ورقة مقدمة لمؤتمر "حركة التأليف والنشر في الوطن العربي" مؤسسة الفكر العربي بيروت 1 – 2 /10/2009 jamal ibrahim [[email protected]] ( 1 ) إن مما يصيب المرء بالذهول ، هو ذلك الذي ترامى إلينا بعد أحداث 11 سبتمبر وما تلاها من تداعيات ، عن نية عرّابي الترتيبات السياسية وقتذاك ، إلى إستحداث مناهج تعليمية جديدة للأجيال الجديدة في الشرق الأوسط بكامله ، بما يضمن في حساباتهم ، عدم تكرار التجارب المريرة التي مرَت بها شعوب وبلدان هذه المنطقة . أصحاب الأجندات الخفية رأوا في مقومات ثقافتنا وعقائدنا ، المتهم الأول المسئول عن هجمات 11 سبتمبر ، ونلاحظ أيضا أنهم يتحدثون عن "الشرق الأوسط" وكأنه كيان جديد قصد به تجاوز الواقع السياسي العربي الذي تمثله الجامعة العربية ، سياسة وثقافة ولغة ! . لعل اللافت بعد وقوع تغيير النظام في العراق عام 2003 ، هو الحديث عن الفجوات التي حدثت بعد إنهيار النظام هناك . . كان الظن ومنذ الوهلة الأولى ، أن السقوط قد أحدث فجوة سياسية ، وفجوات أمنية ينبغي الإسراع بردمها بأقل تكلفة ممكنة ، وما كان الظن أن من بين هذه الفجوات "فجوة ثقافية" - أو قل تعليمية – حتى يتنادى لردمها إختصاصيون في ردم الفجوات ، قابعون في البنتاغون ، جعلوها في مقدمة ما فى ملفاتهم من أسبقيات . ( 2 ) نعم ، لا يغالط أو يجادل أحد فى أن الأنظمة الشمولية التي تمددت في واقعنا السياسي العربي لعقود طويلة ، قد هيأت لأمرها ومهدت لسيطرتها ، حتى تجد القبول وتحظى بالإذعان ، عبر برامج وأفكار ، استضعفت الكثير من مقومات وعينا بالعناصر التي تشكل هويتنا ، من واقع الانتماء لحضارة عربية راسخة باذخة ، في بعدها الإسلامي ومستحقاته المتصلة بقيمنا ومعتقداتنا . عملت الأنظمة الشمولية على ابتداع وسائل لبناء الأوطان ولكن لازم ذلك شطط في إعلاء شعارات سلبية وشائهة ، إذ جرى اهمال الأساسي في مكونات الهوية ، ووقع التركيز في المقابل على مثبتات السيطرة والتحكم في أقدار الأمة . ولم يكن النظام التعليمي بمنأى عن انفاذ هذه البرامج . . لقد جنحت ذهنية الأنظمة الشمولية ، ووفق أولوياتها ، إلى عدم الالتفات للمناهج التربوية بقصد تجديد روحها ، لمقابلة متطلبات العصرنة والانطلاق ، وبما يحقق بناء الأمة على أسس سوية وفكر ايجابي خلاق . وتلبست الحروف السياسية – إذاً - حروفنا الهجائية. . . وانزوى التاريخ إلى ركن بعيد ، وانشغلنا بإعلاء ما يحمي النظم السياسية الشائهة ، ويحفظ لها كراسيها وبقائها في الحكم . ومثلما حدث في بغداد على سنوات "صدام" ، فقد تراجع التاريخ العربي الباذخ وحلّ محله التاريخ العقائدي لنظام شمولي طاغي ، واندثرت مقررات التربية الوطنية ليحل محلها تبجيل رمز القيادة الشمولية ، رمز الأمة ، حامي حماها ، بما يشبه تبجيل الأنبياء والرسل . لا يجادل مجادل في أن الطاغوت الشمولي قد أحكم قبضته على مناهج التعليم ، ليس في العراق وحده ، بل في الكثير من بلداننا العربية ، وأنه الآن ، وبعد أن عاد الوعي أو كاد ، فإن الواجب الأول يقتضي العمل على رأب الصدوعات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية التي أفرزتها "ذهنية الحكم الشمولي" في العقود الأخيرة . حريّ بنا أن نلتفت مبكراً إلى حماية المقدسات الثقافية .. وما قصدت بالمقدسات حجارة الأثار بالمتاحف التي نهبت ، على تقديرنا لأهميتها وعظم موقعها فى بناء الإعتداد القومي ، إلا أن المقصد هنا هو ذلك الرصيد الراسخ للحضارة العربية التي اتسع أثرها غربي آسيا ووسطها والشرق الأوسط وشمال ومغرب ووسط القارة الأفريقية ، بل ووصل تأثيرها إلى أصقاع أوروبا .. ( 3 ) ربما علينا أن نبعث برسالة قوية للعالم من حولنا كون الأنظمة السياسية الشائهة في العقود الأخيرة ، والتي أقعدتنا عن اللحاق بركب الأمم الكبيرة ، هي إلى ذهاب ، وأن الإصلاح السياسي يبدأ ببسط الحقوق الأساسية ، وأن الحريات تأتي في مقدمة هذه الحقوق ، وأن الهوية ثابتة شامخة لن تتزحزح ، وأن الإنتماء ضاربة جذوره في أعماق حضارة عربية إسلامية ، لا يأتيها الباطل من أمامها ولا من خلفها ، كما لا تقهرها العاديات من البحر أو البر أو الجو . إن الشعوب الأبيّة التي تُبتلى بمثل ما ابتلينا به ، من مصائب هبّت عليها من كل حدبٍ وصوب ، تستمسك بثوابت حضارتها وعتيد قيمها ، وفي ذلك يندرج تمسكها بمقومات نظمها التعليمية ومناهج تربية أجيالها القادمة ، وصونها من احتواء القادميين المتدثرين بنوايا الإصلاح الإنساني ، وإعادة تشكيل الخرائط السياسية ، ولكنهم يخفون في ثنايا ثيابهم خناجر الغدر الثقافى . ولن يكون وهماً هذا الذي نستشعره ، بينما سنابك الخيل تحفر بما يعيد إلينا ذكريات بعيدة عن الجنرال "اللنبى" ، إذ ليس "صلاح الدين" وحده هو الذي عادوا إليه هذه المرة . . إن لسان حال القادمين له صدىً يقول : ها قد عدنا يا صلاح الدين ! ولكن أيضاً : ها قد عدنا يا بن رشد ! ها قد عدنا يا بن سينا ، ها قد عدنا يا بن الحسين . . وربما فيهم من يقول : ها قد عدنا يا بن الخطاب . . ( 4 ) أما عن تجربتنا في السودان ، فإن النزاع الدائر في دارفور له أيضاً وجهه الثقافي الخطير . إن مناهج التعليم التي صيغت وقت أن كان المستعمر البريطاني يعدّ لرحيله من السودان ، أواسط سنوات القرن الماضي ، لم تكن لتستجيب لمتطلبات نمو المجتمعات السودانية الطرفية والبعيدة عن المركز ، ولم تكن هذه المناهج ، في مجملها ، على حسن استجابةٍ تامة لمقتضيات تنوع المجموعات السكانية في السودان ، وهو البلد الذي تحسب قبائله وتعدّ ثقافاته ولغاته ، عداً بالمئات . لعلّ أوجب ما تطلبه جهود ايقاف نزيف النزاعات في جنوب السودان وفي أنحاء دارفور ، غربي السودان ، هو زرع قيم التسامح والعيش المشترك ، بين مجموعات يفرق بينها اختلاف الثقافات المحلية ، ولكن يجمع بينها واقع الوطن الواحد والتراب المشترك . على المناهج التربوية والتعليمية أن تتجه لصياغة واقع جديد يتصالح فيه الجميع ، وتتحد على سبيله جموع الأمة السودانية ، على صعيد انتمائها الثلاثي : عربياً وافريقياً وإسلامياً . ولعلّ على مؤسساتنا الثقافية والتربوية والتعليمية في السودان ، أن تسعى بجدٍّ في هذا السبيل . ( 5 ) ما قصدنا إثارة نعرات جوفاء ، أو التلميح والتهديد بنذر حروب فكرية لا تبقي ولا تذر ، بل رمينا إلى ضرورة التنبه لمزالقٍ تترصد مقبل الأيام في المنطقة ، فتدفع بها لمواجهات حضارية لن يدرك لها مدىً . ويقودنا الحديث هنا ، إلى دور المنظمات الأممية في شأن معالجة الفجوات الثقافية ودعم الجهود الرامية لردمها . فإنْ تضاءل دور الأممالمتحدة ، أوعجزت عجز غير القادرين على التمام ، فآمالنا ما تزال معقودة بنواصي المنظمة الأممية الثقافية : منظمة التربية والثقافة والعلوم : اليونسكو . لا ينبغي أن يخفت صوتها وهي ترى المتاحف والتراث ينهب نهباً ، أو تمتد الأيدي غير الأمينة للعبث بمناهج التعليم فى المناطق التي يصنفها أصحاب الغرض أنها مكامن الخطر ومنابع ما يسمونه "الارهاب الدولي" ، تلك التي كانت تشعّ منها حضارة عظيمة وصلت حتى أطراف أوروبا التي كان يلف عصورها ظلام دامس ذات زمان . إنْ خفت صوت المنظمة الثقافية الأممية ، يكون لنا إذن العذر كله في أن نرى في صمتها تآمر ، وفي غفلتها عما يجرى في منطقتنا ، إستحسان لغدر ثقافى لا يغتفر . ثم ما بال منظمتنا الثقافية العربية الإقليمية : الأليكسو . . فهي راية عربية خفاقة في ساحات حوار الحضارات ، تمتلك في رصيدها خططاً ومناهج تربوية ، توافق عليها ممثلو الأمة وأعتمدوها مرشدا لتنشئة جيل جديد يطلع بمسئوليات حماية الرصيد الحضاري العربي في زمان تعدت فيه عاديات السياسة ومحدثاتها على شواهد الثقافة ومقدساتها. . أليس لها أن تستنفر الاستنفار كله أزاء هذه التحديات الماثلة ؟ ألا تقف جامعة الدول العربية داعمة لها ولجهودها..؟ وذات القول ينطبق على ما نتوقعه من ، المنظمة الإسلامية الثقافية والتربية (الأيسيسكو).. غير أن مجمل القول هنا هو أن مكامن قوة الحضارات هي في مكوناتها الداخلية وفي قدرتها على التكيف والإستيعاب ، وتجاوز التحديات والإبتلاءات العابرة .. ويظل للمؤسسات الأكاديمية دورها وواجبها. وأكثر ما يتيح لهذه المنظمات وهذه المؤسسات فعالية ذات قيمة ، هي إبتعادها عن السلطان بكل معانيه ، وإقترابها من نبض الشعوب ، حين يكون للمجتمع المدني صوته القوي ، ولتنظيماته أن تقرر حاجتها من أساليب تنشئة أجيال المستقبل ، بعيداً عن محاولات التغول والإحتواء الثقافي . سواءاً جاءت من جهة دخيل " صديق " أو صديق حانق . إننا لا بد من أن نستذكر أن إستهداف أنظمة طاغوتية شمولية وتبديلها ، لن يعمينا عن رصيد أمتنا الحضاري ، وأنه لا بد من التصدي لمحاولات أصحاب الملفات الخاصة والأغراض المشبوهة والساعين لاتخاذ الثقافة سلاحا جديداً للهيمنة وإعادة الاستعمار حتى لا ينالوا من مقدساتنا الثقافية وتراثنا الغني ، أو العمل على زحزحته من مكانته الشامخة فى تاريخ الإنسانية . ( 6 ) وفي إمعان النظر في دروس الحرب التي أعلنوها في الغرب "حرباً ضد الارهاب"، علينا ان نقف على تبعاتها ومدلولاتها ، إذ أن صراع المفاهيم والأفكار سيتسفحل لا شك . لكنه ليس تصادم الحضارات بالمعنى المادي . لن يحتاج العالم لاستعمال مخزونه من أسلحة الدمار الشامل ، ولا تحريك أساطيله الفتاكة في البحر أو الجو أو البر. إن صراع المفاهيم يدور في ساحات العقول . إنها حرب المفاهيم العالمية الأولى . . أتصور أن يدور الصراع في غرف الحوار وقاعات المؤتمرات. . إنها حرب فلسفية ضروس ، لا بد أن تتوصل عبرها البشرية إلى ثوابت في التعامل الانساني بصورته الشاملة . يحتاج العالم لصياغة المفاهيم عبر تفاعل حقيقي متصل ، فقد كشفت العولمة واتساع ثورة الاتصالات عوراتنا جميعها . نحتاج لأن نتفق حول تعريف لحقوق الانسان وللحريات والعيش الكريم ، علينا أن نستغل ثورة الاتصالات واندياح المعلومات لاستشراف هذا الواقع الجديد . ولن يكفينا الميثاق الأممي الحالي ، ففيه ما يناقض مفاهيم فضاءات حضارية غير تلك التي تبنته وتتبناه الآن . نحتاج لأن نستنبط للحريات بأنواعها ، حداً أدنى نتفق حوله وتتبناه الفضاءات الحضارية السائدة ، بعيداً عن حساسيات الهيمنة الثقافية ومظاهر الإستعلاء الأجوف . ينبغي أن يأخذ مسعانا هذا إسماً ايجابياً نؤمن بجدواه ، لا أن نطلقه شعاراً فضفاضاً فحسب ، كأن نردد حاجتنا الماسة ل "حوار الحضارات" ، فيما نحن نصرخ في برية ولا نكاد نسمع صدىً لصراخنا . يحتاج العالم أكثر ما يحتاج ، لصياغة مواثيقه الكونية من جديد ، بما يفضي إلى إلغاء المظلوميات ، وإعلاء قيم العدالة وبسطها ، وردم الفجوات السياسية التي ابتليَ بها العالم جراء اتباع معايير متباينة ومزدوجة وعدائية . إنك لن تقاوم الحريق بالكمامات الواقية من الدخان المتصاعد ، وإنما بالتوجه لإطفاء مكامن النيران ومصادرها ، ولن نحتاج بعدها لصياغة الإتفاقيات البلهاء المسطحة التي تتناول محاربة الإرهاب ، إذ أن مفاهيم العدل التي يتفق حولها الجميع ، تكون قد قضت على الإرهاب ، ولن نسمع بشيءٍ منه مطلقاً. ينبغي أن نجدّ حثيثاً لنستشرف نظاماً جديداً يقوم على أنقاض هذه الأجهزة الدولية الهرمة . فما أفلحت الأممالمتحدة ولن تفلح ، فيما تتفاعل أزماتنا الحضارية الماثلة ، وتتصاعد إلى درجات من التعقيد تفوق قدرات أجهزة وآليات ومؤسسات المنظمة الدولية. وعن الموارد الاقتصادية وإدارتها ، فإن التصور أنها ستكون تحت قياد جديد ، ونظام جديد ، ومفاهيم جديدة . أفلَ نجم صندوق النقد ، وفي المخاض نظامٌ اقتصادي مُعوْلَمٌ جديد وما الأزمة الاقتصادية الطاحنة خلال عام 2009 ، إلا مظهراً محفزاً لابتداع البدائل . علينا أن نعدّ العدة لمرحلة قادمة ، نجدّد خلالها الروح في مؤسسات "بريتون وودز" العتيقة التي ابتدعت بعد الحرب العالمية الثانية ، وشاخ بنيانها وتداعى . إن الحرب على الإرهاب والتي أعلنتها - زوراً - الإدارة الامريكية التي كانت تحت رئاسة الرئيس السابق بوش ، ضد عدو غير مرئي ، هي ليست حربها . . إننا نخوض جولة من صراع المفاهيم والقيم والأفكار ، بل هي حرب فلسفية عالمية . . هي نوع من الحروب يقودها المفكرون لا السياسيون . في رؤيتنا أن رأس الرمح في هذه المواجهات ، هو التوجه لاصلاح مناهجنا التربوية والتعليمية ، حتى تستجيب بفعالية للتحديات الخطيرة والماثلة ، وأن تعمل المؤسسات الأممية عبر تجديد أطرها وفلسفتها لاعانة الشعوب على استبصار محركات الحوار الحضاري الايجابي ، بما يعيد اللحمة بين أطراف العالم ، حتى تشع شموس التسامح الثقافي ، ونمضي على طريق تصالح الحضارات ، لا تصادمها .. . الخرطوم - أكتوبر 2009 *كاتب سوداني ، ممثل اتحاد الكتاب السودانيين ، وسفير سابق للسودان في لبنان