الإعيسر: إعلان الإمارات دولة عدوان قرار ملبي لطموحات الجماهير وتطلعاتها لمواجهة العدوان    نص وفيديو بيان مجلس الأمن والدفاع السوداني " إعلان الإمارات دولة عدوان وقطع العلاقات الدبلوماسية"    الخارجية المصرية تجدد الرفض القاطع لاستهداف المنشآت المدنية في بورتسودان    اعتماد إجراءات أمنية وتنظيمية مشددة لإعادة افتتاح السوق المركزي بالخرطوم    هذه ليست حرب مليشيات .. هذه حرب مكتملة الأركان ومرتبة المراحل    والي الخرطوم يقف على على أعمال تأهيل محطتي مياه بحري و المقرن    ترمب: الحوثيون «استسلموا» والضربات الأميركية على اليمن ستتوقف    عادل الباز يكتب: المسيّرات… حرب السعودية ومصر!!    الأهلي كوستي يعلن دعمه الكامل لمريخ كوستي ممثل المدينة في التأهيلي    نائب رئيس نادي الهلال كوستي يفند الادعاءات الطيب حسن: نعمل بمؤسسية.. وقراراتنا جماعية    مجلس الإتحاد يناقش مشروع تجديد أرضية ملعب استاد حلفا    "أبل" تستأنف على قرار يلزمها بتغييرات جذرية في متجرها للتطبيقات    من هم هدافو دوري أبطال أوروبا في كل موسم منذ 1992-1993؟    كشف تفاصيل القصف على فندق مارينا في بورتسودان    ما هي "الخطة المستحيلة" لإيقاف لامين يامال؟ مدرب إنتر يوضح    أموال طائلة تحفز إنتر ميلان لإقصاء برشلونة    وزير الطاقة: استهداف مستودعات بورتسودان عمل إرهابي    شاهد بالصورة والفيديو.. وسط سخرية الجمهور.. خبيرة تجميل سودانية تكرم صاحبة المركز الأول في امتحانات الشهادة بجلسة "مكياج"    قرار حاسم بشأن شكوى السودان ضد الإمارات    شاهد بالفيديو.. أفراد من الدعم السريع بقيادة "لواء" يمارسون كرة القدم داخل استاد النهود بالزي الرسمي والأسلحة على ظهورهم والجمهور ينفجر بالضحكات    بعقد قصير.. رونالدو قد ينتقل إلى تشيلسي الإنجليزي    "فلاتر التجميل" في الهواتف.. أدوات قاتلة بين يديك    ما هي محظورات الحج للنساء؟    شاهد بالفيديو.. هدى عربي وحنان بلوبلو تشعلان حفل زواج إبنة "ترباس" بفواصل من الرقص المثير    شاهد بالصورة والفيديو.. بالزي القومي السوداني ومن فوقه "تشيرت" النادي.. مواطن سوداني يرقص فرحاً بفوز الأهلي السعودي بأبطال آسيا من المدرجات ويخطف الأضواء من المشجعين    توجيه عاجل من وزير الطاقة السوداني بشأن الكهرباء    وقف الرحلات بمطار بن غوريون في اسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ أطلق من اليمن    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسائلُ "مختار السردار" السرية .. بقلم: جمَال مُحمّد ابراهيْم
نشر في سودانيل يوم 17 - 06 - 2013


رسائلُ "مختار السردار" السرية *. .
جمَال مُحمّد ابراهيْم
[email protected]
لم تكن رسائل "مختار السردار" لصديقه "براون"، رسائل عادية. ما شدّ انتباهي هو تلك اللغة الإنجليزية الرصينة والصافية التي كُتبت بها الرسائل. سودانيٌ يخاطب صديقه البريطاني، وقد بعدتْ بينهما المسافات، بما لم يُتح لهما أن يلتقيا عبر كل هذه السنوات الطويلة، والتي فاقت الثلاثين أو أكثر من الأعوام، إلّا عبر وريقات تسافر بين الشتيتين، شمالاً وجنوباً . جنوباً وشمالا ، وفي هذه الصياغة اللغويّة الباهرة.
درسنا التاريخ من كتبٍ معروفة في المدارس وفي الجامعات . كتب بعضها انجليز مثل ب. م. هولت . ونجت ونيوبولد وآركل. شوّام مثل نعوم شقير وإدوارد عطية . بعضها كتبه سودانيون : مكي شبيكة . سعيد القدال . أبو سليم . محمد عمر بشير . زلفو . يوسف فضل. كثيرون كثيرون الذين كتبوا . ما كنت أفتقده في هذه المراجع الأكاديمية، هو تلك اللمسة الإنسانية في قصص التاريخ. ذلك الخيط الحميم الذي لا يراه من يرى التاريخ سلسلة من المواقف . حزمة من الرؤى. وجهات نظر تتضارب . قرارات تناقض بعضها بعضا. مواجهات بين طرف وطرف. صراعات تدور بين أعداء كانوا من قبل أصدقاء، حتى تنعطف مسارات التاريخ، ولكن دون أن تنكسر. حكوا لنا في التاريخ أن هذا وطنٌ سليبٌ قاوم بألويته الزرقاء والسوداء والبيضاء، مستعمراً جاء بلبوسِ الرّحمة والحداثة في الظاهر، ولكنّه أضمر الطغيان الغاشم والاستغلال الكولونيالي البغيض. كيف لي أن أفهم التاريخ بضميرٍ حيّ يتجاوز المثالب، لا بضمير مسلوب يحسبها مناقبا ، فيما لا تتيح لنا المآزق سانحة لالتقاط أنفاسنا، فنستخلص النظام الغائب من الفوضى المُحدقة. . ؟
غير أنّي قرأتُ في رسائل السّوداني "مختار السردار" لصديقه "براون"، ما شدّني إلى استكناه طبيعة الأمور في السنوات التي سبقت نيل البلاد استقلالها في 1956، وسنوات الحُكم الوطني الأولى. لم أجد تلك الحِدّة في التفاعل، بين شخصين رأيتهما على نقائض واختلافات. بدا لي كلٌ ما جاء من "السردار" ومن "براون" ، وبرغم أنهما محض شخصين عاديين، كأنه صادر عن ممثلين كبيرين على خشبة مسرح ابتناه كولونياليون دهاة .
اشتطاط القوم وحماسهم في مقارعة قوى الإستعمار، كان طاغياً ، بحيث لم تكن الألوان تلوح بوضوح. كنت أتذكّر ما قرأت عن الحركة الوطنية السودانية وتحوّلاتها، قبيل نيل البلاد استقلالها ، وما جاء عن بروز تيارٍ خافت الصّوت في الخرطوم، لكنه جهير الرؤى ، نادى بإلحاق البلاد بمجموعة بلدان "الكمونولث"، تلك التي استقلت عن بريطانيا ، ولكنها احتفظت بشعرةٍ مثل شعرة معاوية ، أو هيَ شعرة قصر "بكنجهام": إستقلال كامل، ولكن تظلّ السيادة معقودة بيدِ اليزابيث الثانية.
الذي لاحظته، أن الصّوت المنادي بالحفاظ على هذه الشعرة، لم يبرح مساحة خفوته ، ثم لم نسمع به من بعد، ولم يرصده كتّاب التاريخ من أهل البلد. فيما أنا أطالع رسائل "مختارالسردار"، خطر ببالي ما تصوّرته احتمالاً بعيداً ، وهو أنْ يكون " السّردار" من اتباع هذا التيار . قلّبت نظري في الرسائل من جديد . سعيتُ لأن أقرأ ما وراء سطور الرجل ، مقاصده ، آماله ، تطلعاته ، ولكن لا شيئ دلّني بوضوح على وجهة سياسية لوّنت كتابته . أكثر همومه كانت حول أحوال هيئة السكك الحديدية ، واسترساله في سرد نواقصها، وتدهور نظامها بعد رحيل الإنجليز. لمس السياسة لمساً خفيفاً في بعض رسائله، لكنه لم يفصح بما يشي بمواقف قاطعة فيها .
كتب "مختار" ، في رسالة من رسائله العديدة، التي بعث بها إلى صديقه البريطاني "براون"، في أواسط سنوات الخمسينات من القرن العشرين:
( . . وما كنت أودّ أن أزعجك بوصف الحال الذي نحن عليه في هيئة السكك الحديدية. لقد جاءت "السّودنة" بوبالٍ كبير إذ تبوأ مناصب كبيرة فيها، نفر من الإداريين الذين عرفوا بضعف القدرات، بل وبضعف الشخصية إن أردت الصراحة . ولأنّ ال"إس آر" عرفت بالإنضباط ، فقد جرى تحويل عددٍ معتبرٍ من كوادرها الكبار إلى هيئات حكومية أخرى. ذهب بعضهم إلى وزارة الحكومات المحلية . آخرون إلى "وكالة الشئون الخاصة"، وقد غيّروا إسمها قبيل إعلان الإستقلال إلى "وزارة الخارجية ". بعضهم تم تعيينه سفيراً على الفور . آخرون انتدبوا لوزارة الداخلية والحكومات المحلية . . هكذا خسرتْ الإدارة عناصرها الصلبة، وبقي الضعفاء في مراكز قوّة . . ! بقي قليل من المقتدرين، وهم نفر قليل، يحاولون أن لا تفلت الأمور من سياقها المعتاد . ذلك السياق الذي ورثناه عنكم . . . .)
هذا كلامُ رجلٍ له نظرٌ عميقٌ في الذي يقع من حوله. لكن لا يخفي الرجلُ تعلقه بأساليب العمل التي رسّخ قواعدها بريطانيون، جاءت بهم حكومة "الحاكم العام" ذلك الذي عينته وزارة المستعمرات من لندن، واعتمده ملك في مصر ناقص النفوذ . يدهشني كلام مهنيّ صافٍ يصدر عن الرجل، فيما تمور الساحة في البلاد بتيارات حماسيّة ، ألهبت المشاعر بعد جلاء الانجليز . سألتُ نفسي : أليس في هذا الوفاء لصديقٍ انجليزي بعيد، ما يشي بميولٍ خفية تتودّد للإنجليز ، وإمّا جرى الإفصاح عنها، فقد تودي بصاحبها إلى تهلكة وخسران كبير. . ؟
كتبَ "السردار" في رسالة أخرى :
(. . . لقد افتقدت ما كنت تزوّدني به من مجلات وصحفٍ انجليزية وكُتُبٍ من سلسلة "بنجوين" المعروفة. كثيراً ما كنت أمرّ على "سودان بوكشُب"، مكتبة السودان ، فأجد فيها ما يسدّ حاجتي ، ولكنك تعرف الحال الذي نحن عليه بعد رحيل الإدارة البريطانية، خاصة في مجال الثقافة والتعليم. كل شيء ثمنه غالٍ حتى معينات التثاقف من كتب وصحف ومجلات . أما "دار الثقافة" ، فقد طال عهدي بها . كل شيء آخذ إلى تحوّل كبير . نحاول أن نفتح صفحة جديدة كبلد مستقل . لكن التباس علاقات السودان مع مصر، يكاد يشِلّ حراكنا السياسي والاجتماعي والثقافي في البلاد . . )
لم تعجبني بعض نصوص رسائل "مختار" لصديقه القديم "براون" ، بسبب اللغة المتحذلقة التي كتبت بها، وكأنّ كاتبها يريد أن يستعرض مقدرته في الكتابة بالانجليزية . ثم هالني الأسلوب الذي اتّسمَ بتعالٍ لافت، استهجنت صدوره عن سوداني . في تلك السنوات التي لم نشارك بحضورها ، ولا متابعتها، إلّا ممّا قرأنا في كتب التاريخ ، كانت الحركةُ الوطنية في أوجها، ولم تكن ثمّة تيارات تتعاطف علانيةً مع مصر، ناهيك عن التماهي مع المستعمر البريطاني . سودانيٌّ وطنيٌّ يُراسل إدارياً إنجليزياً كان في خدمة حكومة الاستعمار، لا تعكس خطاباته غير إعجابٍ وافتخار كبيرين بالرّجل الانجليزي، هكذا دون أن يراجعه ضميره فيوقظ مشاعر الوطنية النائمة في دواخله، لأمر يثير الريَبِ والشكوك. . أم أنّ ثمة منطق يفسر هذه المشاعر الطيبة تجاه رمز من رموز الاستعمار ، كبر وزنه أم قلّ. . ؟
من بين كثيرٍ من الألقاب التي كان من المتوقع أن يطلقها عليه أقرانه في إدارة السكك الحديدية، اختاروا له لقب "السّردار" ! مَن اطلقه على "مختار"، فقد لمسَ في الرجل شعوراً متماهياً مع الإنجليز الحاكمين، بان جليّاً في مظهره ربما، أو في مسلكه، أو ربما عبّر به بلسانٍ فصيح. . لم يكن "مختار السردار"، على جبنٍ، فيداري مواقفه التي تباينتْ مع مواقف الكثيرين من أبناء جيله في سنوات الخمسينات من القرن العشرين.
كتابة "مختار" ليست من قبيل كتابات الحنين والنوستالجيا الكولونيالية فحسب، بل هي الاستغراق المخيف في التماهي معه. قرأتُ في رسالة من رسائل الخمسينيات، كتبها لصديقه البريطاني "براون" ما يلي :
(. . سيد "براون" ، أقول لك صادقاً: إنّي كفرت بمن يديرون شأن البلاد عندنا. مع ما ألاحظ وأتابع من انحدار أحوالنا ، فإني أحتفظ بأفكاري لنفسي. لا يعجبني الكثير، ولم أنخرط في أيّ من الأحزاب السودانية القائمة. لا أناقش أحداً من معارفي في هذه الأفكار، فقد يرتاب من لا أعرفه فيوقعني فيما لا تُحمد عقباه . الحذر مطلوب ولكن الصّدق مع النفس أجدَى وأكرم. . هل تصدّق أن وشايةً أوقعت جاراً لي في مشكلة مع الشرطة السّريّة ؟ لقد وشوا به لأنه ظلّ يعتمر قبعة انجليزية، ويلتزم بلباس البدلة كاملاً وبربطة العنق . لا يسهر إلا في "صالة غوردون الموسيقية" التي تعرف، ولايدخل إلّا المطاعم التي كان يرتادها الإنجليز قبل رحيلهم . صار إمساكك بالشوكة والسكين مدعاة لجرّك إلى معتقلات الأمن، صدّق أو لا تصدق . . ! أنا شخصياً لن أخلع قبعتي الإنجليزية التي رأيتني معتمرها، منذ أيامنا البعيدة في "كسلا" ، وفي عطبرة كما في الخرطوم. لكن من يدري ، قد يفاجؤني واشٍ ذات يومٍ فيدفع بي إلى غياهب السّجون . . ! )
يا لغرائب الصدف . . !
جاءني الرّجل الإنجليزي العجوز ليقترح عليّ مساعدة جمعية "كيتشنر"، لتستعير بارجة اللورد القديم المهملة في الخرطوم، فإذا أنا أمام قصة صديقه الضائع في السودان، كاتب الرسائل المشوّقة والمثيرة. حين التقيته في قلب عاصمة الضباب ، أرادني أن أتحرّى عن مكان صديقه صاحب اللقب المريب : "السردار" ، فسحرتني في الإبّان، حفيدته الجميلة وأسرتْ لبّي، بذات القدر الذي أسرتني به رسائل ذلك السوداني الغامض : "مختار السردار". .
فتحتُ رسالة أخرى من رسائله، أجتزيء منها ما يلي :
( . . قتلوا أسراً كاملة في الجنوب ، في مدينة إسمها "توريت"، وقبل أشهر قليلة من إعلان الاستقلال من منبر البرلمان . لكأنّ أبناء الشمال- وهم تجّار ومقيمون منذ عقودٍ طويلة- كانوا من أشاعوا تجارة الرقيق هناك ! لقد أفسد الحكم البريطاني باتباع سياسة إقفال المناطق الجنوبية، خيط الودّ الذي كان من الممكن أن يحفظ البلد من القتل والنزاعات. هل كان التفكير حقيقة يسير باتجاه إلحاق جنوب السّودان بدولة يوغندا . . ؟ هذا ما سمعته من بعض الناس، وبعض ما كتبت صحفنا هنا . وحقيقة لا أعرف مبرراً لفشل الإدارة البريطانية، والتي استفردت بحكم السودان فعلياً لأكثر من خمسة عقود، في تمييع تلك الاختلافات وذلك التباين بين الشمال والجنوب. أما كان ممكناً تسوية الأمور مع الحركة الوطنية المتحمّسة لنيل الإستقلال ، إستبطاءه لفترة تتيح ما يساعد على إذابة التباينات والاختلافات بين الشمال والجنوب ؟ ألا ترى عجلة في تسيير الأمور عندنا ؟ قليلون هم الذين انزعجوا مما وقع في "توريت" وأدركوا خطورته . . )
هذا مقتطف مثير مما كتب العجوز "السّردار" لصديقه الانجليزي "براون". أعجبتني جرأة الرجل في مخاطبة صديقه "براون". بالطبع لم يكن "براون" من متخذي القرار، أو من المؤثرين في الإدارة الاستعمارية في البلاد في ذلك الزمان، لكنّي اقرأ ما في الرسائل من أمورٍ حساسة، بعينٍ محايدة ، باعتبارها فضفضة بينَ رجالٍ من هنا ومن هناك ، مشوا على الجمر ذات يوم ، وساءهم أن يصل الحال إلى ما هو عليه من قتالٍ ومن تنازع . نظرت في تاريخ الرسالة وعرفت أنها تتناول أوضاع البلاد عشية الإستقلال في عام 1956 . لاحظت هنا كيف يمسّ "السردار" أمور السياسة مسّاً لا يجرّم كاتبه بأيّ حال . .
تثيرني رسائل "السّردار" كلّما تصفحت رسالة بعد أخرى، لما وجدتُ بين طيّاتها من متعة حقيقية ، وعمق في عرض الأحوال . تحسّرتُ إذ لا أجد طريقاً لرسائل "براون" لصديقه "السردار" ، فهي التي تكمل فراغات الصورة، فتتضح ملامحها وأبعادها.
كتب في رسالة من رسائله الأخيرة في ستينات القرن العشرين :
( تدهورَ الحالُ في السكك الحديدية بسبب التمرّد في جنوب السودان . امتدّ خط القطارات إلى مدينة "بابنوسة"، ولكن ما زال العمل في المديريات الجنوبية يحمل من المخاطر ما يخيف . البواخر هي الوسيلة الوحيدة المتاحة بأمانٍ للجنوب. مدينة "كوستي" التي تعرف ، وقد كانت مدينة صغيرة على عهدك ، هي الآن مدينة وميناء نهري تتسع خدماته كل يوم. لكن حال القطارات يحتاج إلى التفاتة، وللأسف لا يعير السياسيّون السكك الحديدية انتباها . لو فعلوا لحفظوا الّلحمة والصّلات التي تبقي البلاد كياناً واحدا ، وتزيد من التواصل بين القبائل والطوائف والتيارات السياسية ، إذ نحن في اختلافات اجتماعية وسياسية وقبلية واقتصادية، تفرّق ولا تجمع . .)
أثارت هذه الرسالة شجناً لديّ. لكم أعجبتني مسرحية للكاتب عبد الله علي ابراهيم ، هذا الأكاديمي العطبراوي العتيد، وأنا من المعجبين بكتاباته الأولى خاصةً، تلك التي عنوانها : "السكة حديد قرّبت المسافات". لكأنّ الأستاذ عبد الله ابراهيم قد استعار الفكرة وطوّرها، مما ورد في رسالة "السردار" هذي . . !
كانت الرسائل كنزاً خلبَ لبّي . نظرتُ في رسائل أخر تناول فيها "مختار السّردار" تفاصيل غريبة عن أحوال أسرته . كتب لصديقه "براون" وكأنه يشكو له :
( للأسف يا صديق ، أنكرني في خريف عمري أخواي ، وسافر كلّ واحدٍ منهما إلى بلد ولم يعودا يسألان عن حالنا في الخرطوم . الهجرة إلى السعودية وإلى بلدان الخليج التي استقلت حديثا ، صارت ظاهرة متنامية ، وهذه بلدان تحتاج لبناء هياكلها وأسس تنميتها، ولنا في السودان مهارات وخبرات، وحكوماتنا طاردة كما قد تعلم. أحسّ أنهما خذلا ذكرى والدي "حاج الزين" . كان أبي سلطوياً طاغياً ولم يدعني أكمل تعليمي واضطرّني للتوظيف مبكراً، حتى أوفر تكلفة تعليم أخوي . ما كان لي أن أجادل والدي وقتذاك . قبلت بالتضحية ، ولكن ها أنذا وحيداً في شيخوختي، إلا من رفقة "يوسف" إبني الذي أجبرته للبقاء معي . حتى "يوسف" قبل ذلك على مضض. كل يوم يأتني بحجة ، وبأنّه ضاق ذرعاً بالبلد ولم يعد يتحمّل متاعب المعيشة . في الحقيقة لم يكن هو يعرف أنّي على علم بخلفية نشاطاته السياسية التي يخفيها عنّي . لا أريد أن أفصّل لك في هذا الخطاب ولكن عسى أن تجمعنا الأيام من جديد . . من يدري . . ؟ )
"السّردار" رجل نابه ، وإنْ تطرق لموضوعات سياسية حساسة، لكنه يحرص أن لا يلقي بكلامٍ في رسائله، يسبب له حرجاً أو لغيره متاعب. نظرت في تاريخ هذه الرسالة : يوليو 1972. هذا تاريخ يوافق الفترة التي كان الجنرال نميري يوطّد أسس وأركان حكمه، بعد أن أطاح في مايو 1969 بالحكومة المنتخبة ، وقلب الطاولة على السياسيين الوطنيين وفيهم رموز كبيرة ، مثل الزعيم الكبير إسماعيل الأزهري. هل كان من المتاح "للسّردار" أن يتناول بفصيح العبارة، أحوال البلد والظروف العامة التي دفعت بشقيقيه إلى الهجرة الطويلة إلى بلدان الخليج..؟
أما الرسالة المميّزة التي وقفتُ عندها طويلاً ، فقد آثرتُ أن أتركها لاطلاعكم ، فصلاً جديداً قائماً بحاله . .
* فصل من رواية"حان أوان الرحيل " - الدار العربية للعلوم- بيروت 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.