مرت علينا منذ نحو شهرين من الآن، الذكرى العاشرة لرحيل أستاذ الأجيال العلامة بروفيسور عبد الله الطيب رحمه الله ، الذي كان قد انتقل إلى جوار ربه في شهر يونيو من عام 2003م. لقد لفتت هذه الذكرى الانتباه لسيرة هذا العالم الاستثنائي بكثافة ملحوظة تستحقها بكل تأكيد، كما نبهت إلى ضرورة إعادة قراءة مجمل تراثه العلمي والفكري والأدبي ، فطفقت سائر المؤسسات الثقافية والأكاديمية والإعلامية ، وخصوصاً داخل السودان ، تفرد مساحات معتبرة لاستعراض جوانب مشرقة من سيرته الوضيئة ، وتركته الباذخة ، عرفاناً بما قدم لهذا الوطن العزيز واهذه الأمة المجيدة بأسرها. وقد حز في نفسي أنا خاصةً ألا أتمكن من المشاركة بنشر مادة ما بتلك المناسبة في حينها ، وذلك نسبة لتزامنها مع خواتيم فترة عملي بالخارج ، وانشغالي الشديد تبعاً لذلك ، وبطبيعة الحال ، بالعديد من الأعمال الرسمية والمتطلبات الحتمية الأخرى التي كان يتعين علي الوفاء بها واستكمالها على المستويين المهني والشخصي ، قبل قفولي راجعاً إلى السودان. على أنني قد ظللتُ أتابع بالرغم من ذلك ، جانباً كبيراً من مظاهر الاهتمام بمرور الذكرى العاشرة على رحيل البروف ، والتي لعل من أبرزها تلك الاحتفالية الضخمة التي رعتها شركة (زين – السودان) للهاتف السيار بالتضامن مع شركاء آخرين في هذا الخصوص. فنعم الإمكانيات الصالحة للمؤسسة الصالحة. وحسبي أن أسهم من خلال هذه الكلمة الموجزة ، بسوْق بعض الأمثلة التي تدلل على أن الراحل المقيم الدكتور عبد الله الطيب قد كان عالماً وظف علمه لخدمة المجتمع السوداني ، بينما كان المجتمع السوداني بدوره ، وبمختلف فئاته وطبقاته على وعي تام بمكانة ذلك العالم المتفرد في مجال تخصصه ، وبرسوخ قدمه ، وعلو كعبه ، وخاصةً في مجال اللغة ، لدرجة أوشك أن يتحول معها عبد الله الطيب إلى شخصية شبه أسطورية ، ينسج الناس حولها وحول علمها وآرائها اللغوية بصفة خاصة ، النوادر والملح والحكايات المختلقة عموما. أول هذه الأمثلة ، وهذه هي – بالمناسبة - وقائع حقيقية وموثقة وغير مختلقة ، تتعلق برأي لغوي طُلبتْ فيه الفتوى من العلامة عبد الله الطيب من اجتماع لمجلس الوزاء ذاته في عهد الرئيس الراحل: جعفر نميري ، وذلك عندما اختلف أعضاء المجلس في التوصيف اللغوي الدقيق لعملية توزيع أنصبة المساهمين أو الشركاء من الإيرادات المالية المتحصلة من مداخيل بعض مشاريع التنمية ، أو المقابل الصحيح لمصطلح Distribution of revenues ، فأفتاهم البروف رحمه الله بأن المصطلح العربي الصحيح في هذا السياق بالذات هو: " قسمة الموارد " ، لأن مصطلح قسمة لا يفيد تساوي الأنصبة بل تفاوتها بحسب عدد الأسهم. واحتج عبد الله الطيب لتأييد رأيه بقوله تعالى في سورة النساء ، الآية رقم 8: " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين ، فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفا ". وهذه الآية الكريمة هي في بيان المواريث ، وهذه لا تكون متساوية كما هو معروف ، وإنما هي أنصبة مفروضة ومحددة بنسب معينة. أما المثال الثاني ، فقد وقفتُ عليه في ذات يوم ، من خلال لقاء تلفزيوني أُجري قبل بضع سنوات مع المطرب الكبير الأستاذ " صلاح مصطفى " الذي حكى في ذلك اللقاء أن لجنة النصوص بالإذاعة قد اعترضت ذات مرة على لفظة " إحساسة " من نص أغنية يؤديها صلاح مصطفى نفسه، من كلمات الشاعر الرقيق: " محجوب سراج " ، وجاء فيها قوله: كل إحساسة في ضميري بتقول أحبك واحتدم الجدل بين الشاعر والفنان من جهة ، وبين بعض أعضاء لجنة النصوص ، وداخل عضوية اللجنة نفسها من جهة أخرى حول فصاحة كلمة "إحساسة" هذه. ولما لم يصلوا إلى القول الفصل بشأنها ، اتفقوا في نهاية المطاف على الاحتكام إلى الدكتور عبد الله الطيب. وبالفعل اتصلوا بالبروف في مكتبه بالجامعة عن طريق الهاتف ، فأفتاهم بصواب قول محجوب سراج: كل إحساسة في ضميري بتقول أحبك .... صدقيني ... ترا را را .... صدقيني .. ترا را را....... ومن أشهر آراء عبد الله الطيب اللغوية التي أصابت قدراً من معتبراً من الشعبية والذيوع ، على الأقل بين أوساط المتعلمين في السودان ، تخطأته لاسم تلك المؤسسة العلمية والبحثية التابعة لجامعة الدول العربية ، والتي تتخذ من الخرطوم مقراً لها: " معهد الخرطوم الدولي للغة العربية لغير الناطقين بها " ، والذي قال إنه ينبغي أن يكون اسمه هو: " معهد الخرطوم الدولي للغة العربية للناطقين بغيرها ". وقد كان البروف يرى أن كل الحيوانات والجمادات مثلاً غير ناطقة بالعربية ، وليس ذلك المعهد بمخصص لها بالطبع. وذلك الرأي من البروف هو كما ترى ، أدخل قي باب صياغة المقولات أو العبارات اللغوية وعلاقتها بعلم المنطق والحجاج الفلسفي عموما. كذلك خطأ عبد الله الطيب من حيث صحة المتن ، وليس من حيث اللغة هذه المرة ، الصيغة الشائعة خطأ للدعاء الذي يُقال عقب رفع الأذان: " اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت سيدنا محمداً الوسيلة والفضيلة ، والدرجة العالية الرفيعة ، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته ، إنك لا تُخلف الميعاد. " ، ونادى بالتمسك بالصيغة التي ودت في حديث جابر بن عبد الله (رض) ونصها: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمداً الوسيلة والفضيلة ، والدرجة الرفيعة ، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ، حلت له شفاعتي يوم القيامة. ". والفرق بين هاتين الصيغتين كما هو واضح أن " مقاماً محموداً " قد جاءت في الأخيرة على التنكير وليس على العهد والتعريف ، فضلاً عن أنها قد حرصت على الاحتفاظ ابللفظ القرءاني بلا أي تبديل ، وهو قوله تعالى: " عسى ان يبعثك ربك مقاماً محمودا " الآية. وكذلك تخلو الصيغة التي يدعو البروف إلى التقيد بها من عبارة: " إنك لاتخلف الميعاد ". ألا رحم الله علامة السودان ، وصناجة العرب ، عبد الله الطيب ، وأجزل ثوابه ، ونفعنا بعلمه ، آمين.