وقفت لمدة قصيرة أمام باب نادي البجا والذي غبت عنه مدة من الزمن. وأنا على هذه الحالة غمرتني ذكريات القرن الماضي في السبعينات والثمانينات. في وسط النادي كانت شلة المرحوم محمد آدم موسى (ناس السياسة) وفي الطرف الجنوبي من النادي شلة الورق شلة المرحوم هاشم بامكار والمرحوم محمد هدلول وآخر نكات وترديد أغاني الختمية استهتاراً بها وفي الركن الشرقي ناس المرحوم عثمان على اللبّان. أخذتني الذكريات إلى أبعد من ذلك حيث الطبقة الواعية تمور في حركة دائمة نحو عمل شيء ما من أجل المجتمع البجاوي. قررت الفئات الواعية إنشاء نادي يستطيع بدوره جمع الناس ولقاءاتهم التي أصبحت من الأشياء الضرورية بالنسبة لهم في تلك الفترة من تاريخ البجا الحديث وبالفعل أقيم نادي البجا في عام 1950م. ولكن قيام مؤتمر البجا كانت الإجتماعات له خارج ذلك النادي. وفي ديم العرب وهو أحد أحياء بورتسودان الشهيرة وبالتحديد في منزل عثمان عيسى (مواطن من ديم العرب) أقامت تلك الطبقة الواعية إجتماعاً يتفاكرون ويتشاورون في أمر قيام المؤتمر، كنت يومها في المدرسة الأهلية الحكومية ولا أفهم الكثير في السياسة. كل ما أذكره تلك الشخصيات التي يبدو عليها حماسهم واستعدادهم للعمل من أجل القضية البجاوية كالأستاذ المرحوم محمد آدم موسى والمرحوم هاشم بامكار ببدلته السواكنية المتميزة والأستاذ المرحوم أبو موسى على والأستاذ المرحوم محمد إسماعيل البجاوي صاحب كتاب (مقبرة الأحياء) وغيرهم كثر. حضرت اجتماعات موسعة في منزل حمد آدم (من حي ديم مدينة). كل هذه الإجتماعات المتتالية تصب في كيفية التحضير لمؤتمر البجا وفي يوم 11 أكتوبر 1958م جاءت القبائل البجاوية من كل فج عميق إلى بورتسودان لحضور ذلك المؤتمر. كما حضرت شخصيات غير بجاوية بالإضافة إلى ذلك قدمت الدعوة إلى شخصيات سياسية من كل الأحزاب السودانية كما حضر السيد عبد الله خليل رئيس الوزراء آنذاك ونائبه على عبد الرحمن. كنت فرحاً بحضوري ذلك المؤتمر، كنت مفعماً بحبي لهذا المؤتمر. قرأت كل ما كتب عن مؤتمر البجا آنذاك من تعليق في الصحف السودانية باستمراية مدهشة. أحضر الندوات التي عقدت في نادي البجا عن مؤتمر البجا وذلك لمزيد من معرفة القضية البجاوية. أما في عهد عبود وفي نوفمبر 1958 وهي السنة التي إقام فيها البجا مؤتمرهم استلم الفريق عبود السلطة بعد انقلاب عسكري عمل على إسكات الشعب ومصادرة الصحف وساد صمت رهيب في البلاد وبعد ستة سنوات إنفجرت ثورة أكتوبر المجيدة عام 1964م وبعد أن جرت المياه تحت الجسور، وبعد أن أعلنت انتخابات 1965 فاز مؤتمر البجا بإحدى عشر من النواب في ثاني انتخابات عقدت بعد ثورة أكتوبر على ما أظن. يقول الأستاذ محمد أدروب أوهاج في كتابه مؤتمر البجا ( لا شك أن مقاطعة حزب الشعب الديمقراطي لتلك الانتخابات كان لها أثرها الإيجابي في الفوز بذلك العدد). جاء النواب إلى الخرطوم حيث الجمعية التأسيسية وجئنا نحن الطلبة الذين يودون الإلتحاق بالجامعات المصرية في مصر وعلى ما أذكر كان منهم الدكتور المرحوم الحسن مصطفى والدكتور المرحوم محمد شريف والأخ حسن أبو زينب وشخصي المتواضع وكثيرين غيرنا. الغريب في الأمر أن الأحزاب الطائفية لم تتخل عن مؤتمر البجا، طاردته في الخرطوم حتى استطاعت تفتيته والرجوع به لدائرة الطائفية البغيضة، وأول الأمر قام السيد الصادق المهدي بإيجار منزل في السجانة لكل النواب. كانت هناك شائعات بأن حزب الأمة هو الأب الروحي لمؤتمر البجا، على كل فالزائر إلى بيت النواب في السجانة يلاحظ أن تقسيمات حزبية واضحة لمؤتمر البجا. حزب الأمة (نواب القاش) وحزب الشعب (نواب البحر الأحمر) زائداً النائب عوّاض من كسلا. ذات يوم كنت أود أن أسافر إلى القاهرة عن طريق حلفا ولم يكن لدي ما يكفيني من المصروفات فشجعني بعض الإخوة أن أذهب إلى السيد عوّاض من دائرة كسلا، فهو ختمي ومن حزب الشعب أصلاً وبما إني من أصول ختمية نصحني الإخوة بالذهاب إليه. وهكذا ومؤتمر البجا يترنح بين الأحزاب الطائفية. أعلنت حكومة الصادق المهدي طرد الحزب الشيوعي من الجمعية التأسيسية، بعد تعديل الدستور آنذاك تفرقت القبائل البجاوية، واستطاعت الطائفية أن تنال من المؤتمر الذي وحد المجتمعات البجاوية في الشرق. عاش الشرق بين الحابل والنابل، كثرت الآراء بين مؤيد لطرد الشيوعيين وبين معارض لتلك الفكرة. على كل لن يكسب البجا من هذه القضية إلى الدمار والهلاك. جاءت مرحلة المايوية التي يرأسها جعفر نميري، فلم ينل السودان منها غير الجهل والفقر والمرض. فنميري دكتاتور لأبعد الحدود. لا أطيل حديثي عن تلك الفترة سوى حادثتين وذلك كمثال للمآسي التي عاشها المجتمع البجاوي آنذاك ففي السبعينات من القرن الماضي زار نميري مدينة بورتسودان وفي المطار قابلته حشود كبيرة من البجا وهي ترفع شعارات مكتوبة (إيتنينا – إيتنينا) وهي تعني مرحباً بك مرحباً بك وفي المساء إلتقت الجماهير برئيسها في دار الرياضة وأول ما بدأ به حديثه ( أنا ما دايركم ترطنوا – ممنوع الرطانة إتكلموا عربي) ما هذا الغباء؟ لقد نسي أنه دنقلاوي صاحب اللغة النوبية العريقة؟ وكم ضحكت ذلك اليوم بسبب سخرية أهلنا البجا، فهم مشهورون بالسخرية اللاذعة. الحادثة الثانية هي ذات مرة وفي أوائل الثمانينات اجتاحت المجاعات شرق السودان وعلى الفور اجتمع أفراد من مؤتمر البجا للبحث عن كيفية الحصول على معونات أو إغاثة للمواطنين وذلك لدرء المجاعات. من بين الذين اجتمعوا السيد المرحوم محمد آدم موسى والمرحوم محمد هدلول والأخ طاهر محمد حمد وشخصي المتواضع وفي الجانب الآخر من ضمن المجتمعين كانت مجموعة من الإتحاد الإشتراكي، وبالطبع فهي بدورها نقلت ما دار في ذلك الاجتماع إلى محافظ الإقليم، فوق ذلك ترى المجموعة أن يتولى أمرنا الأمن القومي إلا أن المحافظ رأي أن يحتفظ بالأوراق دون أن يقدمها للأمن (ربنا ستر) توسعت المجاعات فشملت أجزاء من البلاد ولم تستطع حكومة نميري أن تضع حداً لتلك المجاعات. إن حكومة اقتصادها منهار وأمنها كذلك. وهل يستطيع العطار إصلاح ما أفسدته الحكومة المايوية؟ كل هذه الأسباب قامت إنتفاضة رجب التي اشترك فيها مؤتمر البجا بكل ثقله حتى انتصرت الإنتفاضة وكونت حكومة إنتقالية بقيادة الدكتور جزولي دفع الله. أما مؤتمر البجا فقد اجتمع في بورتسودان وفي المنزل الذي يقع بين عمارة عمال الشحن والتفريغ خارج البواخر وحي دبايوا ليضعوا اللبنات الأولي للعمل السياسي في تلك المرحلة الديمقراطية في السودان. من بين المجتمعين الراحل محمد آدم موسى والراحل الحسن على أحمد ومحمد طاهر إيلا (والي ولاية البحر الأحمر حالياً) الدكتور الراحل عوّاض والسيد ماقيت وطاهر محمد حمد وشخصي الضعيف وكثيرين غيرنا. وبعد الاجتماع الأول والثاني والثالث على ما أذكر اختلفنا في الرؤى والأفكار ولم نتعدى قيد أنملة إلى التوافق في الآراء. بدأ مؤتمر البجا اجتماعاته منفصلاً في نادي البجا وبالمناسبة كنت سكرتيراً له. ثم جاءت الانتخابات للجمعية التأسيسية. وقد ترشح المرحوم الأستاذ محمد آدم موسى في دائرة بورتسودان الوسطى. كاد محمد آدم أن يفوز في تلك الدائرة. لعل قلة الإمكانيات خذلته على كل فاز السيد محمد أبابكر موسى رجل الأعمال المعروف في بورتسودان وأمدرمان قد ساعد محمد آدم إلا أن أنصار الختمية في ذلك الوقت أقوى وأقدر على أخذ الأصوات فكانت الدائرة من نصيب السيد المرحوم هاشم بامكار ممثلاً للإتحادي الديمقراطي. يرى المرحوم محمد أدروب أوهاج في كتابه (مؤتمر البجا) بأن محمد آدم كاد أن يفوز لولا أن الحزب الشيوعي أعلن بأن محمد آدم مرشح للقوى التقدمية اليسارية وهذا قد أثر سلباً على فوزه في الانتخابات، ولكن كما ذكرت سابقاً بأن الختمية في ذلك الزمن أقوى من أي موقف سياسي في بورتسودان وأيضاً كانت الإمكانيات المادية باعدت بينه وبين الفوز في تلك الدائرة. لبس الحال كذلك إلى أن جاء إنقلاب الجبهة الإسلامية عام 1989 فأصبحت أمور البلاد في يد الأخوان المسلمين الذين من سماتهم القتل والتشريد والتهميش للمواطنين، إلى أن أوصلوا البلاد إلى أفقر دول العالم، بل أن بلاد السودان آيل للإنقسامات الواضحة بين شعوبه. المرحلة العسكرية لمؤتمر البجا في عام 1994 عقد مؤتمر البجا مؤتمراً هاماً في مدينة كسلا في اليوم الثالث عشر من أبريل عام 1994م، شمل ذلك الاجتماع كوكبة من شباب البجا. هذا وقد نتج عنه إجتماعاً آخر في الأراضي الأريترية وفي بلدة ملوبيرا، إنبثقت لجنة مركزية وبعض لجان فرعية في ذلك الاجتماع، وكان السيد محمد طاهر أبوبكر رئيساً لتلك اللجنة والسيد عبد الله كنّة نائباً له. قرر المؤتمر بداية إعلان الحرب على الحكومة السودانية ولذا جلب العشرات الشباب البجاوي من كل أرجاء شرق السودان وعلى الفور تم إرسالهم إلى معسكرات للتدريب العسكري، على كل الحديث عن الفترة العسكرية يحتاج منا لتفاصيل أكثر وأدق من التي نسردها الآن. يمكننا التحدث عنه بطريقة أوسع من ذلك وعلى العموم أصبح التدريب العسكري المحرك الأساسي لتدفق الشباب البجاوي بأعداد كبيرة وفي وقت وجيز في مناطق التدريب دارت الأيام وبدأت المعارك بين جيش الحكومة السودانية ومليشيات البجا عدة فترات وعلى ضوء نتائجها جرت تغييرات إدارية في داخل الميليشيات، فقد تم القبض على محمد طاهر أبوبكر رئيس التنظيم وعبد الله كنّة (وزير السياحة بولاية البحر الأحمر) ودكتور أوشيك والباشمهندس أبو درداء وكثيرين غيرهم من الذين نالوا شهادات جامعية، في الواقع كانت هذه المجموعة هي الصفوة المختارة من مؤتمر البجا. ما علينا ففي عام 2005 رأى مؤتمر البجا أن يعلن نفسه كتنظيم واحد يسمى جبهة الشرق. وهذه الجبهة تتكون من الأسود الحرة (تنظيم الرشايدة) زائداً المنبر الديمقراطي لشرق السودان (أمنة ضرار) ومؤتمر البجا (موسى محمد أحمد). دخلت جبهة الشرق في مفاوضات مع حكومة الكيزان وكان الوسيط بينهما الدولة الأريترية التي استضافتهما في العاصمة الأريترية أسمرا. ومن المعالم المهمة التي نتجت عن المفاوضات إشراك جبهة الشرق في الحكومة السودانية وتقسيم الشرق في الأقاليم الثلاثة الشرقية. والمحمود في الأمر بأن دخلت الصداري لأول مرة في القصر الجمهوري ماعدا ذلك كان التهميش بعينه بالنسبة للنقاط التي اتفقوا حولها إثناء المفاوضات. فالإتفاقية أصبحت كذر الرماد في العيون. وبالمناسبة سعدت كثيراً عند قراءتي خبراً مفاده أن مؤتمر البجا سوف ينسحب من حكومة الجبهة الإسلامية. يا رب. هاشم محمد الحسن أوتاوا Sent from Windows Mail Hashim Eissa [[email protected]]