مرتزقة أجانب يرجح أنهم من دولة كولومبيا يقاتلون إلى جانب المليشيا المملوكة لأسرة دقلو الإرهابية    بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    إتحاد الكرة يحتفل بختام الموسم الرياضي بالقضارف    دقلو أبو بريص    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    أكثر من 80 "مرتزقا" كولومبيا قاتلوا مع مليشيا الدعم السريع خلال هجومها على الفاشر    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خاطرات شقية فى موسم المؤتمرات الحزبية ... بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
نشر في سودانيل يوم 07 - 10 - 2009


[email protected]
-------------------------------------------------------------------
(1)
الحراك فى الساحة السياسية مطلوب ومرغوب ومحبّذ. لذا فان كل وطنى غيور على سلامة وحيوية مسيرة التنمية السياسية فى بلدنا الممحون لا بد ان يرحب ويتفاءل ويتفاعل مع كل حراك فوق خشبة المشهد السودانى العام. وقد عايشنا وتابعنا مؤخرا حركة مؤتمر تجمع الاحزاب السودانية فى جوبا، ثم حركة مؤتمر الحزب الحاكم فى الخرطوم. والحكمة الشعبية تعلمنا ان: (كل حركة بركة). وليس أحب الى نفوسنا من ان يتداعى اهل الحل والعقد فينا فيأتمرون تحت شجرات الرضوان، فى الخرطوم وفى جوبا وفى غيرها، على البر والتقوى وحب السودان. أما وقد شهدنا "الحركات" هنا وهناك، فاننا ننتظر، باذن الله، موعودنا من "البركات"!
(2)
أهمنى من أمر مؤتمر العصبة المنقذة، الذى انفض سامره بداية هذا الاسبوع، ما رددته وسائط الاعلام عن خلاف بين بعض اساطين المؤتمر الوطنى حول تعديل النظام الاساسى للحزب بشأن معالجة العلاقة بين رئيس الحزب ورئيس الجمهورية. قالت "الشرق الاوسط" اللندنية:(اندلعت خلافات داخل اجتماع شورى الحزب، الذى مهد للمؤتمر العام، حول تعديلات مقترحة فى النظام الاساسى للحزب .. ومن بين التعديلات الخلافية مطالبة بفصل منصبى رئيس الجمهورية ورئيس الحزب، بحيث يشغل المنصب شخصان لا شخص واحد). كم هو عجيب ومثير للحيرة كيف ان الروح الشمولية ما زالت تنؤ بكلكلها على صدور بعض القوم فما تخلّى امام نسائم الديمقراطية كوّةً تعبر منها الى هذه النفوس المعذبة المهجوسة بأهواء الحكم السلطوى المنفرد. لم اصدق انه ما يزال هناك فى حزب المؤتمر الوطنى من يستمسك بنصٍ لائحى يقرر ان يكون رئيس الحزب رئيساً الجمهورية!
اول ما خطر بذهنى رواية سمعتها عن وزير رئاسة الجمهورية الراحل الدكتور بهاء الدين محمد ادريس. فقد دخل اليه فى محبسه بسجن كوبر، عقب انتفاضة ابريل، ممثل عن جماعة مايوية ارادت ان تشرع فى بناء تنظيم يجمع شتات المايويين بعد فرقة، وهناك عرض عليه ممثل الجماعة الفكرة، ثم سأله بعد ذلك عن رأيه فى عودة الرئيس المخلوع جعفر نميرى من منفاه بالقاهرة لقيادة التنظيم الجديد فى الخرطوم. اطرق الدكتور بهاء الدين قليلا ثم فاجأ محدثه بالقول ان هذا الامر يربكه لدرجة انه لا يعرف ما يقوله، وذلك لسبب بسيط وهو انه لا يستطيع قط ان يتصور، مجرد تصور، ان يكون جعفر نميرى فى الخرطوم دون ان يكون رئيسا للجمهورية! ويبدو لى ان الحالة التى انتابت وزير القصر الاسطورى السابق، تغشته الرحمات، هى نفس الحالة التى تلبست بعض قيادات وكادرات المؤتمر الوطنى. لا احد من هؤلاء يستطيع ان يتصور – ولو من الوجهة النظرية المحضة - السودان دون ان يكون المشير عمر البشير، او على الاقل اى شخصية اخرى من حزب المؤتمر الوطنى، على رأس الدولة متربعا فوق اريكة الحكم.
هل يعرف هذا الفريق من اعضاء حزب المؤتمر الوطنى معنى مصطلح " نظام ديمقراطى"؟ أشك. والا لما وقعوا فى هذا التخليط المحيّر الذى لو سمع به الناس فى الدول التى تسودها الثقافة الديمقراطية وتحكمها نظم الحكم المتحضرة لفغروا افواههم وجحظت أعينهم. لو كنت، ايها العزيز الاكرم، ملما بالديمقراطيات ونظمها فتخيل معى ان يكون هناك نص فى النظام الاساسى للحزب الديمقراطى، اوالحزب الجمهورى فى الولايات المتحدة يقرر ان ( يكون رئيس الحزب رئيسا للولايات المتحدة). او ان تنص النظم الاساسية لحزبى العمال والمحافظين فى بريطانيا على ان (يكون رئيس الحزب رئيسا للوزراء)!
الوصول الى السلطة هدف مشروع لكل من ولج ابواب السياسة. ليس فى الحقل السياسى من هو زاهد فى تولى الحكم ومن يزعم ذلك فهو كاذبٌ ضليل. الاصل فى العمل السياسى ان يحمل رجاله و نساؤه مبادىء وبرامج يؤمنون بصلاحيتها لتنظيم المجتمع والدولة وقيادتهما، والسبيل لانفاذ هذه القواعد النظرية هو السلطة. وللسياسى البريطانى العجوز ديفيد ستيل مقولة شهيرة تذهب الى ان ( السلطة من غير مبادئ منتنة، ولكن لا فائدة لمبادئ من غير سلطة تنقلها من علياء المثال الى ارض الواقع) . ونحن نعلم ان بعض دهاقين المؤتمر الوطنى يتوقون الى ان تظل السلطة بين يدى حزبهم يلعبون بمقاليدها لعب الصوالج، كما ظلوا يفعلون على مدي عشرين عاما. ونعلم ايضا من دراسة الواقع السياسى الشاخص امامنا ان فرص القوى السياسية المناوئة فى ازاحتهم كلياً من مواقع الحكم فى الانتخابات القادمة لا تجاوز خانة الصفر. ولكن الاصول الديمقراطية تقتضى من رجال الحزب ونساؤه ان يفهموا انه ليس هناك حزب راشد فى نظام ديمقراطى حقيقى تنص لوائحه على ان (رئيس الحزب يكون هو رئيس الجمهورية). لماذا؟ لأن أصل الممارسة فى العمل السياسى الذى يستقصد الوصول الى السلطة عبر الوسائط الديمقراطية هو ان يتم قتل الدب اولا، ثم بيع فرائه بعد ذلك. وفى حالة اخوتنا من المتمترسين خلف النص الشمولى فى نظامهم الاساسى الذى يوحد بين رئاسة الحزب ورئاسة الجمهورية، فانهم يبيعون الفراء قبل قتل الدب. اى انهم يقررون فى نظامهم الاساسى ان رئيس حزبهم سيكون هو رئيس الجمهورية قبل ان يدلى الناخبون بأصواتهم فى الانتخابات الرئاسية التى يفترض – من الناحية النظرية على الاقل – أن مرشحين آخرين سيخوضونها فى مواجهة رئيسهم، وان نتيجتها لم تحسم بعد!
(3)
كل مؤتمرات الدنيا تنتهى أشغالها الى خلاصات يتم تفريغها فى شكل مقررات مدونة تصدر فى نهاية جلساتها. هذه المقررات يفترض انها تعبر عن جوهر المؤتمر وتبسط نتائجه امام الكافة. غير ان هناك – الى ذلك- فهم عام يتصل بثقافة المؤتمرات مؤداه ان قسطا كبيرا من قيمتها الحقيقية لا يدور حقاً فى مدار المسطور من الوثائق والمنشور من الاوراق، بقدر ما يكمن ويتجذر فى التعاملات التى تدور خلف ابواب مغلقة بين الاطراف المختلفة، على هامش الجلسات المفتوحة والمناشط المعلنة. وهى التعاملات التى تنتهى غالبا الى اصناف من التعاقد بين هذه الاطراف على مواقف وتوجهات مرحلية واستراتيجية، وهى تعاقدات ينشئها الكلام دون ان توثقها الكتابة، وتؤسسها اتفاقات الجنتلمان بغير استيفاء لمقتضيات الاشهار. ونحن نتمنى من الله ان يكون ذلك هو حال مؤتمر جوبا، وان تكون اطرافه ذات الوزن المقدر من القوى السياسية المختلفة قد تواثقت على تفاكير وتدابير ذات فاعليات تغييرية مؤثرة. فان كانت مثل تلك الائتمارات والتواثقات قد انعقدت فعلا خلف الابواب المغلقة فحباً كرامة، أما اذا كان الامر غير ذلك وكانت المقررات المعلنة والمنشورة، التى اطلعنا عليها وحصحصناها، هى عصارة ما انتجت جوبا وزبدة ما انجز رجالها ونساؤها فلنقل على مؤتمرها السلام. لماذا نقول ذلك؟
نقوله لاننا لم نجد فى الجسم العام للمقررات المعلنة ما يشى بجديد يشرح القلب ويغرى النفس بارتياد مشاتل الامل والتفاؤل. تضمنت اغلب فقرات البيان الختامى ترتيبا نصيا مكرورا لمطالب مستعادة متفق عليها بين غالبية القوى السياسية، باستثناء الحزب الحاكم بالطبع. والسودانيون فى جملتهم، بعد خصم الذين اختاروا منهم موالاة الحزب الحاكم، يحفظون هذه المطالب عن ظهر قلب. ما يصبون اليه حقاً ليس ترديد هذه المطالب، ثم اعادة ترديدها، بل تفعيل الطاقات والقدرات المُنجزة للتغيير تفعيلا يعين على خلق واقع سياسى يفرض على نظام الانقاذ الاستجابة لهذه المطالب رضاءً او غصباً.
سرنى – مع ذلك – واثلج صدرى ان مقررات جوبا تضمنت بندا تبنى فيه المؤتمرون من قادة الاحزاب السياسية وقوى المجتمع المدنى نداءً موجهاً لنظام الانقاذ بالاعتذار عن اخطاء الماضى واعتماد منهاج " الحقيقة والانصاف والمصالحة " الذى سبقنا الى سبيله عدد من بلدان العالم المبتلاة مثلنا بالمحن. وهو المنهاج الذى دعونا اليه قبلاً وآزرناه ووقفنا تحت مظلته بمحاذاة قوىً وطنية أصيلة داخل السودان، وذلك فى مواجهة انتقاداتٍ وتهجّماتٍ ساذجةٍ عبيطة من جهة المتنطعين من رافعى اللافتات. جاء فى البيان الختامى: (تسجل المظالم ويتم الاعتراف بها والاعتذار عنها كمدخل للمصالحة الوطنية الصادقة. ويوصى المؤتمر بان تقوم رئاسة الجمهورية بتكوين لجنة مستقلة للحقيقة والمصالحة ...).
وسرنى، قبل ذلك، ان جماعة جوبا قد جعلوا من المادة الاولى لبيانهم الختامى تحت عنوان (الحوار والاجماع الوطنى) نداءً عاماً لاهل الانقاذ للدخول فى حوار شامل مع كل القوى السياسية وقطاعات المجتمع المدنى، ثم صرحوا بأن (بلادنا احوج ما تكون لمثل هذا الحوار فى ظرف بلغت فيه تعقيدات الازمة شأوا بعيدا). تتداعى القوى السياسية والمدنية للحوار مع الانقاذ وتجاهر بدعوتها، بل تحسب ان طريق الحوار هو الطريق الوحيد لخلاص البلاد من وهدتها بعد ان استحكمت حلقات الازمة. وهو ذات المنهاج الذى بشرنا به مع غيرنا – قبلاً - حين دعونا هذه القطاعات الوطنية الا تهاب ولا تستنكف ولا تستخزى من ارتياد طاولات الحوار واعتلاء منابره، تقارع رجال العصبة المنقذة ونسائها وتناجزهم الرأى بالرأى والحجة بالحجة، ثم تبسط مواقفها الامينة، كما فعل الاحرار من الاعلاميين العاملين بالخارج فى مايو الماضى، حين لبوا دعوة الحوار ثم صدعوا فى جلساتهم ومواثيقهم ثم فى بيانهم الختامى بمطالبتهم للعصبة المنقذة برفع الرقابة القبلية عن الصحف، ومراجعة وتعديل قانون الصحافة والمطبوعات، وكفالة حرية الفكر والتعبير، وتوسيع قواعد الحقوق العامة. وقد واجهنا فى سبيل دعوتنا تلك - لارتياد مسالك الحوار - ذات الانتقادات والتهجّمات الساذجة العبيطة من تلقاء مناضلى الغفلة وثوار آخر الليل.
(4)
اعترف بأننى فوجئت ودهشت تماما لاشتمال المقررات على انذار وجهته قوى مؤتمر جوبا للحكومة القائمة بالاستجابة لمطالب معينة تتصل بتغيير حزمة من القوانين المتصلة باستحقاقات التحول الديمقراطى، ثم امهالها حكومة الانقاذ – لانفاذ الشروط - مهلة موقوتة بشهرين اثنين تبلغ تمامها فى الثلاثين من نوفمبر 2009. وهددت فى حالة اخفاق العصبة المنقذة فى الوفاء بمقتضيات الانذار بالانسحاب من العملية الانتخابية فى 2010. سبحان الله. بعد كل هذه العقود والحقب لم تجد احزابنا وقوانا السياسية المدنية بدا من ان تلجأ الى تدابير تكتيكية ارتبطت تاريخيا بخصمها اللدود: الجبهة الاسلامية القومية، فحزب الجبهة، هو من ابتدع " انذارات الشهرين" وادخلها القاموس السياسى السودانى. كان حزب الجبهة الاسلامية المشارك فى حكومة الوحدة الوطنية بقيادة السيد الصادق المهدى، خلال حقبة الديمقراطية الثالثة، قد وجه انذارا للحكومة بتطبيق الحدود الشرعية المجمدة المتضمنة فى القوانين السبتمبرية فى مدة اقصاها شهرين اثنين، وهددت فى حالة انقضاء المهلة بالانسحاب من الحكومة. ماهو سر "الشهرين" فى انذارات احزابنا السياسية؟ اهى مجرد مصادفة ان كل انذاراتنا مدتها شهرين؟ ولماذا لا يصدر سياسيونا انذارات تمتد الى ثلاثة اشهر مثلا؟!
مهما يكن فان التاريخ يحدثنا انه بعد انقضاء مهلة الشهرين وعدم استجابة حكومة المهدى لشروط الانذار فان الايام توالت على حالها دون ان يحدث شئ ذو بال اذ ينسحب وزراء الجبهة من الحكومة. بل استمر وزراؤها يرتعون فى مرابع السلطة دون ان تذكر لا هى ولا معارضيها شيئا عن الانذار العجيب، وذلك حتى خلقت مذكرة القوات المسلحة الشهيرة فى بداية العام 1989 واقعا جديدا فرض على السيد الصادق المهدى ان يزيح وزراء الجبهة الاسلامية من حكومته. ومن عجائب تصاريف الزمان ان الجبهة الاسلامية القومية التى أملت على رئيس الوزراء المنتخب آنذاك شرطا يلزمه بتطبيق احكام الشريعة الاسلامية فى مدة اقصاها شهران، ثم ملأت الساحات بمتظاهريها تحت شعار (ثورة المصاحف) لدعم ذلك الشرط الموقوت، عادت لتتولى الحكم بعد ذلك عبر جنازير الدبابات، وتخندقت فى سدته عشرين عاما حسوما، ومع ذلك لم يتهيأ لها هى نفسها تنفيذ شرط تطبيق القوانين الحدية الشرعية التى ارادت ان تلزم رئيس الوزراء المنتخب بتنفيذه فى ستين يوما.
ومن عجب ان الجبهة الاسلامية التى استنسخت نفسها فى حزب المؤتمر الوطنى لم تعد تشير لا من قريب ولا من بعيد الى تطبيق الشريعة الاسلامية، بل ان مؤتمرها العام الذى انفض سامره فى بداية هذا الاسبوع اورد على استحياء عبارة واحدة فقط عن( قيم) الشريعة الاسلامية، لا عن الشريعة الاسلامية نفسها. و تشبه العبارة الى حد كبير العبارات التى وردت فى دستور1973 المايوى العلمانى. جاء فى الفقرة السابعة للبيان الختامى لمؤتمر الحزب الحاكم:(يؤكد المؤتمر انه مصمم على بناء حزب قائد لوطن رائد، يبنى نهضته وعزة شعبه على دوافع الايمان وقيم الشريعة الاسلامية السمحاء .. ثم على العلم والمعرفة والبحث العلمى). يتحدث المؤتمر الوطنى هنا عن (قيم الشريعة السمحاء)، اما الشريعة نفسها وتطبيق احكامها وانفاذ حدودها، فقد صمتت عنها صمت القبور، كأنها لم تضع باسمها من قبل شروط الشهرين، وكأن جموعها لم تملآ الطرقات والميادين يوما تهدد بالويل والثبور المتخاذلين والمسوفين فى تطبيق الشريعة وانفاذ الحدود، وكأنها لم تنفذ انقلاب 1989 بزعم حماية حدود الله والتصدى لمحاولات الارتداد عنها.
ولا اكاد اعرف شيئا فى هذه الدنيا اكثر طرافة وعجباً من ان تبادر الآخرين بشروط، كالتى اعلنتها جماعة جوبا، ثم تهددهم باتخاذ مواقف لا تنتقص منهم ولا تضيرهم فى شئ ان هم اخفقوا فى الوفاء بتلك الشروط. بل لعلك تجد هؤلاء الآخرين اسعد الناس ان هم اخفقوا فى تنفيذ المطالب فوقعوا تحت طائلة الجزاء المتوعّد. ماذا يضير العصبة المنقذة لو ان المهددين نفذوا وعيدهم بمقاطعة الانتخابات حين يؤون اوانها؟ لا شئ. فالعصبة تقبض بيد من حديد على مقاليد الحكم التى اخذتها ذات يوم غلابا من ايدى اصحابها المنتخبين، ولا ارى الا انها ستمضى قدما تمارس الحكم وتستعذبه وتستطيبه لو ان الانتخابات لم تقم فى ميقاتها المضروب.
وماذا يضير الحركة الشعبية لتحرير السودان، الشريك الثانى فى السلطة القائمة، والتى تضع رجلا فى بيت الحكومة ورجلا فى بيت المعارضة، ان لم تقم الانتخابات فى موعدها؟ لا شئ. الواقع ان كثيرا من المحللين يرون ان الحركة لا تريد أصلا للانتخابات ان تقوم لا فى ميقاتهما المضروب ولا فى غيره. هدف الحركة الحقيقى هو تنفيذ الاستفتاء على تقرير المصير، فقيام الانتخابات وظهور نتائجها قد يضع فى المحك مشروعية ما كفلته اتفاقية نيفاشا للحركة من حقوق وامتيازات، فماذا لو كشفت نتائج الانتخابات عن ان كسب الحركة وحجمها الانتخابى الحقيقى يقل عن ما قررته لها الاتفاقية وهو ثمانية وعشرون فى المائة من السلطة والثروة؟! ثم ماذا تريد الحركة اصلا من انتخابات لرئاسة الجمهورية اذا كانت قطاعات واسعة من قياداتها وكادراتها ترجح خيار الانفصال وتتهيأ له؟ بل ان الهمس والاقاويل يملآن دوائر الاوساط العليمة فى الخرطوم بأن قيادات الحركة الشعبية والمؤتمر الوطنى شرعا بالفعل – من وراء ابواب مغلقة - فى مناقشة ترتيبات الانفصال ومعالجة اجندته البالغة الحساسية، كتلك المتصلة بمياه النيل، وديون السودان، وترسيم الحدود، وحقوق المسلمين فى دولة الجنوب المستقلة.
(5)
ولك – يا هداك الله – ان تتأمل فى مطلب يتعلق بمعضلة شديدة التعقيد كمعضلة دارفور، وكيفية صياغتها. جاء فى البند 5 (ب) من المادة الرابعة من مقررات جوبا هذه الكلمات الثلاث: (حل مشكلة دارفور). نقطة. انتهى. هكذا. ثلاث كلمات فقط. ما اعظم المشكلة وما اهون الكلمات. ومن عجب ان يكون فى مقدمة واضعى هذا المطلب الدكتور حسن الترابى الذى ولدت كبرى التنظيمات الدارفورية المتمردة على يديه الخلاقتين، وخرجت من عباءته، كما خرج مكسيم غوركى من معطف جوجول. ورفد الترابى متمردى دارفور او ثوارها (حسبما يكون موقعك بين المتقاتلين) بخلصاء انصاره، ووفر لهم، بمعونة مساعديه وعلى رأسهم الدكتور على الحاج، الدعم المادى والغطاء الدينى والاسناد السياسى، يبتغى تصفية حساباته مع غرمائه من تلاميذ الامس. من عجبٍ انه يعود اليوم ممتطيا حصان الحركة الشعبية لتحرير السودان ليطالب نفس التلاميذ ب (حل مشكلة دارفور) واعادة المارد الى قمقمه قبل الشروع فى العملية الانتخابية، بل ويعرض نفوذه الشخصى ووزنه السياسى للمساهمة فى نزع فتيل الحرب. ذات المارد الذى اخرجه هو من القمقم. نِعم المطلب ونعم المُطالب. يقول المثل الشعبى فى شأن من كان عمله كعمل الشيخ الترابى ( يفلق ويداوى )!
ولكننا نعود من حيث بدأنا فنقول: هنيئا للعصبة المنقذة بمؤتمرها، وهنيئاً لعصبة جوبا بمؤتمرهم. وهنيئا لشعب السودان بالحراك السياسى الذى ينتظم ساحاته. وهو حراك يؤمن كثيرون بأنه يحمل جذوة الأمل فى تطورٍ راشد باتجاه مزيد من الوفاق السياسى والانفتاح الديمقراطى. (ما اضيق العيش لولا فسحة الامل).
عن صحيفة ( الأحداث )
مقالات سابقة:
http://sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoname=%E3%D5%D8%DD%EC%20%DA%C8%CF%C7%E1%DA%D2%ED%D2%20%C7%E1%C8%D8%E1&sacdoid=mustafa.batal


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.