في ذهن ( بكري ) أنه نَمِر ، لكن حقيقة أمره عُصفور صغير في مَهب ريح الدنيا ، تركته أُمه لرياحٍ عاتية . حَدَّثَ نفسه بأنه مُقبِلٌ على عُنوسة مُفرِطة . رفيق هو بوالدته باراً بها ، واخوته أكثر من صحاب . قذفت به الدنيا إلى المملكة السعودية أواخر السبعينات ، في زمن تتغنى الأفراح المُنفَلِتة من العُرف والتقاليد : ( .. السافَر جَدَة وخلاني براي ..) الأفق عند الهُروب من الوطن حِزمة ألوان . الصارِخ فيها والرمادي يترافقان . حياته الجديدة في حقيقتها بُنٌ يتراقص على ( قَلاية ) تُدهِنه بالحريق . تلَطفت الدُنيا بأسرته ، فقد كان أكبر الأبناء سناً . ركِب ( السودانية ) طائرة في العُمر الجليل ، خِبرة وتفوق كما يقول الإعلان عنها ! ، و ( إن شاء الله ايروييز ) كما تقول ( سوداناو ) الإنجليزية على مُغلفها أيام ( بونا ملوال ) وزيراً للإعلام ، قبل إعفائه من المنصب بدعوى النهل من الدراسات العُليا . المملكة في السبعينات سيدة تنشُد العِمران وتبحث عن شخصية مُميَّزة . الصحراء ذات طموح وكبرياء من مواضي التاريخ . ذات نفس شرِهة تطمح أن تتنَعّم لتبتني صرحاً من بنايات ودور عبادة وطرق وخدمات متقدمة . قَدم مندوبو الخدمة الحكومية من المملكة طلباً لتوظيف الخبرات السودانية . مقابلات قصيرة ، يطلبون بعدها الشهادات الجامعية ووثائق السفر . وجد ( بكري ) أن راتبه وفق النُظم سيصبح خمسة آلاف من الريالات . الحَمد والشُكر لله . قال لنفسه . بعد أسبوع تَسلّمَ وثيقة السفر وعليها إذن الدخول للمملكة . من مطار الخرطوم الدولي غادر بعد أيام . يومان من بعد ثم تسلمَ مليوني ( هَلَلَة ) بدائل للخدمات . بعدها بدأ العُمر مُشرقاً أوله ولا يعرِف كيف يكون الآخر ! . اقتطع من الزاد إلى أسرته وغطى الضروريات ثم تسلق سُلم الكماليات درجة.. ثم درجات . أبطأ الواقع ، و دخلت الأمنيات بيت الأحلام التي لن تتحقق قبل فوات الأوان . مرت السنوات وتضخَّمت العُنوسة في ذهنه ، وشهد بها العَدو قبل الصديق . بحثت له الأم عن شريكة عُمر ، وبحثت أخوات كانَ عن الصويحباتَ : هذه جميلة ولكنها مُستَحيلة كما قال شاعرنا . تلك مغرورة . ( سوسن ) قصيرة الشَعر ، واختلاط أعراق ! . ( راقية ) بنت قبائل ! ، لكِن ( مَخطوبة ) . ( نرجس ) ( دَلوعَة ) و ( صباح ) ( مَشكِلتَا عَضم الشيطان ! . في إحدى العطلات السنوية زار صديقه عثمان الذي يعمل في مؤسسة حكومية في الخرطوم . لم يلقَ الترحاب اللائق إلا بعد أن تأكد الجميع أن الضيف القادم من السعودية ، وليس من ( المسعودية ) ! . لن نُقلل من شأن قُرانا والضواحي التي عرفت النِعمة قبل أن يعرفها الآخرين ، لكن للبشر طبائع !. النُفوس تُحب المال ، والعودة للفلكلور المُدجج بالنِعمة والبطر هي السِمة الغالبة في ذلك الزمان . البَذخ الماسِخ .. تشاهد فُستان الرقيص تُغطيه أوراق الدولار الأمريكي حِياكَة ! ، أو قلائد الذهب التي تفترش الشَعور والصدور , المَشَاعِر .. . الجمال عندهم مقياسه الكَثرة . العروس لَمَنْ ترقُص : ( زي ما بقول ود الفتيحاب العينُو حارَّة : عِلبَة بنسُون ! ) . السِعة في غير مكانها الطبيعي المُتحَضِر . حِس الاستهلاك أضخم من ترتيب الأوليات ، وهنا تدخُل المأساة البيوت من أبوابها الواسعة . تلك بِدعة استهلاكية وعلى الجميع اتباع النهج . يبدع البعض في المُحدَثَة أو ( الصَرعة ) ويأتي المُقلِدون من بعد ! . كثير من العذراوات يمُتنَ من الحسرة ، كما يقول المثل المصري : ... في الآخِر ناس تموت في الرِجلين ! نعود إلى صاحبنا (بكري ) كما يوصفه حاسد إذا حَسد : الشِبشِب العَالي وريحة ( الكاشيت ) تملا البَكَاسي ، يالا .. ناس المملكة وصلوا !. نظر جوار صديقه فلمح زميلة عمل بهره جمالها . تجذبك أنتَ من حيث تدري ولا تدري . رقة وهندام ، ولطف وبسمة مُشبعة بالحنين ، وسقط قلب صاحبنا في فراغ جوف الصدر ، كأن مقعده على طائرة تُوشك الهبوط .سوار رقيق حول معصم الفاتنة بزُخرف لن تَعرف تفاصيله إلا حين تُمسِك اليد الناعمة بين أصابِع اعتادت الجَفوة وعمل الصحارى . ملمس الفرو ونُعومة الحرير تُحرك قاع الذهن بأن الحُلم يا ولدي قادم : ( لن نصوم ونُفطِر على بَصلة ) . ترقق ( بكري ) في الحديث ، وعلا الإبهار . عيناها تبرقان بوهج وتتحدث هي باهتمام . سهام العيون تقتال النفوس التي عطَّشتها حياة العزوبية : ( رُجَال سَاكِتْ ! ) ، وقد قدمت لأرض النيل ومنبع الخُضرة . يا الله .. إنتي وين من زمان ؟ همس لنفسه سراً ، وتفتحت الدنيا بمصابيحها وتجسد الحُلُم امرأة مُكتملة الإقمار ، تعوِّض ما مضى من العُمر . سيبدأ العُمر الزاهر من هُنا .. يا فرحَتي الكُبرى ! . قال لنفسه : رُبَّ صدفة خير من مواعيد الدُنيا . لولا وصية صديقي أحمد ، لما تيسر لي أن أشاهد امرأة ارجوا أن تكون من النصيب . العُطلة السنوية دوماً لا تكفي . خيارات الآخرين دوماً لا تصلُح . هذا العام ( عِرِس طَوالي ) ، وضحك الملاك القابِع في ذاكرته : ( إنتُو يا العَزابة كَلامكُم عَجيب ) !. حاول ( بكري ) أن يتماسَكْ وهو في ارتجاجٍ عظيم : ما تعرفنا .. ( لم يذكر الآنِسة ) فقد اختلطت الفرحة بمشاعر الحرمان . ردت الفاتنة بيسر وثبات : انتصار . قال لنفسه : ( أنا ربنا رادني ساكِت رغم أني مُقصِّر معاهو ! . الله ينعَلَك يا إبليس ) ثم تنفس عميقاً وقال : أنا ( بكري صدِّيق المُبارك ) ...، صُدفة غريبة جَمَعتنَا ... بُهِتت الحسناء التي أمامه من تركيبة حديثه وتراجعت نفسها الطَلِقة ، وبدأ على وجهها مسحة من تردد كأن أريحيتها مع الضيف قد تجاوزت الحد . تراجعت العيون التي تُرحِّب ، وحلّت نظرات التوجُس وخبأ البريق .( الله ..) .أحس ( بكري ) أنه قد أخطأ ، وأن لسانه قد فضح المشاعر . انهزم الأوتوكيت المُتصنَّع وتشتت الأفكار . غاص صاحبنا في وَحل لا يعرف كيف يَخرُج منه ، وبعد تردُد أفصح : آسف .. ما قصدي . هُنا خاطبته نفسه الأمارة بالحُب : إنتَ قاصِدا يا المَطمُوس . ردت الفاتنة باقتضاب : معليش . تغير الطقس و انكبَّت الفاتِنة تُدون في أوراق أمامها . تحول جسد صاحبنا من ضيف رقيق الحديث إلى تمثال خشن يتعين تجنبه . عاد صاحبنا لمُحادثة صديقه ، وبدأ أن المُعاملة الحازمة من جانب ( انتصار ) قد أثلجت صدره . قالت له نفسه : خِلقَة وأخلاق ! يا سلام ، لكن أنتَ ما عِندكْ لَفِظ !. الشُغُل وسط العَزابة في المملكة بَوَظكْ يا الحبيب ! مضى الحديث سلساً مع صديقه ، وبدأ ( بكري ) مُقسَّماً بين صديق تجمعه العُشرَة ، وامرأة إلى الجوار هبطتْ من الأحلام إلى الواقع ، يختلس النظر إليها بين فينة وأخرى وتذكَّر .. ليته لم يتذكر . هاجس هبط عليه فجأة فقال : أنا نسيت يا أبو عفان .. ، عِندي جواب ودولارات وصية من زميل معانا في المملكة ، زوجتو إسِمها ( انتصار عبد المَحمود ) بتشتغِل معاكم في المؤسسة ) ؟ . ضحك ( عثمان ) قائلاً : صاحبَك الفي السُعُودية دة مُبَرِّك ليهُو فَكي ؟. رد صاحبنا : ليه ؟ استدار ( عثمان ) بفرح إلى ( انتصار) وهو يقول : البُشارة يا مَدام ( انتصار ) .. أخونا ( بكري ) جايب المَصاريف !. ( بُهِتَ الذي أحَبْ ) . الآن.. ترنح الحُلم من سيل الرصاص الكثيف . ريح تلُف مزرعة الفرح ، تقتلِع النبات من جذوره . نظرت نفس صاحبنا إليه بسُخرِية وهي تقول : الله .. طلَعَتْ مرتْ صَاحبَكْ ، يالا سَلِّم الوَصية وأركَبْ الظَلَط ، إنتَ ما عِندَكْ نصيب يا المنحُوس . هبطَ آدم من جنه أحلامه .. ( وَقَعْ في الوَاطة وسَفَّ التُراب ) ! . مضى النهار بما مضى من الحسرة ، و في جلسة قهوة المَغربية ، رمى ( بكري ) بشباك الصيد التقليدية ، وسأل والدته : يالا يا حَاجة .. شُوفِي لينا عروس . ردت الحاجَّة وهي تتبسم : عِندي ليك عَروس سميحَة وبِتْ ناس و ( خَدَّامة ) . عبد الله الشقليني 24/08/2005 م [email protected]