لعل النشاط المتعدد الوجوه لعدد من الدول "الآسيوية" تجاه أفريقيا فى الفترة، بل السنوات، الأخيرة أن تؤكد لبعض المترددين، أن البوصلة تتجه "شرقاً"، وأن ذلك ليس بسبب وقوع آسيا إلى شرقى أوربا "مركز القياس"، ولكن لأن شيئا كبيرا يحدث فى مواجهة "المركز الرئيسى" المزعوم.. ولا يحتاج ذلك لإعادة التفسير بأزمة الرأسمالية "العالمية" أو غير ذلك مما يعرفه أى قارئ لتتابع الأحداث. لكن التساؤل مازال خاصا بطبيعة هذا التحول "شرقا"، لأن الشكوك مازالت تثير مشكلة استمرار النفوذ عبر نمط رأسمالى طاغ قد لا يمضى بعيدا عن نمط "الرأسمالية العالمية" المقاومة لأيه استقلالية حقيقية، ولا نعرف ما إذا كان التحرك الصينى أو الهندى أو التركى الإيرانى أو الماليزى، أو العربى الخليجى... كل ذلك هل سيدخل فى "الظاهرة الآسيوية" وكل عنصر مذكور هنا له طبيعته، وحيثياته، بل ومزاعمة، أمام الرؤية الجادة لأصحاب القول "بالرأسمالية الامبريالية"، أو بالتطور الرأسمالى "التنموى"، واستحالة الانعزال عن ظواهر العالم المفتوح.. الخ! لذلك.. يهدئ المتخصص من روعه، ويلجأ إلى مستوى "الميكرو" ليناقش بعض الحالات الفردية أو الإقليمية، ليتخلص من ضغط "الظاهرة العامة" لبعض الوقت. اننا لسنا فى حالة مناقشة هل الصين مجرد "حالة رأسمالية" قد تكون مستقلة"؟ أم حالة امبريالية جديدة؟ وهل ماليزيا أو تركيا مجرد رأسمالية تابعة؟ وما الذى تفعله إيران فى سعيها نحو أفريقيا ايضا؟ وهل تستطيع "كتلة العرب المالية" الآسيوية بدورها أن تجد لها مكانا، خاصة وأن لها قضية جذرية تجاه "العالمية" تسمى "إسرائيل"؟... الاخبار التى يمكن أن يتناولها المحلل مؤخرا، توحى بملاحظات كثيرة. هناك زيارات لافريقيا من قبل الرئاسة الصينية الجديدة، والرئاسة الإيرانية وهى فى طريق الرحيل، وهناك إسرائيل تعيد سفارة لها- مؤخرا فقط- إلى أوغندا؟ فماذا توحى به هذه الاخبار؟ لا يرى الكاتب هنا أن ثمة ظواهر جديدة تماما، لكن الدول ذات التاريخ تبعث التأمل فى تواريخها. والعرب مثلا لا يملون للآن القول بتذكر مصر الناصرية فى أفريقيا، وذلك فقط عندما يحبون الاستفادة فى نغمة دعائية، أو التبشير بتحرك منقوص، لكن الكثيرين فى مناطق أخرى يحتفظون "بالذاكرة" لكى يدفعوا الجديد بالتأكيد..... فالصين مثلا لا تنسى حين يزور رئيسها تنزانيا ثم الكونغو الديمقراطية أن "الماوية" قد شهدت ازدهارها في الستينيات فى مدرسة دار السلام بتنزانيا ، ومدرسة "موليلى" اللومومبى فى شرقى الكونغو. وأنه من تنزانيا صرح "شواين لاى" فى منتصف الستينيات أن "رياح الثورة" وصلت أفريقيا ... ومن الكونغو ظلت "الثورة مستمرة" بأشكال مختلفة، ومن أثار "الماوية" الأفريقية كان زحف "موسيفينى" و"زيناوى" ، بل "وأفورقى" وفى تقديرى "جون جرنق" وأخيرا "كابيلا" على عواصمهم، وفق نموذج المسيرة العظمى "للزعيم ماو"... ولا نزعم هنا أن الصينيين الجدد حريصون بأى قدر على سيرة "الماوية" في ذاتها، لأنهم يتاجرون الآن فى البترول والبضائع الاستهلاكية قبل كل شئ. ولكنى أقول أن الأمم، بسرديتها الكبرى فى النهاية.. وبهذا التراث تتحرك الصين حتى فى مناطق النفوذ السوفيتية السابقة، فى جنوب أفريقيا وأنجولا، وإثيوبيا، واثقة من اقتصادياتها الكبيرة، ومن قوة تحول فى العالم نحو آسيا، راغية أن تصير فى مقدمة "الظاهرة الآسيوية" قبل أن تفعلها الهند أو اليابان أو غيرها....! الايرانيون بدورهم يذهبون إلى أرض "محروثة" سلفا ... ولا ننسى أن الحزب الاساسى فى زنجبار باسم "الأفرو شيرازى" إشارة إلى نازحى شيراز الإيرانية، وكانت "جمعية الرفاه الاسماعيلية" أكبر التنظيمات الأهلية فى شرقى أفريقيا، مع المستعمرين ومن تبعهم، كما كان أحد رؤساء جزر القمر أو الكومورو 2008 تلميذا لأحمد نجاد نفسه فى" القم" ، وكذا تنتشر الاباضية بين العمانيين و اليمنيين فى الاقليم كله... هذا إذا ارتضينا بالتحليل الدينى للسياسة وهذا غير مقبول أساسا لأن الكثير يمكن أن يقال أيضا عن قوة السنة الشافعية في شرقي القاره والمالكيه في غربيها !. ولن يفسر ذلك الكثير، والايرانيون يعلنون على لسان الرئيس الزائر للقارة مؤخرا أنهم "يحترمون" الأمم و استقلالها والمبادئ الإنسانية" أى يتجاوزون الاعتبارات المحلية هذه، ويريدون النفاذ للقارة فى ذاتها للخروج من مأزق الحصار والمقاطعة التى يحكمها الأمريكيون عليهم، بما يدفعهم للنفاذ حتى عن طريق غيرهم، وقد ارتفعت تجارتهم لذلك مع الصين نفسها- صاحبة التجارة الكبيرة مع أفريقيا- لتقفز من بضعة ملايين إلى سبعة عشر مليارا فى بضع سينين. وبسرعة يؤكد الإيرانيون خطواتهم فى غربى القارة مثل شرقيها بوسائل أخرى. فاللبنانيون فى غربى القارة من جنوب لبنان بالاساس بما لذلك من دلالة فى العلاقة بالتشيع هناك، ولكن اللبنانيين هم ملوك التجارة وليس "المذهبية" بالأساس،و التجارة هى لغة "العصر" عند الشيعة "والاسلاميين" على السواء! وإن كان الايرانيون لا يغفلون تطورا حداثيا ملفتا، وتساعد أعمال المقاطعة كل الدول التى تمت مقاطعتها على التطور الصناعى والانتاجى الملفت تلقائيا..! (مشروع صناعة السيارات الايراني فى الخرطوم لإنتاج 35 ألف سيارة فى السنوات القادمة يشير إلى بعض آثار المقاطعة!) ولم يخف الرئيس "نجاد" هدفا واضحا، فهو يزور "النيجر" مخزن اليورانيوم، وبنين وغانا؛ بل أن لهم سابقا مساعدات فى توليد الطاقة عبر مفاعل توليدها فى نيجيريا،و الرئيس نجاد رئيس حالى لكتلة عدم الانحياز، وكان رئيسا لمؤتمر القمة الإيرانية الأفريقية فى طهران عان 2010، ويستطيع أن يدعم تحركه ضد المقاطعة الأمريكية فى مناطق أنتاج اليورانيوم إن شئت أو مناطق النفوذ الفرنكفونى الدائم الغزل مع إيران، إن شئت اعتبارا آخرا! لا أريد الاستمرار فى المكايدة السياسية، ولكنى أرى استمرار القول أن كتلة العرب الاساسية الآن آسيوية! كما أن "إسرائيل" آسيوية! فهل يتأمل العرب الموقف بجدية، وعلى أساس اقتصادى أيضا مثل نظرة غيرهم للأمور، مع بعض الاحترام لمبدأ الاستقلالية؟ إن الكتلة الآسيوية الأقوى مثل مجموعة "بريكس" تفكر فى انشاء "صندوق" أو بنك للتنمية بمبلغ خمسين مليار دولار، فهل يصعب مثل ذلك على المنطقة العربية الاسيويه؟ لقد سبق للعرب فى فترة "البترودولار" فى السبعينيات أن خصصوا أكثر من ثلاثين مليارا لمعونة "التنمية" فى العالم الثالث تعويضا عن الزخم البترولى الذى صب فى خزانتهم، وابتلعت الشركات الأوربية كل هذا المبلغ! (باحث أمريكى صديق أثبت أنه كان لمؤسسة عربية واحدة نصف رأسمال شركة ضمن29 شركة عالمية حصرها بنفسه لاستثمار المال العربى!)! فهل ثمة فى بعض الدوائر العربية رأسماليون حقيقيون يفكرون هذه المرة بطريقة "آسيوية" وليست عربية مفرطة (بكسر الراء أو تشديدها إن شئتم!) من الممكن طبعا أن نفكر للمستقبل فى هذا الاتجاه.. (فقد يأتى على رأس كل عقد من يحب الاستثمار فى هذا المجال؟). لن أعرج على بقية الآسيويين مثل تركيا أو إسرائيل.. فقد نعود للحديث عنهما لاحقا.. وإن كانا قد استنفذا الحديث مرارا. ولكن فاجأنى خبر "إعادة" إسرائيل لسفارتها فى أوغندا" مؤخرا منذ إغلاقها فى السبعينيات! ومازلت أدهش للخبر إن صح... بعد كل ما كتبه المثقفون العرب عن "غزو إسرائيل لمنابع النيل" ! قلت للأصدقاء، ليس هذا نفيا لما نعتقد، ولكن دفعة فى ضرورة إعادة النظر لمنهجنا فى التحليل، يصدق هذا على إسرائيل وغيرها، فالظواهر ليست بسيطة فى وجود دبلوماسية أو صدور تصريح أو وجود خبير. أنها حول وجود إسرائيل فى مناطق النفوذ العالمية .. "الامبريالية" بالفعل... ويدفع ذلك لقبولها ونشاطها فى البنك وفي قلب "حماس"، وقلب مصر و قلب الممولين العرب في ان واحد.. ومن ثم لمنافذ النفوذ فى القارة وغيرها وأطرح الآن ثانية تأمل الظاهرة الآسيوية.. من كافة جوانبها.... hsharawy [[email protected]]