العربية لغة القرآن اهتم بها السلف أيما اهتمام، علموا صغارهم وأولادهم قواعدها وأسرارها، غريبها وأصولها وفنونها وأساليبها. فلا غرو في ذلك فهي لغة التنزيل اذ لا بد للدارس لهذا الكتاب من اجادتها ومعرفة أسرارها، لكي يتمكن من فهم ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه، هدى للمتقين، والهادي الى الصراط المستقيم. ولم تقصر خلاوى القرآن من خلال شيوخها وفقائها وعلمائها الذين وهبوا أنفسهم لدين الله وخدمة كتابه، حيث تولوا مهمة الا تنطفئ (نار القرآن) لتظل متقدة يهتدي بنورها كل طالب علم شرعي في جميع ربوع السودان. رجال نذروا جهدهم وطاقاتهم وملكاتهم ومهاراتهم وقدراتهم في سبيل نشر كتابه وتحفيظ قرآنه وشرح وتفسير آياته. أما الدور الكبير الذي لعبه الشيخ الكبير العلامة البروفسير عبد الله الطيب المجذوب بمصاحبة القارئ البارع الشيخ صديق أحمد حمدون، يرحمهما الله، فهو بدون شك يأتي في قمة وصدارة تلك الأعمال التي ساعدت على تفسير وتبسيط معاني ومفردات القرآن الكريم الى العامة بأسلوب (دارجي) حبيب خال من التعقيدات والعقد اللفظية والبلاغية، وقد بث ذلك العمل الكبير من خلال أثير موجات اذاعة {هنا ام درمان) الاذاعة القومية في برنامج (دراسات في القرآن الكريم)، الذي وجد رواجا واستحسانا كبيرا من كثير من قطاعات المجتمع آنذاك. ولقد كان تأثير البروفسير عبد الله الطيب كبيرا على نفوس مستمعيه بسبب أسلوبه الآخاذ في شد الانتباه وأسر الاسماع التي كانت (تصغي) اليه باهتمام وتشوق، وكان يستخدم في شرح الآيات وتبسيطها اللغة العامية الدارجية، التي كانت هي الآخري تتفاوت من منطقة الى منطقة حسب (اللهجة) أو (اللكنة) المحلية. وقد استمعت اليه وهو يقدم البرنامج آنف الذكر وهو يشرح قصص القرآن بأسلوب متفرد (تطرب) له الآذان وتتفاعل معه المشاعر ويأسر العقول والقلوب معا. وينقل لك تلك القصص وفصولها من متنها الأصلي (المستعصي) على العامة فهمه، و (يترجمها) الى لوحات وصور (سمعية) غاية في البساطة والسهولة. ولم يكن ابدا قد قصد من ذلك العمل التكسب من ورائه أو تحقيق غرض ذاتي، بل كان عمله ذلك خالصا لوجه الله تعالى وقد قصدته ذات مرة في مكتبه بكلية الآداب/جامعة الخرطوم، اذ أنني كنت لا أبرح الحرم الجامعي عند زيارتي (السنوية) له في كل اجازة لي أقصد فيها السودان دون أن يكون مكتب البروفسير {الذي كان من الأوائل الذين يحملون ذلك اللقب الأكاديمي المرموق أنذاك، والذي صار اليوم (سلعة) مطروحة في الأسواق وبأرخص الأسعار} ضمن المكاتب التي قد سجلت لها زيارة، وأذكر أنني فاتحته في تلك المرة بفكرة خطرت على بالي وأنا استمتع باحدى حلقات تفسيره للقرآن، وهي أن يتم طباعة جميع حلقات ذلك البرنامج في (أشرطة) مسموعة توطئة لتسويقها والاستفادة من محتوياتها، وقال لي بعد أن رحب بي في مكتبه المتواضع والابتسامة العريضة المألوفة عنده تكسو وجهه، والله الفكرة جميلة ومقبولة وقد تكلم الى وزير الثقافة والاعلام {ابان العهد المايوي} وقد وافقت على الفكرة. ولكن وللأسلف لم تنفذ الفكرة حتي يومنا هذا. لقد كنت أحلم وأنا في المرحلة الثانوية أن يحالفني الحظ وأشاهد الدكتور عبد الله الطيب وجها لوجه بعد أن (أدمنت) سماع صوته من خلال المذياع وأحيانا شاشة التلفاز، والحمد لله لم ينقض وقت طويل الا وقد حقق الله لي تلك الأمنية، حيث كنت وزميل لي (دون فخر) الطالبين الوحيدين المقبولين من مدرسة ودمدني الثانوية في كلية الآداب/جامعة الخرطوم، اذ كان البروفسير هو أول من نقابل من الأساتذة في جامعة الخرطوم بصفته عميد كلية الآداب حيث خاطب طلاب الدفعة الجدد المقبولين بالكلية في القاعة المعروفة ذائعة الصيت القاعة (102) التي كانت بمثابة المنبر العام، وكان ذلك الاجتماع هو أول لقاء لنا به كطلاب جدد جاء معظمهم من أقاليم السودان المختلفة ومن بيئات متنوعة، رحب فيه بالطلاب باسلوبه الممتع الشيق وأدائه الممتاز ورحابة صدره المعهودة وكان بمثابة الأب الموجه والمرشد الذي شرح لنا طرق الانخراط في (المسارات) الأكاديمية المتشعبة، وبين لنا الخطوط العريضة والاطار العام للدراسة وألقى الضوء على بعض النقاط الهامة المتعلقة بالدراسة والتحصيل الجامعي واختيار المواد وطرق التسجيل، وزودنا ببعض النصائح والتوجيهات والارشادات الأكاديمية الهامة، وتعتبر القاعة مركزا للاشعاع الثقافي حيث شهدت العديد من المحاضرات الأكاديمية وغير الأكاديمية لكبار الأساتذة والمحاضرين في ألوان وضروب الثقافة العامة. وقد كنا من المحظوظين أيضا اذ كان البروفسير عبد الله الطيب هو أحد المحاضرين القلائل المبدعين الذين حباهم الله بالعلم الوفير والتواضع الجم فكان رغم أعبائه الأكاديمة والادارية يحاضرنا في مادة الشعر العباسي في القاعة المذكورة التي كانت تغص بأعداد غفيرة من طلاب شتى كليات الجامعة وخارجها. ألا رحم الله الفقيد الأستاذ الأديب الأريب المفكر المبدع البروفسير عبد الله الطيب وأسكنه فسيح جنته مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن اؤلئك رفيقا. alrasheed ali [[email protected]]