بنظرة فاحصة لمتوسط أعمار العضوية الفاعلة داخل أحزاب الساحة السياسية السودانية تتكشف حقيقة مفزعة، وهي أن متوسط الأعمار المشار إليها في جميع الأحزاب يفوق الخمسين عاما، وهذا مؤشر خطير يشير بوضوح لعزوف معظم الشباب عن الانتماء للروافع القائمة المنظمة للعمل السياسي في البلاد، وتفضيل خلق مواعين تنظيمية خاصة بشرئحة الشباب بعيدا عن تلك القائمة، شاهدناها تنتشر عشوائيا، مما ينذر بحدوث حالة شديدة الخطورة من السيولة التنظيمية، يجب الوقوف عندها بالنظر والتحليل والبحث العميق عن الأسباب والعوامل التي لا تنفر فقط فئة الشباب وتعوق أمر انتمائها للأحزاب السياسية؛ بل وتدفعها دفعا لخلق مواعين تنظيمية سياسية واجتماعية خاصة بها. (2) وللوقوف على حقيقة أسباب ومسببات هذه الظاهرة، لابد لنا من دراسة البيئة العامة التي تتشكل وتتفاعل في إطارها عملية المشاركة العامة والمشاركة السياسية في السودان ومن ضمنها مشاركة الشباب في الأحزاب السياسية في بلد تعد فيه فئة الشباب هي الأكبر ومازال يسعى لبناء نموذجه المدني الديمقراطي؛ فنجد في الإطار العام تدني في نسبة انخراط المواطن في مؤسسات المجتمع المدني، وبشكل أوضح تدني في نسبة الانخراط في الأحزاب السياسية دون استثناء فئة الشباب من ذلك. (3) وقد أسهمت عوامل متعددة على صعيد المجتمع في تكريس هذا الواقع، من أهمها ضعف بنية المجتمع المدني ومؤسساته، نتيجة تعاقب النظم الديكتاتورية على حكم البلاد، وقيامها برسم صورة مقلوبة، نجد فيها الدولة تسيطر على المساحة الأكبر من المجال العام الواقع بين الدولة والمجتمع، في حين تتنافس مؤسسات المجتمع الأهلي والمدني على ما تبقى من مساحة محدودة في ظل قوانين غاشمة مقيدة للحريات. (4) ومن العوامل التي زادت من حدة العزوف وتكريس الظاهرة، ضعف الثقافة المدنية في المجتمع، وغياب مفهوم المجتمع المدني والوعي بأهميته، والشعور بعدم أهمية الأحزاب السياسية؛ لضعف أدائها واستسلامها لقوانين النظم الشمولية المقيدة للحريات، وعدم قدرتها على مجابهة هذا الواقع والتخلص منه بطرح برامج مضادة جاذبة للمواطن؛ تستطيع أن تشكل ثقافة عامة تدعم المطالبة بالحقوق وبتوسيع هامش الحريات، وتجعل منهما سعيًا جماعيًّا وواجبًا وطنيًّا مقدسًا، يتم عبره ترسخ الركائز المدنية في بنية الدولة والمجتمع، والاهتمام بقضية التحول الديمقراطي وتوسيع رقعة المشاركة السياسية، وتعزيز إحساس المواطن بالمسؤولية العامة، وبأنه شريك أصيل في إدارة المجال العام الواقع بين الدولة والمجتمع. (5) ولا يمكن الحديث عن الخروج من ورطة محدودية مشاركة الشباب في الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني إلا في إطار عملية متكاملة للإصلاح السياسي الشامل؛ وذلك عبر التمسك بهدف إسقاط نظام "الإنقاذ" الشمولي، وتحقيق نظام ديمقراطي تعددي، مع ضرورة التعامل بواقعية وحكمة مع طبيعة المرحلة الانتقالية التي تلي سقوط النظام الحالي؛ بمراعاة شروط التوازن الدقيق بين الرغبة الجامحة في الوصول للديمقراطية التعددية، وبين ما قد يحدث على أرض الواقع من فراغ قد يقود لتفكك وانهيار الدولة، إذا ما تقدمت عملية التغير بخطًى أسرع من الواقع "الحالة الليبية مثالا" فالمهم السير بخطى متزنة وراسخة بعد عملية التغيير نحو بناء مجتمع مدني معرفي ديمقراطي متسامح، ودولة مدنية يتعزز في إطارها مبادئ سيادة القانون والمواطنة والحاكمية الرشيدة، للتقدم بالوطن وتعزيز تجانسه، وتوسيع دائرة المشاركة العامة، وتحقيق طموح بناء الهوية الوطنية الجامعة. (6) وللخروج من حالة عزوف الشباب عن المشاركة في الأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية، في إطار عملية الإصلاح السياسي الشاملة التي أشرنا إليها، يجب علينا إحداث ثورة حقيقية في المفاهيم والمسلمات التي سادت لفترة ما بعد خروج المستعمر، ولا زالت تتحكم في العقل الجمعي لأجيال تتصدر اليوم قيادة الاحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، وترفض بعناد فكرة إتاحة الفرصة أمام الأجيال الصاعدة لإثبات الذات، الشيء الذي دفع معظم الشباب إلى الانصراف كليا عن الانخراط بالاحزاب السياسية، وخروج البعض إلى الشارع في محاولة لبناء حركات شبابية، تفتقد للكثير من المتطلبات الأساسية كتعبير عن السخط وفقدان الثقة في جدوى وجود مؤسسات المجتمع المدني الكسيحة القائمة، ومنها الأحزاب السياسية. (7) هذه الثورة المفاهيمية يجب أن تعمل على احتواء الخطاب الساذج، الذي يتجه نحو تعظيم المسؤوليات الملقاة على الشباب، وتعظيم دوره كشريحة منفصلة عن باقي شرائح المجتمع، وذلك لخطورة هذا الخطاب الذي قد يقود لترسيخ فكرة انعزال الشباب عن سياقه المجتمعي، ومن ثَمَّ انحسار قيام علاقات تشابكية بينه ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى، وهذه العلاقة التشابكية من الأهمية بحيث تسهل وتساعد في حلحلت القضايا العامة، وتسهم في رفد المؤسسات المدنية بدماء وطاقات جديدة. (8) والتحدي الماثل أمام المجتمع السوداني اليوم يكمن في كيفية إعادة الشباب إلى فضائه الحيوي، ودفعه للانخراط في المؤسسات القائمة، وليس تكريس حالة عزلته ونفوره؛ فدور الشباب في الحياة الحزبية دور محوري وأساسي، وفاعلية هذا الدور تحدده مدى صلاحية البيئة العامة لهذه المؤسسات، ومدى قدرتها على استيعاب طاقات الشباب المتفجرة، وخلق الفرص أمامه للخلق والإبداع. (9) ولتفعيل مشاركة الشباب في الحياة العامة سواء داخل الأحزاب السياسية أو في الحياة المدنية، لابد من رسم خارطة طريق وأضحة المعالم، نستطيع من خلالها تحسين البيئة المحيطة بعملية المشاركة السياسية من جانب، ومن جانب آخر تبني رؤية تهدف إلى تخريج قيادات شبابية متميزة، تستطيع أن تدفع بالأجيال الشابة للعمل بفعالية في المجال العام، مع العمل على وضع قوانين أكثر ديمقراطية تنظم الحياة المدنية، وعلى رأس هذه القوانين قانون تنظيم الأحزاب والمؤسسات المدنية، وقانون الانتخاب التي يجب أن تصاغ وفق فلسفة ترمي إلى تعزيز بناء مجتمع مدني ديمقراطي فاعل. (10) إن إعادة الاعتبار للأحزاب التاريخية في ظل العملية السياسية، تدفع شريحة الشباب للالتحاق بها، وتعزز من روح الثقة بين الشباب وتلكم الأحزاب، كما أن السعي الجاد نحو دعم وبناء وتطوير الأوعية والمواعين المنظمة لحياة المجتمع -من أندية رياضية وشبابية وأحزاب سياسية، بعيدا عن الجهوية والطائفية وغيرها من التفريعات التي تعيق بناء المجتمع الديمقراطي والدولة المدنية- يعمق روح الثقة ويؤكدها؛ مع أهمية إناطة صلاحية حل أو وقف نشاط مؤسسات المجتمع المدني كافة بما فيها النقابات المهنية والعمالية بالقضاء، وتحريرها من تغول وتدخلات أجهزة الدولة إلا في حدود القانون ووفقًا للدستور. (11) ومن القضايا المهمة التي يجب أن تضمن خارطة الطريق، قضية تعزيز روح التسامح والإدارة السلمية للاختلافات، والتي لن تتأتى إلا من خلال الالتزام بالدستور وسيادة القانون، وفرض مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، وإصلاح التعليم وغرس ثقافة المدنية والمجتمع المدني في المواطن، منذ السنوات الأولى من عمره؛ فتفعيل إستراتيجية وطنية للشباب وتأهيله ليكون حادي ركب مسيرة النهضة الوطنية، وتعزيز أمر التحاقه بمؤسسات المجتمع المدني، هو الترياق المضاد الذي يقي البلاد من خطر التشرذم ،وانتشار الحركات العشوائية ضعيفة التأثير والتنظيم، ويمنع تفشي حالة السيولة التنظيمية المهدرة للطاقات، التي نحتاج تسخيرها لتنفيذ برامج النهوض والتنمية، التي تتطلب الإسهام الفاعل من الجميع، وتعتمد بصورة خاصة على سواعد وجهد الشباب. (12) ثم لابد من تأطير الحوار بين الشباب، بخلق مركز للحوار الوطني، يكون من أهدافه إدامة الحوار الشبابي بشكل دوري، وبطريقة منفتحة ومتحررة وديمقراطية؛ لبناء ونشر ثقافة مدنية سلمية، تشكل بنية أساسية راسخة للدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، والكف عن سياسة الاستقطاب الحاد التي تعطل روح العطاء والبذل الجماعي، وتؤخر الاتفاق المطلوب على المصالح الوطنية العاليا، التي يجب أن تكون خطًّا أحمرَ يحرم المساس بها، أو التفريط فيها، محصنة ومترفعة عن عبث المكايدات الحزبية الساذجة، وهيجاء تحصيل المكاسب الذاتية والتنظيمية الضيقة. ** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون. تيسير حسن إدريس25/11/2013م تيسير ادريس [[email protected]] //////////