السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بربر الثانوية للبنين: خمسون سنة من العطاء الثر .. بقلم: د. عبدالمنعم عبدالمحمود العربي - لندن
نشر في سودانيل يوم 26 - 11 - 2013

بربر الثانوية للبنين: خمسون سنة من العطاء الثر. هل سيحتفل بها أبناؤها أم أهل بربر؟ .. بقلم: د. عبدالمنعم عبدالمحمود العربي - لندن
بقلم د. عبدالمنعم عبدالمحمود العربي - لندن
تذٓكُّر المعلم أو المدرسة التي كنا ندرس فيها واجب علينا لكن عادة ما ننساه في زحمة الحياة خاصة في هذا الزمن العصيب السريع. في السودان مدارس عمّرت لأكثر من مائة سنة وفي بربر توجد الأميرية الوسطي والشمالية الأولية. كان الخريجون منها يسافرون الي تلقي التعليم الثانوي في مدينة عطبرة القريبة أو في الخرطوم الثانوية ووادي سيدنا أو البعيدة مثل خورطقت وحنتوب. أخيرا حدثت ثورة في التعليم في الستينات من القرن الماضي ففتحت مدارس ثانوية في مدن متعددة من السودان من ضمنها بربر التي حُظيت في البدء بإفتتاح مدرسة البنات الثانوية التي كانت تضم الطالبات من جميع أنحاء السودان ثم افتتحت بعدها بسنتين مدرسة ثانوية للبنين. نهاية هذه السنة وبداية السنة القادمة تحتفل مدرسة بربر الثانوي للبنين باليوبيل الذهبي.
كانت مرحلة دراستى بعد المتوسطة بمدرسة بربر الثانوية حديثة التكوين من عدم وبقرار حكومي عشوائي .برغم كل ذلك لقد حظيت بالإلتحاق بها حسب إرادة الخالق دون رغبة أو تخطيط!!. عرفت لاحقاً أننى كنت سعيد الحظ بأن تكون دراستى الثانوية فى تلك المدرسة دون العادة التى إعتادها أشقائى الذين سبقونى وتلقوا تعليمهم الثانوى فى أماكن أخرى مثل مدرسة عطبرة الثانوية أو مدارس العاصمة السودانية الأخرى كوادى سيدنا والخرطوم الثانوية وغيرها، ذلك لأنها كانت فترة ممتعة حيث كنت أعيش جنباً لجنب مع والديىّ وحتي من أمي عليهم جميعا رحمة الله فى وقت بدأت أشعر فيه بروح المسئولية والمشاركة الجادة فى ترتيب أمور الأسرة وأبداء الرأى والمشورة والإعتماد على النفس ومشاركة مجتمع بربر قاطبة فى كل أموره خاصة الإجتماعية.
فمدرسة بربر الثانوية تأسست من عدم وقامت فى البداية على مبانى لمدرسة البنات الثانوية السابق ذكرها والتى نفسها لم تكتمل بعد حيث كانت عبارة عن مباني من الطوب الأحمر مسقوفة بالزنك لا أبواب لها ولا شبابيك تقى من برد الشتاء أو رياح السموم الصيفية الحارقة بنيت علي أرض قفر يجاورها المستشفي من الناحية الجنوبية والأنادي من الناحية الشمالية واذكر أننا نضطر في بعض الأحيان لكت نستقبل بعض زوار تلك الأنادي الذين تفوح من أفواههم رائحة المريسة. كان ناظر المدرسة المؤسس الأستاذ إبراهيم أحمد عبدالله "من أبناء توتى" الجزيرة المشهورة على النيل الآزرق بالخرطوم عند مقرن النيلين. كان يدرسنا مادة التاريخ بالإنجليزية عن حضارة بلاد ما بين النهرين "أى حضارة سومر وبابل" وقوانين حمورابى في كتيب سميك الغلاف أصفر اللون ...إلخ لقد كان إبراهيم أحمد رجلاً جاداً حازماً صارما كأنه حمورابى نفسه! وقل ما ترى الإبتسامة على محياه لكنه أيضاً كان طيب القلب فى نفس الوقت. لا أنسى كذلك الرجل الطيب أستاذنا حسب الرسول خير السيد الذى كان يدرسنا اللغة العربية وكان يحكى بلهجة مصرية سودانية وما ذلك إلا لأنه تلقى تعليمه بمصر وتزوج من هناك وله أبناء أذكر منهم إبنه "موسى" والذى بالتأكيد صار له شأن عظيم. أستاذنا حسب الرسول كان طيباً ظريفاً وأباً للجميع. رغم الجدية فى الحديث أثناء التدريس كان لا ينفك يمتعنا بشئ من بيت شعر أو نكتة وطريفة. كان يقول مازحاً للطالب الذى يخطئ فى القراءة ويكسر كلمة "كسرتها، الله يكسر راسك" ثم يعتذر ويقول كان لنا معلمي شاغل طلابه بهذه العبارة. كانت له دراجة إعتيادية وكانت لدّىَ دراجة نارية ذات محرك ناعم الصوت ولون كلون سن الفيل تحمل ماركة Lambreta إيطالية الصنع أكرمنى بها هدية مقدرة شقيقى الفاضل السيد مجذوب عبد المحمود العربى حفظه الله وتولاه.
كنا نخرج نهاية اليوم المدرسى ننطلق فرحين إلي بيوت أهلنا وفى بعض الأحيان أنتهز فرصة المشى راجلاً جاراً دراجتى النارية مرافقاً أستاذنا الشيخ حيث كانت وجهتنا حيث نسكن واحدة. أذكرأنه قال لى ذات مرة أنه كان يحكى لزوجته كثيراً عن عشيرته والتى يطلق عليها فى السودان "قبيلة الجعليين" وهم الذين يتفاخرون دائماً بالقوة والشجاعة ..إلخ ". فى نفس الوقت كانت لأستاذنا حسب الرسول هواية تربية حيوانيات وطيور لم نعهدها فى بربر "مثل السلاحف والبط... إلخ". قال لى مرة أنه خرج كعادته عصر يوم وجلس فى إحدى مقاهى سوق بربر التى كانت تكثر آنذاك وسط سوقها العريق حيث كان يسكن هو على بعد خطوات منه. أثناء إحتسائه الشاهى المعطر بالقرنفل أو النعناع إذا به يقع على قفاه أرضاً وقد إنقلبت به الكنبة " أى الأريكة" الخشبية التى كان يجلس عليها. المفاجأة المضحكة أن حماراً ما قد ربطه صاحبه على حافة الكنبة ولسبب ما "جفل" الحمار فجأة وحدث ما حدث ولكنها "جاءت سليمة". إنتهت الحادثة بأن إشترى أستاذنا الحمار تكريماً لما قام به من ترفيه للأصحاب فى ذلك المقهى ثم أشار إلى أحدهم بإيصال الحمار أوالأصح وعلى حسب قوله "الجحش" إلى المنزل. قال لى لقد تعمدت أن أتأخر قليلاً فى الذهاب إلى المنزل لأننى أتوقع إحتجاجاً من المدام. عند دخوله المنزل إذا بزوجته تقابله محتجة "ما هذا الحمار الذى بعثت به لنا؟ دي آخرتها؟" قال قلت لها "إنه حمار ممتاز وقوي" ردت عليه زوجته المصرية بسرعة البديهة المصرية "يعنى قَعَلِى؟" وهكذا كان كل يوم عليه رحمة الله يمتعنا بطرفة أو نكتة. أيضاً كنا يوماً نقرأ قراءة صامتة وكان أستاذنا كالعادة جالساً فى مقدمة الفصل يراقبنا. كان عليه رحمة الله أصلعاً لدرجة أن لرأسه بريق مع ضوء النهار. فجأة حانت بى إلتفاتة إلى حيث يجلس فإذا بعصفور عابر الأجواء يحط الرحال على رأس أستاذنا، لكنه يهوى منزلقاً من شدة نعومة الصلعة الملساء. إنفجرت ضاحكاً وفعل هو كذلك فانكسر حاجز الصمت المهيب فرفع كل الطلاب رؤسهم متعجبين!. ظل الأستاذ يضحك ويضحك ويؤشرعلىَّ قائلاً لهم "إسألوا عبدالمنعم!".
بعد تلك الفترة من المعاناة في مباني مدرسة البنات التي لم يكتمل تشييدها إنتقلت بنا إدارة المدرسة إلى فصل مؤقت لإكمال السنة الأولى والذى تم بناؤه من الخشب على فناء مبني مدرسة بربرالأميرية الوسطى والتى بدورها قد تحولت تدريجياً إلى مدرسة بربر الثانوية العليا تلك التى تطورت بدورها "حسب علمى" الآن إلى كلية جامعية!!. حظينا برعاية نخبة محترمة من المعلمين الذين لا يمكن أن ننسى فضلهم علينا مثل الأستاذ الشاعر محى الدين فارس حيث كان يدرسنا اللغة العربية والأدب العربى والأستاذ وراق أحمد وراق أستاذ مادة الدين من أبناء الجديد جنوب الخرطوم، والأستاذ عباس المعتصم الشيخ أستاذ الجغرافيا والذى بعدها إلتحق بالسلك الدبلوماسى وصار سفيراً والأستاذ عبدالباسط مصطفى أستاذ الرياضيات والأستاذ سيف الدولة على عكير " إبن عكير الدامر الشاعر المعروف" أستاذ العلوم، كذلك عمر راسخ وكمال بشير أساتذة الفنون الجميلة عليهما رحمة الله وكان قد سبقهما أولاً الأستاذ أحمد عثمان. كمال حسن بشير كان يهتم بتاريخ الفنون والتلوين وطباعة الأقمشة وعمر راسخ كان يهتم بالمنظور والفنون التطبيقية أما الأستاذ أحمد عثمان فكان يدرسنا كيف نرسم الإنسان وكان يركز علي اللونين الأبيض والأسود. وشيئا فشيئا بدأت تنمو الفصول ويفد الي المدرسة معلمون من جميع أنحاء السودان أذكر منهم محمد الخير أستاذ الكيمياء، عبدالله يوسف محضر المعمل من ام درمان ، عمر بتيق أمين المدرسة من حلفا وعمنا حسن الزين صول المدرسة. الواقفين لا أتذكر منهم سوى كمال بشير أستذ الفنون وغبوش أستاذ الجغرافيا من الدلنج والدرديري البيلي من الخرطوم وأذكر كذلك الأستاذ الكبير والأب المربى التيجانى مصطفى المكى "إبن بربر" حيث كان يدرس اللغة الإنجليزية. كان دائماً يعظنا ويقول لنا : "إسمعوا وأعلموا أننى أنا مربياً قبل أن أكون معلماً". كان يشجعنا على المشاركة فى النشاطات الأدبية والإجتماعية وكان يجيد الإنجليزية بطلاقة غير اعتيادية!!. درَّسنا أستاذ التيجانى مادة اللغة الإنجليزية خلال السنتين الأخيرتين ومن قبله كانت تشرف على تدريسنا آنستان بريطانيتان أتيتا إلى السودان على نفقة المجلس الثقافى البريطانى" The British Council " وهما بالصدفة شقيقتان كبراهما مارغريت" Margaret "وقد توفيت قبل سنوات بعد أن خلفت إبناً وإبنة والأخرى كارول" Carol "والتى على قيد الحياة وقد خلفت أيضاً إبناً وإبنة وتزوجت من بيتر ودورد "Peter Woodword " الذى تعرفت عليه آنذاك فى السودان وبيتر صار دكتوراً فى العلوم السياسية والآن أستاذاً (Professor)بجامعة ريدنج "Reading " بإنجلترا. لقد صار الخبير المعتمد بإنجلترا عن شئون السودان السياسية و غيرها ولاأزال على إتصال بهؤلاء ولكن للأسف إنعدمت صلتنا مع أستاذتنا فى الوطن الأم السودان ذلك بحكم وساع رقعة البلاد وعدم ثبوت العناوين أضف إلى ذلك تشتت الزملاء من رفقاء الدراسة فى أصقاع العالم المختلفة وما أنا إلا مثال حى لذلك التشتت. سألتنا يوماً كارول ومارغريت عن الصيام وقد كان وقتئذ رمضان على الأبواب. قدمت لهن دعوة لمشاركة أهلى إفطار الصيام بشرط أن يقمن بصيام يوم كامل كما نفعل نحن وقد تم بالفعل ذلك. كانت تجربة فريدة بالنسبة لهن خاصة إعجابهن لمستوى الطبخ الراقى الذى أبدعت فيه الوالدة عليها رحمة الله حتى أن مارغريت ظلت تعيد ذكرى تلك الوليمة كلما كتبت لنا رسالة من إنجلترا أو أميريكا. ولا يزال بيتر وكارول يكنان للسودان الود ويعملان بصدق فى صمت وصبر شديد لمصلحة السودان. لقد قاما بتكوين جمعية تطوعية قدمت المنح الدراسية للكثير من الطلاب السودانين وكذلك التبرع بأجهزة الكمبيوتر لجامعة الخرطوم ناهيك عن المؤلفات والمحاضرات القيمة التى يقوم بها هؤلاء من غير كلل لا يبغون شكراً أو جزاءاً من أحد. كنت أتمنى أن تسمى بعض الفصول بمدرستى بربر الثانويتين بأسماء هؤلاء النفر المخلص لبلد لا يمِتُّون لها بصلة رحم أو قرابة. لا يزال بروفيسور وودورد يعمل بكل إخلاص مع العالم الخارجى بما يخص قضايا السودان محاولة لإحلال السلام فى ربوع السودان. كان أخي د محمد موجودا فسألهم كيف تقضية الوقت بعد العمل؟ أجبن بأنهن يتمشين في الصحراء!
كنا فى المدرسة الثانوية نمارس أنشطة مختلفة (ثقافية ورياضية وفنية). لا أنسى فى هذا المجال ذكر عم حسن الزين "الصول" والذى كانت مسئوليته التدريب العسكرى. كنا نلبس الزى العسكرى وكان لكل فصل يوم فى الإسبوع يتم فيه التدريب قبل بدء الدراسة. كان تدريباً صارماً لكن رغم ذلك كان لا يخلو من متعة خاصة عندما كان جميع طلاب المدرسة يشاركون بزيهم العسكرى مسيرات المدينة فى إحتفالاتها بعيد الإستقلال الأول من شهر يناير فى كل سنة. لقد حظيت بتولى تأسيس ورئاسة عدة أنشطة كجمعية الفنون الجميلة وجمعية العلوم وجمعية التصوير وقد توليت أيضاً مشروعا مع بعض من زملائي لجمع تبرعات للمدرسة لمساعدة الذين وفدوا من مدن بعيدة من شمال السودان للدراسة ببربر حيث لم تكن بالمدرسة داخلية لتأويهم ومن ضمن تلك الأنشطة أن جمعية الفنون قد قامت بإنشاء معرض تشكيلى بيعت فيه أعمال فنية راقية تضمنت اللوحات والأقمشة المطبوعة وأشياء كثيرة أخرى من المصنوعات اليدوية. كل ذلك عادت فائدته لصندوق الجمعية الخيرية بالمدرسة. أقيم ذلك المعرض فى الإحتفال الكبير بيوم الآباء. يوم الآباء كان من أهم الإحتفالات السنوية التى تقوم بها جميع المدارس بغض النظر عن إختلاف مستواها نهاية كل عام دراسى. كان أسعد الأيام ليس للطلاب فحسب بل حتى لأولياء الأمور. أذكر بهذه المناسبة أننى ذهبت يوما إلى مدينة أتبرا يصحبنى زميلى عبدالعظيم الريح مدثر راكبين الموتر الآمبريتا لكى نجمع تبرعات لصالح المدرسة. إقترح عبدالعظيم أن تكون البداية زيارة أحد أقاربه والذى كان صاحب متجر صغير وسط سوق عطبرة. بالفعل بدأنا به وقد رحب بمقدمنا لكنه إقترح علينا أن نذهب معه أولاً إلى حيث يقيم لتناول وجبة الغداء وبعد ذلك يتم التفاكر فى موضوع حضورنا لعطبرة. رحبنا بالفكرة وقد صحبناه إلى منزله الصغير "يحدونا الأمل الواعد"!. أمرنا بأداء صلاة الظهر. بعدها مباشرة وقبل أن يقدم لنا شيئاً من الضيافة تربع على الأرض وشن علينا هجوماً شديداً أقله كيف يجوز لنا أبناء أسر محترمة أن نحضر من بربر لكى نشحذ "أتريدون أن تكونوا شحادين؟". وهكذا لم نستمتع بلقمة من وجبته تلك وعدنا إلى بربر صفرى اليدين نجرجر أذيال الخيبة ومرارة الإهانة. لكن لم يمنعنا ذلك السلوك الغريب من مواصلة تلك الجهود الإنسانية.
مدينة عطبرة تبعد بمقدارخمسين كيلومتراً جنوبى بربر. السفرإليها يتم صباح كل يوم ذهاباً بالعربات ثم كذلك إياباً عند كل عصرأو مساء كل يوم عدا أيام العطلات الرسمية. من أصحاب السيارات المشهورين آنذاك ود الطريفى وعثمان ود العتالة وزايد ومجذوب محمد عبدالفتاح الكنزى وغيرهم. فى بربر يكثر إستعمال لفظ "ود فلان" أى إبن فلان. على سبيل المثال أذكر ود كلمون وود الطاش وود أبوعلام وود أحمودة وود السافل وود أبخروف وود العنيزة وود مرعفيب ود سمباى ود أبخف وغيرهم الكثير من الأسماء الغريبة. كان محمد الطريفى رجلاً معروفاً بحدة الطباع التى جعلت الناس يخشون تكليفه بأمر ما أو إرسال شيىء إلى ذويهم فى عطبرة من غير أن يكونوا مسافرين معه بأنفسهم. كان أحد أهلنا كريم كرم حاتم الطائى ألا وهو عمنا وجارنا الكريم الشهم المقدام "بلال محمد على" يريد أن يبعث فى إحدى الأيام طرداً إلى شقيق زوجته الذى يعمل تاجراً بسوق عطبرة. فكر فى حيلة يجبر بها ود الطريفى لتوصيل الطرد. قام فجر ذلك اليوم ولبس أجمل الثياب وانتظر قدوم سيارة عمنا ود الطريفى. توقفت السيارة فكانت المفاجأة قد أثارت الدهشة على وجوه الحاضرين التى فاقت ردود فعل ود الطريفى المعروفة لأن "العم بلال" سارع بتسليم الطرد لود الطريفى شخصياً بكل ثقة وجرأة مع إبتسامة رقيقة قائلاً " أرجو التكرم بتسليم الطرد لفلان مع شكرى و بارك الله فيك". عرف ود الطريفى أنه أخذ مقلباً و بطريقة ذكية وطريفة فلم يملك نفسه فضحك ضحكة ضحك لها جميع الركاب الذين أمتعهم المشهد والسرور فى نفس الوقت لأن ود الطريفى "الرجل الصارم" سيقوم بتوصيل ذاك الطرد غصباً عنه وبدون أجر.
كانت المدارس الثانوية السودانية آنذاك (كما ذكرت آنفاً) تتمتع بالكثير من الأنشطة الثقافية والترفيهية. مثلاً أذكر أننا حظينا بالسفرمع وفد جمعية الفنون الجميلة تحت إشراف أستاذنا آنذاك كمال حسن بشير عليه رحمة الله "من أبناء الأبيض" إلى كردفان ثم نيالا والدلنج وجبل مرة وحتي كادوقلي. كانت تلك رحلة عمل إستفدنا منها كثيراً وعدنا منها باللوحات الجميلة والذكريات الطيبة . لقد حزنت حزناً عظيماً عندما علمت أن أستاذنا كمال قد إنتقل إلى رحمة مولاه فاللهم أحسن مثواه وأجعل الجنة مسكنه.
هكذا تمر الأيام ومعها سنوات العمر و ينتهى بنا المطاف بنهاية الدراسة بالصف الرابع بمدرسة بربر الثانوية حيث كانت الدراسة مكثفة. كان أستاذنا فى مادة اللغة الإنجليزية نصرالدين أبو ضامر من أبناء الأبيض وفي الرياضيات الأولية والإضافية كل من الأساتذة عبدالمحمود عبدالرحمن من أبناء شندى يشحذ هممنا ومعه الأستاذ الكبير "أيضاً فى مادة الرياضيات" حمزة مدثر الحجاز فكان جميع معلمينا قد تبرعوا لنا باقامة دروس إضافية عصر كل يوم "مجاناً!" وكانت حصيلة ذلك المجهود أن دخل معظمنا بإمتياز جامعة الخرطوم
فترة دراستنا الثانوية ببربر أعتبرها من أهم الفترات التى إستفدنا فيها فى حياتنا الخاصة إجتماعياً وثقافياً حيث تعرفنا عن قرب على أهلنا في بربر وخاصة الأقارب منهم وأيضاً كانت فرصة أن نواصل كلنا "زملاء الدراسة" المسيرة وفى النهاية تأهل الكل منا فى مجاله ولكن يا ترى هل إلتقينا بعدها؟. لقد تفرقت بنا السبل للأسف وتبعثرنا على هذه البسيطة وتبقى الذكريات وتلك الصورالوضاءة فى المخيلة!! والأمل يظل أن نلتقى ربما قريباً أو يوماً ما شيوخاً عفى عليهم الدهر لنعيدها أجمل ذكريات. والآن المدرسة التي خرجت ما يربو علي الألفين خريج تنتظر منهم من يتذكرها يوم عيدها الذهبي فتدق الطبول ويبتهج الناس يرددون النشيد ينحرون الخراف ويأكلون الثريد ويقدمون للمدينة العون المادي والعلمي والطبي والزراعي والاقتصادي ويكرمون الأحياء من معلميهم وأسر الذين التحقوا بالرفيق الأعلي. فهل من يجيب الدعوة للحضور والمشاركة؟؟ أرجو أن تكون هذه المقالة تذكرة ودعوة لكل من درس وتخرج في تلك المدرسة العريقة المعطاءة
عبدالمنعم عبدالمحمود العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.