة من الشركات المتعددة الجنسيات و هيمنتها علي البلاد المستعمرة آنئذٍ، و تلك الضعيفة بٌعيد الاستقلال، قد وجدت المناخ الملائم في دولٍ كالسودان، مستفيدةً من تكنولوجيا المعلومات المتطورة، و تراكم ثروات الطفرة النفطية، مع توفُّر العاملين بالوكالة، لتجيِّر مصائر الدول والشعوب لمصلحة أدلوجاتها البائرة، باستثمارها في الدول ذات الأنظمة القابلة للاستغلال و الانقياد كنظام الإنقاذ المعزول. و ليس بدعاً إذن، أنه في فضاءٍ سياسي/ اجتماعي استقال من التأريخ، أن يُحكَم السودان عن طريق هذا “السندكيت" حيث يتم التحكم في خيوط اللعبة بأيديهم هم، لا بيد الرئيس.
ومن ثمّ نعود للجيش و موقعه من كل هذا لنتفق مع الدكتور كمير في أنه كان حريَّاً بالجيش أن يظل مؤسسة قومية التوجه و السلوك، حرساً لحدود البلاد، مُؤمِّناً لحياة المواطنين و حارساً أميناً لهم، فهل بقي الجيش كما توخّينا؟؟ كلا!! فقد طالته الهيمنة منذ أعلن عرَّاب النظام أنّ العقيدة القتالية للجيش قد تحولت بمجيء الإنقاذ إلي عقيدة جهادية لحرب الكفار، أبناء الوطن الواحد و مساكنيه من مَن لا يدينون بالإسلام، و بين ليلة و ضُحاها تحوّلت الفُوَّهات من مهمتها لحراسة البلاد و توفير الأمن للمواطن، المِلِّي علي قدم المساواة مع غيره، إلي التوجه لأعداء الإسلام في أرض السودان، لترويعهم و نهبهم، بل كما في فتوي أمين عام الحركة الإسلامية الأخير، قد أُحِلَّ لهم السَّبي و الغنائم كمحفِّزٍ علي القتال. و للإنصاف، فإن الجيش لم ينحنِ للأمر دون مقاومة، فكانت محاولة رمضان الانقلابية، و احتجاجت أخرى من بين رتبه المختلفة. و بعدها تمت غربلة الجيش و تصفيته من كل من لا يمتُّ للنظام بصلة، و تمّ تكريس قدرات القوات المسلحة في حرب الأطراف في جنوب السودان و دارفور، علاوةً علي جبال النوبة و.. و كرّت المسبحة. لقد أضحى أمر إشغال الجيش في حروب الموارد و الهُوية أمراً ملازماً لكل حِقب الإنقاذ، مع تكوين المليشيات الموازية و الأجهزة القمعية المنافِسة للجيش في احتكار عنف السلطة. جيشٌ هذى حاله، رغم مشروعيته كجيش نظامي و اكتسابه لصفة القومية، لهو قاصر ٌمن أن يظل المؤسسة الوحيدة التي “بمقدورها إدارة عملية انتقال سلمى للسلطة" أو كما قال الدكتور كمير.
في دور المثقف وسلطته:
لم يصدر سِفر الدكتور كمير عن فراغ. فهو أستاذٌ جامعيُّ و باحثٌ فضلاً عن كونه فاعل سياسي. جِماع هذه العوامل إضافةً لمزايا أخري عديدة جعلت من الدكتور كمير مثقفاً يفي بكل أغراض التعريف التي تحيط بالكلمة ودلالاتها. إذن فالمحلومُ به أن يُطابق المثقف ما ينادي به- علي المستوي النظري- فعله علي المستوي التطبيقي حين تُوضع افتراضاته – دع عنك مسلّماته- تحت مِبضع المشرِّح. فلأستاذنا إسهاماته في الصراع ضد السلطة في العهد المايوي والذي أفضى به للانضمام للحركة الشعبية لتحرير السودان كإطارٍ نضالي تمترس داخله إلى ما بٌعيدَ توقيع إتفاق السلام الشامل. لقد كان طِوال هذا الزمن مناهضاً للشمولية و للديكتاتورية العسكرية وهيمنة العصبة المتدثرة بخباء الدين. فما الذي جدَّ وجعل من قُلَّة – أى رأس – ذلك النظام الوالغ في الفساد، والمقترف الشرس لأسوأ سِجِلِّ عرفه تأريخُنا لانتهاكات حقوق الإنسان، الخيار الوحيد الممكن في نظر الدكتور كمير؟؟
إنها خيبة المثقف في أعلا تجلياتها وتمام فشل النخبة في إدارة عمل الفكر و الابتكار للخروج من مأزَم السلطة الراهن إلي فضاءات المحايثة اللازمة لتوليد الحلول المرتجاة. فالمثقف كما عند علي حرب هو “حارس القِيًم المتعلقة بالحقيقة والحرية والمساواة و الهُويّة" و مهنته الأصلية هي “الاهتمام بالأفكار، و الاشتغال علي المعطيات الثقافية، بحثاً عن إمكانيات جديدة للتفكير، تتيح عقلانيات أكثر أتساعا و أشد تركيبا." وفي “وصف المثقف" ذكر إدوارد سعيد، أحد سدنة الثقافة المعاصرة، " إن صوت المثقف وحيدٌ و لكنه يُسمَعُ رناناً. و السبب الوحيد للرنين هو أنّ هذا الصوت يربط نفسه، دون قيود، بواقع حركةٍ ما، و طموحات شعبٍ ما، و بالسعي المشترك من أجل مَثَل أعلى مشترك". فالنظرة السّابرة و المتعمقة لأطروحة الدكتور كمير، تكشف ثباتها عند نقطة التقرير الراهني بدلاً عن التحليل الرؤيوي لهذا الراهن، و محاولة فضحه. فبالرغم من استناده علي إيحاءٍ مستقبلي باعتماد " السيناريو" إطاراً للطرح، ما يشي بإعمال الخيال حسب التعريف السائد، إلا أن حيثيات الخطاب لم تخرج عن وصف ما يجري الآن، حذوك تقارير الأخبار.
لربما كانت خيبة الصراع المرير إبان العهد المايوى و الذي أنتج وصفةً ناقصة للديموقراطية من منظور الحركة الشعبية، ضلعٌ في قنوط الدكتور كمير في أيّ أملٍ لديموقراطيةٍ قادمة، خاصة حينما أهدر طرفي ما سُمِّيَ ب “اتفاق السلام الشامل" الفرصة تلو الأخرى لتحقيقه. و مما زاد الأمر ضغثاً علي إبالة، انفصال الجنوب نفسه عن الوطن الأم و انشطار آخر أحلام التغيير في تسارُعٍ صادِم لدُعاة “السودان الجديد" – ونحن منهم – خاصة لأولئك الذين ساهموا في سكّ المفهوم، كالدكتور كمير. زاد من هول هذا الانفصال التكتونيِّ الفشل السرمدى لمعارضة هشة لم تستطع أن تقارع هذا النظام الفاشي فأقعت و تدجَّنت و تركت المبادرة للحركات المسلحة، والتي – هي الأخرى- بلا قاعدة معرفية صلبة، أو قيادة علي مستوى معقول من القبول، و النتيجة الحصرية هي الأزمة الشاملة. و لكن حين تطول الأزمات و تنبهِم المسالك، و تستنقِع الأمة في الهزيمة، تبقي عاديَّة اليومي و المُعاش شاخصةً، تحيلها إلي مُساكِن أليف، و ينتفي الإحساسُ بالأزمات جراء الاستسلام لهزيمةٍ قَدَريّة تأخذ شكل “الأزمة العضوية" كما رآها قرامشي و “التي تتوازعها سلطةٌ مأزومة، و معارضةٌ مأزومة هي الأخرى". و آيةُ مًأزًم المعارضة هي في تحوُّل مثقفيها من مولِّدين لأفكارها الدّاَحِضة لإرهاف النظام، إلي مُسوِّغِين لتمرير خطاب السلطة.
العدالة الموؤودة:
ما أكثر ما أثار الدكتور كمير من حيرة في أطروحته، ولكن تبقى قصة تناوله لمذكرة إدّعاء المحكمة الجنائية الدولية أمراً لا يدعو للحيرة فقط بل يتعدّاها للإنكار. و قد كفانا هو عناء البحث في الجذر الفكري لمساقات طرحه باستنطاق نفسه و استدعاء مقالات كان قد كتبها و نُشرت علي نطاقٍ واسع في أكتوبر2008. وقد ذهب في مقالاته إلي أنّ " الإدعاء في حق الرئيس، ناهيك عن اعتقاله، إن ذهب إلي نهاياته المنطقية، سيشعل فتيل الصراع علي السلطة" وان " تداعيات إدعاء المحكمة الجنائية الدولية في حق رأس الدولة.... ستعصف بأيِّ فرصة للانتقال السلمي إلي الحكم الديموقراطي التعددي و تعرض البلاد لمصير مجهول قد يُفضي بالانزلاق إلي هاوية فوضي شاملة و حرب أهلية مدمرة". ́هكذا. ضربة لازب. ويمضي الدكتور كمير في إطلاق أحكامه المعيارية فيذكرنا بأنه دعا “للوقوف خلف الرئيس البشير" لمّا رأى " المساندة واسعة النطاق و المؤازرة غير المسبوقة التي حظي بها رئيس الجمهورية، داخلياً و إقليمياً و عالمياً، في مواجهة مذكرة إدعاء المحكمة الجنائية". لا ندري كيف يقيس أستاذنا الثبت، المؤازرة و المساندة؟؟ و أيّ معيار ينتهج في إطلاق أحكامه حول هذا الأمر؟؟ فمِن رَجَا الداخل، لربما أعشته جموع الهتِّيفة الذين أتي بهم مقاولو الأنفار الاختصاصيون في كل مناسبة عن أن يري آخرين في طول البلاد وعرضها من الذين طمس الله أسماءهم، و هم يجأرون لكل من ألقي السّمع، بما أصابهم و يطالبون بالقصاص. وهل في بلادٍ تصدر فيها المراسيم الرئاسية لتهديد الصحف من تناول أمر دارفور، بل عن ذِكرها بما لا يرضى الحاكم، من يستطيع أن يقطع، بمثل هذه الانهماكية العالية، بصِدقِ سندٍ أو مؤازرة؟؟ أما في شأن الأمر الإقليمي، فقد رأينا كيف أن الإتحاد الإفريقي قد رفض أن يرأسه من هو مطلوبٌ للعدالة الدولية، رغم ما درجت عليه القمم من يوم أن عُرفت، بتسمية من تتسنّم بلاده استضافة المؤتمر، رئيساً لها. بل أن بلاداً مثل ملاوي قد رفضت دخول البشير إلي أراضيها، برغم أنه كان زائراً بحجة القمة الأفريقية. و بالمثل، فدونك جنوب أفريقيا و كينيا و يوغندا، أو حتى تشاد التي ألغت اجتماعا وأجّلت آخر حتى لا تقع في حرج استقبال شخص مطلوب للعدالة. نعم، لا بدّ من أن نقِرّ أن دولاً عديدة في القارة قد آزرت البشير من خلال المنابر حيث تكون القرارات بطريقة القطيع، ولكن ما أن تأخذهم فرادى حتى تكتشف خوار عزمهم، وأن ما يقررونه في القمم كان لمداراةِ سوءاتهم هم، أكثر من كونها عونٌ للملهوف. أما بقية دول العالم، فيكفي أن نري حتى سفراءهم المعتمدين و مبعوثيهم للخرطوم يتحاشون – حسبك الصحيح من الأجرب – ملاقاة البشير، ولو في صف الصلاة. وأنه خلاف زيارته للصين، والتي يعرف الجمع تفاصيلها، لم تستقبله غير تركيا وإيران أو ما سقط سهواً من الذاكرة.
لا جدال لنا مع الدكتور كمير في أن مسألة العدالة (غير العدل) ليست بأمرٍ قانونيٍّ بحت. و لا يظنُّ إلا مَن حسُنت نيتُه أن العدالة “الدولية" يمكن أن تُمارس – علي الأقل في شكلها الإجرائي – بمعزلٍ عن السياسة. و المادة (16) لها علاقة بتعطيل إجراءات الإدِّعاء لآجال قد تفوق العام إن هي جٌدِّدت بعد انقضاء أجل العام الأول. و هذه المادة تم إدخالها خصيصاً لتشجيع أولئك الذين يسعون لتغيير سلوكهم الشائن من ارتكاب الجرائم إلي الانتقال لمراحل المصالحة و تحقيق العدالة، عن رغبة، عبر المؤسسات المحلية أو الهجينة، والتي أظهرت القدرة الواجبة و الاستقلال المطلوب لتقديم العدالة. أين من كل هذا دولة خلافتنا الرّاشدة و حادي ركبها، أول المُدانين؟؟ ذكر الدكتور كمير أنّ “موضوع العدالة الجنائية و التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان و جرائم الحرب لم يغب عن أجندة التفاوُض في نيفاشا، بل تواضعت أطراف النزاع علي تقديم السلام والاستقرار و معالجة أمر العدالة في إطار أشمل للمصالحة الوطنية و تضميد الجراح" فبِها و نِعمَت. و لكننا جميعاً قد عايشنا محاولات تطبيق الاتفاقية، و طِوال هذه السنوات لم نسمع، غير أصوات خجولة، تحاول أن تُعيد إلي الأذهان قضايا انتهاكات حقوق الإنسان و جرائم الحرب التي ارتكبها كلٌّ من طرفي النِّزاع. صحيح أن المساواة الأخلاقية بين طرفي الصراع لا تستقيم، إلاّ أن التأريخ لا يرحم من فرّط في ردِّ المظالم و جبر الضرر. أما فيما ورد بخصوص “حكمة" الحركة الشعبية و مصافحة الدكتور قرنق للبشير فإننا نسأل الدكتور كمير: هل كان بإمكان الدكتور قرنق أن يعقد إتفاقية سلام يدخل بعدها القصر نائباً للرئيس و لا يصافحه؟؟ و ماذا كان علي الرجل أن يفعل حتى إذا كانت يدا الرئيس تقطرانِ نجيعاً أحمر في تلك اللحظة؟؟
لأسباب عديدة من ضمنها تقلُّص المسافات في هذا العالم- القرية، و لانتشار وسائل الإعلام و الوسائط الضخمة التي ربطت أرجاء المعمورة، و لاستفادة أبناء دارفور العاملين في مجالات حقوق الإنسان و غيرها من مثقفي الإقليم من تجارب الجنوب و البوسنة و رواندا، جاء اهتمام العالم بقضية السودان في دارفور. و هي قضية قد قبض جمرها الكثيرون و قدموا كل مرتخص و غال، وكشأن رصفائهم من أهل السودان المأزوم، ناضل الجميع لأجل وضع أزمة السودان في دارفور في إطارها الصحيح. هي ليست مِنّةً أو مِنحةً من أحد. و إن كانت حرب الجنوب “أشد شراسة و أكثر وحشية" كما أفاد الدكتور كمير، و لم تُحظَ بنفس الإهتمام العالمي فذلك مردُّه إلي أنّ من ضمن الجرائم التي أدين فيها البشير و صحبه جريمة الإبادة الجماعية، وهي جريمة نوعيَّة، بمعني أنّ إثباتها لا يعتمد علي الكم من حيث عدد الضحايا و “شراسة" الحرب، و لكن علي نيَّة مرتكب الجرم. و لكون العالم قد عرف الأزمة في عقابيل الذكري العاشرة لإبادة رواندا، فقد حرّكت صور وكالات الأنباء و دعاوى الناشطين أصحاب الضمير في أصقاع الدنيا لنصرة “إخوانهم" في الإنسانية. و لربما إذا ما تم استقصاء محايد لما حدث في جنوب السودان من حربٍ جهادية في سنوات الهوس الديني و مشروع امتهان الإنسانية “الحضاري" في هذا العهد الغيهب، لخرج المحققون بأدلة علي الإبادة الجماعية و غيرها من جرائم الحرب و أهوالها. ولكن عندما يختبئ “العاملون عليها" خلف “ضروة" التبريرات المستهلكة من قبيل السلام مقابل العدالة، لا يجد ضحايا الجنوب، والشمال معاً، من يرفع عقيرته بطلب الانتصاف لهم من ظلم ذوي القربى. فنحن لا نؤمن بالمقابلة الضدية أو التناظر المتعارض بين السلام و العدالة: هما في عُرفِنا متلازمَينِ لا فكاك لأحدهما من الآخر. و حتى في حالات العدالة الانتقالية فإن العفو و التصالح يتم بعد الاعتراف، و هو مبدأ عدليٌّ راسخ يتعارض مع سياسة “الكنس تحت البساط" في تعبيرٍ رائعٍ للفرنجة. ذكر الدكتور كمير أن “مصداقية المحكمة الجنائية الدولية...موضوعاً مثيراً للجدل، تختلف حوله الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ، حتى وسط الدول الأعضاء في كل العالم، بما في ذلك الدول الغربية و الولايات المتحدة". ونقول للدكتور كمير، دع المحكمة الدولية و شأنها جانباً إلي حين ولنتساءل: أليست المؤسسات العدلية الراسخة في هذه الدول الديموقراطية – و منها دول أمريكا الشمالية حيث نعيش معاً – أليست هي عرضة للنقد و التقييم والتساؤل المستمر من قِبل النابهين في هذه البلاد سواءً تعلّق الأمر بتعيينات المحكمة العليا أو الدستورية أو أحكام هذه المؤسسات الرفيعة و تفسيرها للدساتير؟؟ أليست هي موضع انتقاد أو إشفاقٍ عليها من قبل الناشطين إن هي مالت مع ميل الأحزاب “السياسية"؟؟ فمن أهم التساؤلات التي تدور في الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة سؤال إذا ما كان الرئيس القادم ، جمهورياً كان أم ديموقراطياً سيكون له حظ ترشيح أحد القضاة للمحكمة العليا، و ما إذا كان الكونجرس من حزبه أو الحزب الآخر و مدي قبوله أو رفضه للمرشح لمنصب القضاء الرفيع. لا غرو إذن أن من المؤسسات و الأفراد من يوجه النقد لمحكمة الجنايات الدولية و أن هناك من يشك أصلاً في جدواها، ولكن من الصعب جداً أن يشككوا في ما تصدره من أحكام بحق الجناة. أما بالنسبة لتقريركم أستاذي بأنّ معظم دول العالم الثالث " وفي أفريقيا بالذات، حتي إن كانت من المصادقين علي النظام الأساسي للمحكمة، تطعن في عدالة المحكمة بسبب الانتقائية، وازدواجية المعايير، والخضوع لدوافع سياسية" فأمرٌ نرى أنه جانف الصواب.
إن معظم الدول الأفريقية التي طالت مواطنيها مذكرات الاعتقال من المحكمة الجنائية قد طالبت هي المحكمة بذلك كما في حالات كينيا و يوغندا و أفريقيا الوسطي و الكنغو. لقد أقرَّت هذه الدول إما بضعف أجهزتها العدلية أو بعدم مقدرتها الأمنية علي تعقُّب، و من ثم القبض علي الجناة و محاكمتم. و قد ذكر مرشح الرئاسة في كينيا ساعتئذٍ، أوهورو كنياتا، بأنه إذا ما فاز بالرئاسة، وقد كان، سيذهب إلي المحكمة لتبرئة نفسه. وقد بدأت المفاوضات الآن في كيفية إرسال المحققين إلي كينيا لهذا الغرض. فأين الانتقائية هنا؟؟ لقد كنا نعشم في ألاَّ يردد الدكتور كمير مقولات أعداء العدالة و مؤسستها دون تمحيص. وأما فيما يختص بازدواجية المعايير، فمَن لا يعرف أن العالمين العربي و الإسلامي قد احتفوا أيما احتفاء حين تمّ اعتقال ميلوشوفيتش الذي اتُّهم بجرائم الحرب و الجرائم ضد الإنسانية نظير ما اقترفه في حرب البوسنة و معه “جزار سرابرانيتسا" كاراديتش؟؟ ألم يطالب كل العرب بتدخل المحكمة للتحقيق و من ثم محاكمة المتهمين في اغتيال الحريري؟؟ أم لم ينحنِ الجميع إجلالاً للمحكمة حين أصدرت مذكرة توقيف بحقِّ نجل القذافي سيف الإسلام؟؟ هل كل هذا عبثٌ لا طائل منه حين أتي الأمر علي رجلٍ قال بملء فيه أن من قُتلوا في دارفور لا يتجاوزون الآلاف العشرة و هو يدّعي الحكم باسم رسالة قال أحد رموزها ، و هو قائم بالمدينة ، انه مسئولٌ أمام ربه لو أنه لم يمهّد الطريق لبغلة عثرت بالعراق؟؟ وان نجعل من ذات الشخص قيِّماً علي التحول السلمي المنشود في بلادنا؟؟
خاتمة:
إنّ المساومات الكبرى ليست بدعة حصرية لشعب ما أو أمةٍ دون غيرها. و نحن في السودان قد درجنا، قبل أن تطحننا دهماء الإنقاذ بثفالها، علي العفو عند المقدرة، وجبر الخاطر و الانصياع لنصح الأجاويد. و لكن راهننا المأزوم بتقيحات الغل و دمول التعذيب و امتهان الكرامة واستشراء ثقافة العنف و الإقصاء يجعل من الصعب جداً الركون إلي المساومة دون تنازلاتٍ ضخمة من الطرف المعتدى.مساوماتٍ نحن نعلم أنّ الإنقاذ لا تستطيع دفع استحقاقاتها بناءً علي تأريخها المعلوم و نقضها للعهود وحنثها بالأيمان. ومع اختلاف الظروف الموضوعية بين السودان و جنوب أفريقيا، و ما عُلِمَ بالضرورة من أننا لا يمكن أن ننسخ تجربة شعب ما، و نُسقِطُها علي آخر، إلا أن لهاة منظرينا السياسويين قد جفت من كثرة تردادهم لقوالب جنوب أفريقيا و التي فصلوها علي مقاسهم متى ما انبروا للحديث عن المساومة السياسية، أو الحقيقة و المصالحة، متناسين أنّ لكلِّ قومٍ “سُنَّةٌ و إمامٌها" كما عند لبيد بن ربيعة. فالمساومة التأريخية لا يمكن إنجازُها أو حتى تصوُّرَها في المخيال السياسي تحت ظل المناخ الحالي و تحت القيادة التي اقترحها الدكتور كمير. فالأجدى من هذا التفكير الرَّغائبي أن تتراصّ الصفوف لإسقاط هذا النظام الدموي، أو إرغامه علي تفكيك نفسه و تسليم السلطة لمن يستحق: وهو شعب السودان الكريم. قد يقول قائل و ما برهانك علي أن ما ناديت به ليس إلاّ محضُ خيال، وهو التفكير الرغائبي عينه، نقول لهم إقرأوا تجارب الشعوب و تعلموا من سنن الذين خلَوا من قبلكم. إن رهاننا الدائم هو علي شعب السودان مهما تداجى ليلُهُ و استطال. فالبطولة التي يود الدكتور كمير أن نخلعها علي الرئيس البشير ليست كأنواط الجندية يمنحها القادة لجنودهم، و هي ليست صكوك و فِرمانات يغدقها الغزاة والطغاة و الجًباةُ علي أنفسهم و محاسيبهم، هي شعور الشعب العفوي تجاه من صان لهم كرامتهم و مَحَضَهم محبته و احترامه، فكم من صنمٍ هوي من حولنا، و ضنَّ عليه شعبُهُ حتى بالبصق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.