الصالة المكتظة بالمغادرين، والضجيج والصخب، وتأخر إقلاع رحلتي، وذلك (الخواجة )، صاحب القبعة، والنظارات السوداء، والقميص المشجّر، وبنطال (البرمودا)، ونظراته التي يرسلها تجاهي بين الحين والآخر، ثم يميل ناحية رفيقته الشقراء ويتهامسان. كل ذلك مجتمعاً، زاد من استفزازي، و توتر أعصابي، لدرجة أنه خطر لي أن أغادر مقعدي، وأذهب لهذا ( الخواجة)، وألقنه درسا في السلوك.يبدو أنه قرأ ما يجول بذهني، إذ رأيته يقف متأبطاً ذراع رفيقته، ويتجه نحوي مباشرة. وما كان مني، إلا أن أقف متأهباً لما ستتمخض عنه هذه المواجهة. -آسف يا ابن العم، بس أنا من قبيل، مشبِّهك على واحد صاحبي، لي زمن ما شفتو. فاجأتني لغته العربية سودانية النغم، ودون أن يترك لي مجالاً لابتلاع الدهشة، أزاح قبعته وخلع نظارته. فغرت فاهي، واتسعت عيناي، وصحت من خلف اللاشعور: (الحمريطي.؟؟) الحمريطي، (كما كنا نناديه لبياض بشرته)،الفتى المتمرد المشاكس، الحالم دوماً بالهجرة خارج الوطن، إلى مدنٍ بعيدةٍ، متلألئة لامعة. حيث الانفتاح، والعلم والحرية، والحياة المتجددة. في زمنٍ كانت فيه، حتى الهجرة داخل الوطن، غير مرغوبٍ فيها. كنا وقتها في أول الشباب، لنا أحلامنا في الحياة والحب والاستقرار. إلا هو، حلمه الوحيد، الهجرة، وهوايته الوحيدة، الجلوس بالساعات عند شاطئ البحر، يراقب السفن القادمة والمغادرة. حاول، ونجح في أن يجعلني أشاركه حلمه: - دي عيشة دي، عاملين زي تور الساقية. نلف طول عمرنا في دائرة مفرغة،وظيفة،ترقيات، تنقلات، زواج، عيال،ثم في نهاية الأمر،رصاصة الرحمة من الحكومة،المعاش. هكذا كان يزن في أذني دائماً: - شوف الناس برّه عايشين كيف ؟ الف فرصة وفرصة قدامك، عشان تبقى بني ادم، وتحس انك عايش صاح. تتعلم، تشتغل،ترتقي، تكسب. ثم تلمع عيناه، وهو يعدد على أصابعه المدن التي يحلم بها: - باريس، لندن، أمستردام، جنيف،برلين، الله .. الله. وحين يتعب من الكلام والوصف، يشبك أصابع كفيه، يتكئ عليهما بذقنه، يسرح بعيداً وابتسامة حالمة تعلو شفتيه. اتفقنا أنا وهو على مبدأ الهجرة،كيف ؟ متى؟ أين؟ - خلي التخطيط والتنفيذ عليّ، انت بس خليك جاهز. هكذا حمل المهمة على عاتقه. لظرفٍ ما، سافرت إلى مسقط رأسي لبضعة أيام، امتدت أسابيع. حين عدت، بحثت عن الحمريطي، فلم أعثر عليه. سألت عنه في مكان عمله، في سكنه، لا أحد لديه إجابة مقنعة. من يقول انه شوهد آخر مرة(يتحاوم) عند الميناء، ومن يؤكد أنه عاد إلى مسقط رأسه، والمتشائمون تبنوا فرضية انتحاره. تعددت الأقوال وتناثرت الشائعات، الا أني أيقنت بأن (الحمريطي) فعلها. حز ذلك في نفسي.ثم شيئاً فشيئاً، ومع تقلبات الحياة، ودوران عجلة الزمن، استقرت ذكراه في قاع النسيان، وتمددت أحلامي باتجاهٍ آخر. في جلستنا تلك، حكي لي الحمريطي، كيف أنه انتظرني لأرافقه، حين هيأ له أحد البحارة، طريقاً للتسلل إلى داخل السفينة التي يعمل بها، و أنه اضطر للمغادرة في آخر لحظة، عندما يئس من حضوري، وأنه لم يشأ أن يخبر أحداً بذلك. حكي لي عن معاناته، وتشرده وجوعه، في الأعوام الأولى لهجرته، وكيف ارتضي أن يعمل في وظائف متدنية، في ظروف مزرية، إلا أنه لم يترك لليأس مجالاً للتسرب إلى نفسه. كافح ودرس وتعلم، وبدأ السلم من أوله. خلال ثلاثة عقود، استطاع أن يحقق جزءا كبيرا من أحلامه، استقر ماديا، تزوج، أنجب. وأصبح مواطناً، يحمل جنسية البلد الذي يعيش ويعمل فيه، وأنه عاد الآن، لأول مرة لزيارة أهله. أشار إلى رفيقته وعرفني بها: - هذه زوجتي ثم قال بحسرة وأسى: - لن أكرر مثل هذه الزيارة ثانية، لقد تغيّر كل شيء، البشر، الأشياء، المدن، العلاقات والعادات والقيم. حتى اللهجة اليومية الدارجة، اكتسبت مفردات ومصطلحات جديدة بفعل التغيرات الاجتماعية والسياسية، ولم تعد تلك اللهجة التي كنت أعرفها. أنهى الإعلان عن رحلته حديثنا. أخرج من جيبه قصاصة ورق، كتب عليها عنوانه، وأرقام هواتفه. ناولني إياها. تعانقنا، ربت على كتفي وهو يبتسم: - لولا أنك تأخرت يومها، لكنا الآن نغادر سويا. بادلته الابتسام، لوح بيده وغادر. جلست أتابعه، حتى غاب هو ورفيقته خلف بوابة المغادرة. سرحت مع ذكرياتي، ومقارنات غير مجدية. زفرت وكأني أتخلص من حمل ثقيل. حين انتبهت، وجدت أني، و دون أن أعي، صنعت من قصاصة الورق التي عليها عنوان الحمريطي، مركِباً. بنصف ابتسامة، وبهدوء مزقتها قطعا صغيرة. وأنا في طريقي للمغادرة، ألقمتها سلة النفايات. الطيب محمود النور 1/1/2014