لماذا أشهر القنصل المصري أحمد رجب المسدس في وجهي؟ الرسالة التي لم تستمع إليها القاهرة: أي تأييد رخيص سوف يكلف مصر كثيرا مستقبلا إدريس حسن أول من قال ان الانقلاب استعمل مذكرة الجيش الفريق يوسف: هيئة القيادة غير متواطئة مع الانقلابيين بقلم: د. عصام محجوب الماحي [email protected] حوالي الساعة السابعة صباح يوم الجمعة 30 يونيو 89 أيقظني الوالد محجوب الماحي وكنت قد انتقلت متأبطا لحافي من سرير في "الحوش" ووضعته على أخر قابع تحت حائط شرقي، بحثا عن أخر ظِل يمكن ان أنتقل إليه قبل أن تغطي الشمس كل مساحة "الحوش"، فتنتهي عادة حمل اللحاف و"المساسقة" به من ظِل لأخر، أو ترك ما تبقى من نعاس والاستعداد للخروج من منزل لا أدري متى ستكون العودة إليه. كنت، مُذْ عُدت من الدراسة الجامعية في رومانيا عام 1982؛ "محل ما أمسى أرسى"، دون ان اح........ لا تفرك عينيك بظن انك سبق وطالعت ما تقرأ، ولا تتصل بصديق لتتأكد منه، ولا تنتقد القائمين على إخراج وتصميم هذه الصحيفة ثم "تتريق" عليهم وتنتهي باتهامهم بالسهو وتلصق بهم دمغة "سلق البيض"؛ وأخيرا، لا تذهب أبعد من ذلك ليصلني طرف السوط وتلوكني كالعلكة وسط أصحابك فلا يكون لك حديثا غير انه ليس لدي ما أرويه وأكرر نفس ما أكتبه. لا تفعل كل ذلك فتقع في المحظور مكرر ومثلث ومربع بل و "n" مَرَّة، بعد ان قرأت الفقرة السابقة معتبرا انك طالعتها في بداية حلقة يوم الاثنين الماضي. أي نعم، هي ذات الكلمات التي وردت في بداية الحلقة السابق مع تعديل طفيف ربما لا تلاحظه أو تلتقطه من أول وهلة. انه تاريخ يوم المشهد الذي اكتب بصدده اليوم والذي يختلف عما كتبت عنه الاسبوع الماضي، ولكنه تعديل كبير في أحداث المشهدين ونتائجهما. في المشهد السابق أيقظني والدي حوالي الساعة السابعة صباح يوم 25 يناير 89 لأذهب إلى الشيخ الترابي ملبيا استدعائه، فذهبت ولم أخرج من منزله إلا بتأكيد منه ان الجبهة الإسلامية القومية لن "تقوم" بانقلاب عسكري، و"ستقعد" في "مواعينها" لتستفيد من الديمقراطية التي منحتها الكثير؛ فيما بقيت قناعتي صامدة بان الزمن وحده كفيل بأن يؤكد او ينفي قراءتي بشأن "شيوخ الجبهة يحبذون بعض السُلطة اليوم وشبابها يريدون كل السُلطة غدا". وكنت قد قلت للترابي: حديثي مع الأستاذ علي عثمان وفر لي قناعة لا يستطيع زحزحتها إلاَّ الزمن وقد يكون تبقى منه القليل، والتطورات وحدها التي ستخيب قراءتي وعندها لن أخلع القبعة لتأكيد الاحترام والتجلة فقط، وانما سأعمل على تغيير الميزان الذي استعمله فقد أصيب بعطب بَيِّن دون إرادتي وكذا كل أدوات القياس التي لجأت إليها حتى تاريخه. وفي هذه المرة، أيقظني والدي حوالي الساعة السابعة صباح يوم 30 يونيو 89 ليقول لِيَّ: "النايم ليها شنو قوم" البلد انقلبت. لم يكتف بذلك ولكنه أردف آمراً: أصْحَّ و"أمشي شوف" السيد محمد عثمان الميرغني "وين".. وخليك قريب "جنبو" وما تفارقوا ولو "دخلوهو" السجن لازم عليك تتابع "حالتو".. المسألة ما سفر وطلعة ونزلة وبس.. معادن الرجال بتظهر في "الوكت دا.. ودايرك" تكون "قدر" المقام. قال والدي كلمته وذهب. ذهب ليتركني لا لينازعني موقفين ولا لأتبندل بين حالتين، وانما ليقول كلمته ويرتاح ضميره بانه قد وضع أمامي ما كان سيقوم به، أو هكذا قدرت الموقف حينها. فورا نهضت، وفي اقل زمن لم احسبه، كنت منطلقا بالسيارة خارجا من المنزل، فلم أتوجه لمنزل الترابي الذي بينه وبين منزلنا فركة كعب، وانما لمنزل الأستاذ علي عثمان محمد طه. لماذا؟ حقا من غير ليه. في طريقي مررت بمنزل السيد محمد الحسن عبد الله يسن. الباب الذي لم أكن أجده مغلقا في أية ساعة من ساعات اليوم، وجدته مغلقا، ولم أجد من يرد على إلحاحي، أو لم يَرِدْ أحد ان يَرُدَّ عَليَّ، فانطلقت قائلا: ليس لدي ما أبحث عنه عند يسن أو في منزل محمد الحسن. ثوانٍ قليلة وكنت أقف أمام ذات المنزل الذي جلست بداخله أربعة ساعات مَرَّت سريعا، قبل نصف عام تقريبا. منزل الأستاذ علي عثمان محمد طه الذي لم يعد له منزل منذ ذلك الصباح وحتى اليوم، وانما مقر إقامة. طرقت الباب حتى كَلَّ متني، فلمَّا كَلَّ متني، كَلَّ متني ثانية وثالثة حتى وجعتني كل يدي وليس متني فقط. كنت مستعدا لفعل كل المحظور حتى قفز الحائط لا لدخول الحوش فحسب وانما فتح أبواب الغرف نفسها، دون ان أفكر عن ماذا ابحث في الحقيقة. عندما هممت بذلك، سمعت صوتا يقول: مين؟ أجبت: أنا. من انت؟ جاءني الرد فيما أطل ذات الخفير الذي رأيته في وقت مُتأخر من تلك الليلية منتصف يناير 89. لم ينتظر ان أسأله وقال بالمختصر المفيد في نظره طبعا: "مافي" زول في البيت ده. محاولا كسبه وتجسير حميمية بيننا، قلت بصوت يسعى لبث تأكيدات وطمأنينة وليس سؤالا: ما عرفتني. وأضفت: باين عليك... قلت ليك "مافي"زول هنا. قالها بحسم، متغابيا معرفتي، وربما حقيقة لم يتذكرني وكيف يتذكرني وقد لمحني لثوان عندما فسحت له الطريق ليغسل يديه قبلي ليتناول عشائه في تلك الليلة من شتاء يناير89. حاول العودة إلى حيث أتى، فعاجلته: آآآي عارف أستاذ علي "مافي" انا "داير"، الحقيقة أنا جاي لأولاده قووول للسيدة..... ما قلت ليك "مافي" زول في البيت. قاطعني واستدار فخلته يضيف في سره: "انت ماك بتفهم؟ غيرت لهجة الاستعطاف وقلت: كيف "مافي".. وين مشوا؟ أنا أمبارح.... توقف بعد الخطوة الواحدة التي خطاها للداخل، وقال: سااااافروا.. مساااافرين. قلت عائدا للهجة قد تدفعه لإطالة الحديث معي: معقول.. بتين.. أنا كنت قايل.... بحسم عاجلني بعد ان استدار ثانية لناحيتي مقتربا مني أكثر، وقال واضعا تَكْشيرة على وجهه اضطربت حقيقة منها: أُمبارح "زاتا". بادرته: لكن يا عمنا..... مَد الرجل رقبته حتى كاد ان يخرجها في الشارع بينما بقية جسده في الداخل، ونظر لسيارتي ويبدو انه حاول التدقيق لمعرفة رقم لوحتها، ثم قال: لا عمنا لا حاجة.. أنا قلت ليك مافي زوووول في البيت دا، داير تمشي وتخلينا نشوف حالنا واللا عندك كلام تاني. بات الأمر محسوما، وليس لدي أية فرصة لِمَطِ الحديث، فقلت متراجعا: معليش يا حاج أنا أسف للإزعاج.. شكرا على كل حال. توجهت إلى السيارة، وبدأت أدَوِّر المشهد في رأسي وأفكر؛ هل الخفير خفير حقا، ام شخص مدرب حقيقة؟ هل الجماعة بما فيهم صديقي علي عثمان في المنزل؟ هل الخفير صادق وكل أهل البيت غير موجودين أم ان الأستاذ علي عثمان هو الوحيد غير موجود؟ أين ذهبوا، وأين ذهب علي؟ هل سافروا، كما قال الخفير، ومتى؟ أحقا سافروا أم غادروا المنزل إلى جهة أخرى ليس هناك أملا ان تصبح معلومة لدي؟ وهل غادروا بالفعل أمس أم قبل ذلك بأيام؟ انطلقت إلى الأمام غربا وتركت المنزل الذي يفتح بابه الخارجي جنوبا، حاملا معي حزمة علامات استفهام تلد الواحدة أخرى من ذات احتمالات الإجابة وهكذا. أكثر ما عنفت نفسي عليه لاحقا هو انني لم أعد لذات المنزل مرة ثانية بعد ذلك اليوم، خلال الثلاثة أشهر ونصف التي قضيتها في السودان حتى مغادرتي في خروج لمدة عشرة أعوام وثلاثة أشهر. لقد أخذت المسألة من الأخر: علي عثمان فص ملح و.. داب. توجهت مباشرة إلى الخرطوم 2 قاصدا منزل السيد محمد عثمان الميرغني فلم احصل على إجابة حول أين مولانا؟ لم يقل لي من التقيته انه اعتقل او لم يُعتقل. وفي منزل صديقي سيد احمد الحسين الذي كان محطتي الثالثة، ذات الحالة التي لا تجيب على سؤال. لم أفكر كثيرا، أدرت السيارة متوجها إلى حيث يجب ان اذهب، فليس هنالك مكانا احصل فيه على بعض أجوبة ومعلومة واحدة على الأقل، إلاَّ الذي التقي فيه بالفريق يوسف احمد يوسف، وأين سأجده في تلك الساعة سوى في منزله بالخرطوم 1 بالقرب من شارع افريقيا. بدأت اجمع في أفكاري من جديد.. أه، لم أفكر جيدا؛ أين إدريس حسن؟ يجب ان أذهب إليه في منزله؛ قد أجده هناك، وفي طريقي أستطيع ان أمر بمنزل صديقه الرائد معاش أحمد موسى الخير بالقرب من مقابر فاروق، فقلت مخاطبا نفسي: إلى إدريس إذا لم أجد يوسف. كان ذلك قراري وخريطة طريقي التي رسمتها بعد ان تُهت بين منازل لم تقدم سوى مزيد من علامات الاستفهام ولم تسعفني بأية بارقة معلومة تَفِكّ حيرتي. أدرت السيارة واتجهت شرقا وعندما أردت الدخول شمالا في الشارع الرئيس كانت سيارة الأستاذ إدريس حسن في سبيلها لتدخل ذات الشارع الذي أوشكت الخروج منه، فتوقفنا ولم نتحدث كثيرا بعد ان قدمت إليه ما لدي من معلومات غير مفيدة في تقديري ولكنني تبرعت بها ولم أسأله وخمنت انه قادم من صديقه أحمد موسى الخير فارتفع سقف أملي بان يسلمني طرف أول خيط قد يكون أمسك به. تطابقت وجهتانا حيث كانت خريطة طريقه ذات خريطة طريقي؛ البحث عن الفريق يوسف، فتقدمني بسيارته وأنا أكثر اطمئنانا بان سبيلي لمعلومات صحيحة، غير مضروبة، قد انفتح. دلفنا إلى داخل المنزل وإدريس يقول للفريق يوسف قبل ان يسمع منه: ليس انقلاب المذكرة ولكنه استعمل المذكرة. أهاااا.. انه بالفعل انقلاب في كل الأشياء؛ إدريس الذي لا يقدم معلومة أبدا يبدأ حديثه بمعلومة وليس بسؤال؟ تساءلت في صمت محاولا ان لا تشغلني كثيرا المفاجأة التي بالفعل بدأت تقلب المعادلات التي تعودت عليها؛ ألسنا في يوم قُلِبَتْ فيه كل السلطة فما بالك بمعادلة؟ أخذت الحقيقة من تلك الجملة القصيرة وبدأت أبني عليها. ثقتي في معلومات إدريس قاطعة. قدم إلينا الفريق يوسف شاي الصباح وطلب إعداد إفطار لثلاثتنا، وكشف لنا انه في انتظار عودة من أرسله لداخل القيادة العامة. لحظتها ركزت على ملامح إدريس فوجدته ينظر إلي، فارتخت أجسادنا التي كانت ترتجف من التوتر، على المقاعد الوثيرة في انتظار الإفطار وعودة المرسال، أيهما يسبق الأخر. تأخرت عودة المرسال، أو هكذا ظننا، فساورنا قلق لم يبدده الجلوس على مائدة إفطار جرى إعداده على عجل؛ فول وجبن ابيض وزبادي وبيض مسلوق. هل التوتر والقلق لا يحتاج لشهية مفتوحة للإفراط في تناول الطعام؟ أنصحك بعدم الجلوس على مائدة طعام في ظل توتر وقلق يحيط او يمسك بك. حكي كل منهما عن ليلة الخميس، وأجزم ان الكثير من الناس فعلوا ذات الشيء صباح تلك الجمعة. حسبت الأمر جرعة علاج لحالة التوتر والقلق، فقلت لهما حكايتي الباهتة بان شقيقي صلاح وصل من الكويت فذهبت إليه في منزل أسرة زوجته سلوى في الموردة_أبو عنجة بامدرمان، وساهرت معه إلى ما بعد منتصف الليل. في طريق عودتي كانت هنالك حركة غير معهودة خاصة عند صينية كبري القوات المسلحة لم أعرها انتباها لأسباب عديدة واتجهت مباشرة لمنزل الوالد في امتداد ناصر وأدخلت السيارة ثم استغرقت في النوم إلى ان أيقظني الوالد محجوب الماحي. قررا، الفريق يوسف وإدريس حسن، عدم إضاعة الزمن في انتظار عودة المرسال واتفقا على ضرورة التحرك لتوصيل رسالة من السيد محمد عثمان الميرغني للسفير المصري أو القنصل أحمد رجب لتحذير مصر من تأييد الانقلاب الذي وفق قراءتهما انه نجح وتجاوز محطة استلام السلطة وسيبدأ الانتقال إلى مرحلة البحث عن التأييد الإقليمي والدولي. واتفقا على أن الانقلاب، إذا وجد تأييدا من مصر، سيثبت أقدامه لان دولا أخرى ذات أهمية بالغة لتثبيت الانقلاب، قد يكون موقف مصر بالنسبة لها مؤشرا بالغ الأهمية لتحديد موقفها؛ فضلا عن ان مصر سوف تتحرك تجاهها لتضمن مواقف متطابقة مع موقفها من الانقلاب. قال الفريق يوسف: إذا صمتت مصر على الأقل لأيام، قد تتغير الكثير من الأشياء. كنت استمع إليهما يقلبان الأمر من كل الأوجه ولم أتدخل في الحديث الذي تبادلاه، ففي حضرة أمثالهما، خبير إفشال انقلابات وجامع معلومات تضعه الأقدار في طريق الانقلابات؛ وأمام مثل هكذا تطورات، يجب ان يبقى من في مثل حالتي مستمعا ومنفذا ما يُطلب منه، كما عليه ان يحدد قدراته، فقلت لهما: ليس لدي ما أستطيع القيام به إلاَّ الذهاب إلى السفارة والقنصلية المصرية. تبادلا النظر فخلتهما يستخفان بالوسيلة التي سأتبعها، ولكنهما لم يعلقا على قولي فأيقنت انهما لن يراهنا على تحركي الذي حددته فربما لهما وسيلة أخرى ويعرفان طريقة ما لنقل رسالة، قررا ضرورتها، في ظني سويا دون استشارة ثالثة. خرجنا، إدريس إلى جهة لا اعرفها ولم يكلمني عنها، وأنا إلى جهتين يعرفهما أو بالأصح إلى جهة واحدة فليس لدي ما أقدمه أكثر؛ وتركنا الفريق يوسف في انتظار عودة مرساله وفي انتظار نتائج جهودنا دون ان ندري انه سيقوم من جهته بجهد موازٍ. عدت كما ذهبت بعد أقل من ساعة. في طريق العودة، تذكرت قصة الإعرابي وخيبته عندما عاد بِخُفَي حنين الإسكافي. حتى خفي حنين لم أجد من أسلمهما له، فالواقع انني لم اذهب لأعود بهما بل حملت معي الخيبة _ خفي حنين _ لأجد من أسلمهما له، فلم أجد؛ فعدت خائبا حاملا ذات الخيبة التي ذهبت بها وألم يعتصرني لفشلي في مهمة لا أدري ان كنت توقعت نجاحها، ومع ذلك تألمت. يا لتعاسة وفقر فكرة وحركة عشوائية قمت بها مدفوعا بقلة الخيارات، بل قل عدم وجود ولو خيار واحد غير الانتظار وهو _ حينها _ اللاخيار في أصدق معانيه. وجدت الفريق يوسف لوحده يكاد يحدث نفسه وهو في حالة لا يحسد عليها البتة، فأيقنت ان مرساله عاد من داخل القيادة العامة بكل المعلومات التي أرادها. جلست صامتا مستعدا لمعرفة ولو بعض الحقائق. وكأنه كان ينتظر أحدا ليحدثه ويفضفض إليه ليخرج كلما في صدره عله يتخفف من الهموم الثقيلة التي يحملها في داخله وتكاد ان تفجر عقله وقلبه؛ بدأ يروي لي دون ان أسأله: هل تَذْكُر الجلسة التي جمعتني مع مولانا وأمين عثمان بعد اجتماع يوم الأحد الماضي مع وزير الدفاع والهيئة العامة لقيادة قوات الشعب المسلحة؟ لم أرد عليه. قرأ في صمتي استعدادي للاستماع فواصل: لاحظت خلال اجتماع التنوير، ان "الاستاند باي" أي حالة الاستعداد في الجيش، ليست 100%. مَررت فكرة لمولانا ليطلب لقاءا ثانيا مع اللواء صلاح مصطفى، نجح في توصيلها أمين عثمان. بعد الاجتماع جلست للميرغني وطلبت مشاركة أمين عثمان، وقلت: ليس هنالك وقتا لمتابعة خيوط انقلاب يبدو، بل من المؤكد، انه دخل مرحلة العد التنازلي وربما الانقلابيُّون الآن عند الرقم (3) او (2) وأخشى ان يكون قد تبقى لهم إعلان "ساعة الصفر"، والمطلوب الان، وأكرر الان قبل فوات الأوان، إعلان حالة استعداد 100% في الجيش، وفي هذه الحالة ربما لن يكون هنالك مفر من ان يُقَابَل الانقلاب عندما يخرج معلنا عن نفسه، وهو أمر اعرف انه صعب على رجال القوات المسلحة ويضطرون إليه اضطرارا إذا استطاع الطرف المُتَآمِر الخروج ولكن دعونا نأمل ألاَّ يفعل. إذن المطلوب إعلان حالة استعداد 100% حتى يتم، إما ردع الانقلاب فلا يتحرك ليستمر البحث عن خيوطه، أو تُفَشِّل له فرصة استغلال حالة السيولة والاسترخاء في انتظار "حركة المذكرة" التي قد يركبها الانقلابيُّون. وفوق ذلك فان الخطوة التالية لدرء خطر الانقلاب، يجب ان تتأسس على جمع الحقائق المجردة عن الحركة التي لا زالت تجري وعن الحركتين اللتين تحدثوا عنهما، وتقديم كل ذلك أمام كبار الضباط بالصراحة والوضوح حتى لا ينخدع من يمتلك نصف حقيقة، وتلك نفسها مغلفة بغرضِ مَنْ أوصلها له. وهنالك خطوة ثالثة سيكون الحديث حولها حاليا ترف ما بعده ترف، ولنتركها بعد الخروج من "الزنقة" التي نحن فيها الان. هذه العبارة أحفظها جيدا يا أمين وأرجو توصيلها للواء صلاح مصطفى طالبا منه ان يوصلها لهيئة القيادة وقل لهم ان يجلسوا في مكاتبهم، ينومون ويصحون فيها، وان لا يغادروها ابدا ابد ابدا. يبدو ان طعم مرارة حنظل كان في لسانه وهو يبتلع ريقه، مرددا "ابدا أبدا ابدا"، فواصلت صمتي وكيف لا امسك نفسي من الكلام غير المباح في مثل هكذا موقف ورواية، فقال: أول سؤال حاولت ان أعرف إجابة له هو أين هيئة القيادة؟ وأين قُبِض عليهم، اين تم اعتقالهم؟ هل تصدق انه لم يقبض على أي منهم في مكتبه؟ واصلت صمتي، فواصل حديثه: لا أشك ان ما أردت توصيله لرئيس الاستخبارات العسكرية وبالتالي لهيئة القيادة العامة للقوات المسلحة، قام مولانا وأمين عثمان بتوصيله وبالطريقة الصحيحة. ومع ذلك، حدث الانقلاب، ولم يجد مقاومة، حسب المعلومات التي أتتني من داخل القيادة. شرب الفريق يوسف لمرة ثانية "كباية شُوب_ كبيرة" من الماء البارد ليروي لا عطشه وإنما غليله، وواصل قائلا في ظل خوفي على نفسي من الإصابة فجأة بالخرس: الشيء الثالث الذي توقعته وأردت المساعدة في إفشاله أو سحب البساط من تحت الذي يمشي عليه "لِيَتْشَنْقَلْ" فيكسر "رقبته"، هو سحب استغلال المذكرة من قبل الانقلابيين، ولكن دعني أصارحك بالمعلومة الحقيقة التي جاءتني؛ ركب الانقلابيون مذكرة القيادة. تنهد الفريق يوسف فقلت في سري حسنا فعل، ولزمت الصمت، فقال: أنس كلما قلته لك، هذه كانت تقديرات قائد في المعاش، ربما كانت تقديراتهم غير، ولا تثريب عليهم، ولا اشك ان هنالك من تواطأ منهم مع الانقلابيين. تساءلت صامتا: يا لهذا الإنسان الفريد ويا لثقته في زملائه السابقين؛ أيدافع عنهم ولم يَعرف بعد حقيقة كل ما حدث؟ فقال وكأنه قرأ ما فكرت فيه: هذا الانقلاب قام لينجح، ونجح ليبقى. تساءل عقلي الذي حمدت الله ان لا زال يعمل وحالة الخرس التي أطبقت عَلَىَّ لا زالت هي السائدة: هل استسلم وهو الذي سرب لي أملا قبل عودتي خائبا؟ خلت ان قراءة أفكاري باتت عنده أسهل من إلقاء تحية، فقد قال: انتهى الأمر ومصر أيدت. سعيك الذي قمت به مشكور عليه فلا تلوم نفسك ولا تُؤلِمُها، تصالح معها. وأضاف دون ان يُفَسر: مولانا بخير.. طمئن والدك. يا للمصيبة.. يا للعنة، هل أُصبت حقا بِخَرَسٍ مفاجئ؟ بالفعل أصبت بِخَرَسٍ وقتي، فقد استمر وأصبح صمتي لغة كلامي، و"بصمة خشمي" خرجت من منزل الفريق يوسف احمد يوسف دون ان أودعه؛ ولم يخرج معي كعادته للباب الخارجي ليودعني. تركته يجتر وحده حزنه وألمه وهمومه التي أشك انه تخفف منها بعد ان حدثني وكأنه يحادث نفسه. حاول ان يخفف صدمتي في انجاز مهمة مستحيلة؛ فيا لروعة ذلك الإنسان. لا أدري كيف أدرت محرك السيارة ولا إلى أين فكرت ان اتجه؛ ربما قادتني السيارة ولم أقدها، كنت كمن يرى ولا يري، يسمع ولا يجيب؛ فقدت النطق. خرجت من شارع منزل الفريق يوسف يمينا في شارع افريقيا، وفجأة لمحت سيارة قادمة في الاتجاه المعاكس فأدرت "الدركسون" يسارا دورة كاملة وانطلقت خلفها؛ انه القنصل المصري أحمد رجب. استمرت المطاردة حتى دخلنا شارع كترينا. كان واضحا جدا ان القنصل احمد رجب شَعَرَ بالمطاردة فلم يتوقف، أسرع وأسرعت خلفه أحاول تنبيهه بإشارات ضوئية. تمكنت في منعطف ما من اللحاق به عندما اتخذ حركة بسيارته في محاولة منه لأفقد متابعته اللصيقة على الأقل لثوان قد تمكنه من الاختفاء أو أفقد أثره. لمحني وتعرف عَلَيَّ وبسرعة فائقة نزل من سياراته شاهرا مسدسه في غضب وثورة: ايه ده يا عصام، أيه اللي عملتو ده، كنت حا أرصصك، ده يوم تعمل فيهو اللي عملتو.... محاولا تهدئته قلت: "بَرَّاحَا" يا سعادة القنصل، بالهداوة خلينا كده.... واصل بذات الانفعال والحِدَّة: بلا سعادة قنصل بلا بطيخ.. انت "مقنون".... قلت: يا أستاذ عندي رسالة هامة جدا جدا لازم.... يبدو انه أصبح قريبا من الخروج من حالة الانفعال التي كانت مسيطرة عليه، فقال: رسالة من مين؟ "ودا وأت" رسائل؟ قلت: أيوا "دا وأت" رسائل، وباختصار يا سعادة القنصل أنا مكلف بان أوصل لك رسالة من السيد محمد عثمان الميرغني للقاهرة بان لا تؤيد مصر الانقلاب العسكري وان لا تدفع أصدقاءها لتأييد الانقلاب. وأضفت من عندي بعد ان تذكرت ما قاله لي الفريق يوسف: أي تأييد رخيص سوف يكلف مصر كثيرا مستقبلا. سبق السيف العذل. قال القنصل المصري احمد رجب، وأردف مكررا نفس العبارة: قل لمن حَمَلَك الرسالة، سبق السيف العذل، الرسالة جات متأخرة، مصر أيدت.. وهنالك مسئولين كبار "أوي" في طريقهم من القاهرة للخرطوم حا يصلوا اليوم أو غدا. أنا مش فاضي، وتاني ما تعملش كدا.. دا أنا كنت حا أرصصك.. إنت "إتكتبلك" عُمْرْ جديد. سألته: هل تريد ان تقول لي ان هذه هي المرة الأولى التي وصلتكم فيها الرسالة؟ قال وهو متوجه نحو سيارته: مش فاضي للكلام دا.. بس أرجوك تاني ما تعملش كدا. لم ارجع للفريق يوسف؛ لم أذهب لأي مكان أخر؛ عدت إلى المنزل؛ كان ان انقضى نصف يوم الجمعة الحزين؛ وجدت والدي وكأنه في انتظاري، قلت له مختصرا الحكاية: الميرغني بخير. أمطرني الوالد بأسئلته: هل قابلته؟ ما هي المعلومات التي حصلت عليها؟ هل تعلم ان الترابي أعتقل؟ ما هو بروجرامك؟ أخذته من الأخر وقلت: ليس لدي بروجرام، داير أنووووووم..... اليوم، وبعد حوالي ربع قرن، قد لا يصدقني احد ان قلت انني نفسي في شكك حول مغامرة شارع "كترينا". أتمنى ان التقي الأستاذ احمد رجب، لنتذكر سويا كل الحدث. هل حقيقة حدث ما حدث أم انه كان كابوسا حلمت به عندما رجعت البيت لأنوم؟ لا أصدق نفسي، برغم ان الحكاية رويتها _ حينها _ للعديد من الأصدقاء. ما هذا الغباء الذي قمت به بعد ان سمعت ما سمعت من الفريق يوسف؟ لماذا طاردت القنصل المصري احمد رجب؟ ألَمْ أكن بكامل قواي العقلية؟ هل كانت حالة جنون وقتي؟ تبقى القول: تلك شفافية نقل حديث داخلي بيني وبين نفسي، يجب تَسْكِينها في خانتها، كي لا يحدث مني مثل الذي حدث مرة ثانية، يجب ان اقنع نفسي بأي شكل من الأشكال بان الذي حدث، لم يحدث في الواقع، بل كان حلما وكابوسا حتى أعيد التوازن إلى نفسي وتصرفاتي فلا أدخل "ذات الجحر" مرتين، على الأقل خوفا من ان تكون بالفعل "التالتة" واقعة. دا انا يا رجالة بخاف من رَفْعَة عكاز، "يطلعلي" مسدس؟ وأخيرا.. إلى الحلقة القادمة والأخيرة من سلسلة "... الخرطوم قبل وبعد 30 يونيو 89" والتي ستكون مقالا كتبته في "سبوع" الانقلاب، الجمعة 7 يوليو 89، أودعت فيه رؤية تحليلية ووصفت فيه الخرطوم، البلد والناس، قبل وفي وبعد صباح ذلك اليوم.