كُثر الحديث هذه الأيام حول العطلات الرسمية المتتالية في السودان، إلى الدرجة التي أثارت شفقة المشفقين على تقدم هذه البلاد وتطورها. إذ إن العمل من العوامل الرئيسية في مضاعفة الإنتاج، وتحقيق النماء والازدهار للبلاد والعباد. وأكبر الظن عندي، أن السودان يُعد من أكثر دول العالم منحاً للعطلات الرسمية، مما يشكل خللاً بيناً في مستويات العمل، وتقديرات الإنتاجية، في زمن أحسب أن السودان أكثر حاجة لأي دقيقة في العمل لمضاعفة الإنتاج والارتقاء بالأداء في مختلف الهياكل والوظائف داخل الدولة وخارجها. ولما كانت قيمة العمل في الإسلام سامية الدرجة وعالية السمو، إذ اعتبر أي عمل مُباحاً واقترنت به نية الزلفى إلى الله تعالى، فإنه يدخل في جنس العبادة، من ذلك أن المرء إذا ذهب إلى عمله وفي نيته أن يستعفف به ويؤدي ما أوجبه الله عليه من النفقة على زوجته وأولاده، كان بذلك عابداً لله؛ لأنه لو قصر في ذلك حتى ضيعهم آثم به. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ". وقد تتابعت الأحاديث النبوية في الحض على العمل والنهي عن السؤال. وجاء في الكتاب والسنة، ما يحمل معنى أن العمل عبادة، وأنهما لا يفترقان في التصور الإسلامي، ولا يتعارضان، بل كلاهما يستدعي الآخر؛ لأن العبادة عمل، والعمل عبادة. وفي ذلك قول الله تعالى: " وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ". وجاء في الحديث " خيركم من يأكل من كسب يده، وأن نبي الله داود كان يأكل من كسب يده". وأحسب أن العطلات الرسمية التي تترى علينا بين الحين والآخر، هي في حقيقة أمرها تعطيل للجهد وهدر للوقت وإقلال في الإنتاج، مما يؤكد ضرورة مراجعتها، وأن هذه المراجعة أصبحت واجباً وطنياً، ينبغي أن توليه الدولة اهتماماً ملحوظاً، إن كانت تبتغي بحق وحقيقة رفعة هذه البلاد وازدهارها. فقد عطلت أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية العطلات الرسمية، لحين من الدهر لينخرط الجميع في العمل وبذل الجهد المضاعف من أجل استرداد عافيتها الاقتصادية، والنهوض من الكبوة التي حلت عليها بسبب هذه الحروب الضروس التي أفقدتها الكثير بدءاً بالإنسان، وانتهاءً بالإنتاج والنماء. أخلص إلى أنه من الضروري أن نفكر نحن أيضاً عما نفعله من أجل بناء الوطن وإعماره بالعمل الدؤوب والجهد المتواصل. وإنه من الظواهر اللافتة أن كثرة هذه العطلات الرسمية، بدأت تثير ضيق بعض المخلصين من العاملين في الدولة، ناهيك عن جماعة القطاعات الخاصة، إضافة إلى المستثمرين من الوطنيين والأجانب، الذين بدأوا يظهرون ضجرهم من هذه العطلات الرسمية جهراً بعد أن كانت همساً. واللافت للانتباه أن في قديم الأيام كان الذين يهجرون العاصمة في عطلات نهاية الأسبوع مواطنو مديرية النيل الأزرق لقربها من الخرطوم، وسهولة شارعها ومواصلاتها، ولكن تغير الحال في أيامنا هذه، إذ امتدت شبكة الطرق المعبدة والمواصلات الميسرة إلى ولايات الجزيرة والقضارف وكسلا وسنار والنيل الأبيض ونهر النيل والشمالية، أهل تلكم الولايات إذا ما حصلوا على عُطلة تزيد عن اليوم أو اليومين، يهرعون زرافات ووحداناً إلى أهليهم هناك. والمؤلم أن العطلة إذا كانت يوم الاثنين كما سيحدث غداً، لا أحد سيعود ليداوم عمله يوم الأحد، بل يواصلون الأيام في نهاية الدوام يوم الخميس إلى الثلاثاء، فهكذا تكون العطلة بدلاً من يوم واحد، لتصير خمسة أيام بأكملها. عليه نحن نعلم أن عُطلة نهاية الأسبوع، بإضافة يوم السبت إلى يوم الجمعة، أصبحت حقاً مستحقاً للعاملين، ولكن المردود من نواحي العمل قلَّ إلى درجة مزعجة للمشفقين على مستقبل هذه البلاد. فالصين حققت كل هذه النجاحات، بتقليل العطلات الرسمية، إذ إن مفكرة العام الصيفية تتضمن يوماً واحداً كعطلة رسمية. لذلك نطالب الدولة بالإسراع إلى إعادة النظر في أمر إصدار العطلات الرسمية. ويكفي ما حدث في يوم الاستقلال، إذ صدر بيان من أمامة مجلس الوزراء بأن العطلة يوم الخميس الثاني من يناير الحالي، ثم صدر بيان آخر استدراكي، أعلن أن العطلة يوما الأربعاء والخميس، زد على ذلك الجمعة والسبت، باعتبارهما عطلة نهاية الأسبوع. عليه أدركوا هذا الأمر قبل أن يستفحل، وتصبح أيام العطلات الرسمية في السودان أكثر من أيام العمل! ولنستذكر في هذا الصدد قول أبي الطيب أحمد بن الحسين المعروف بالمتنبئ: وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الاجسام وكذلك قول أمير الشعراء أحمد بك شوقي: وللأوطان في دم كل حر يد سلفت ودين مستحق =====