"ومن السماء نزلت أم فُجرت من عليا الجنان ... جداولاً تترقرق ؟". ليس أحمد شوقي وحده ولا جميع شعراء النيل في جنوب وشمال الوادي هم من يتغنون بجمال النيل وضفافه "بالليل " ، ولكن أيضاً علماء الاجتماع الذين يرون أن انعكاس المياه على أسلوب حياة السكان في بلد ما تجعلهم أكثر تسامحاً وطيبة لأنهم يعيشون في حالة تماس مباشر مع الطبيعة. ومن ولد في بيئة كهذه فهو يقف على حافة نسمات باردة تهب من فوق مياهها الزرقاء ليستنشقها بعذوبة ويجعل عيشه فيها له طعم خاص. وطالما تغنى الشعراء والأدباء بتلك البيئة التي عشقها كل انسان يمتلك حساً مرهفاً. ونحن نذهب أكثر من ذلك ، فليس هناك من بلد تسمي أبناءها بأسماء أنهارها غير السودان فعندنا "النيل" و"حمد النيل" ولم أسمع بالعراقيين مثلاً يسمون أولادهم "فرات" أو بناتهم"دجلة" ولا السوريين يسمون "بردى". أما سر ولادتنا ونشأتنا على حب النيل العظيم فمردها أنه والدنا الأكرم والأحن والأعظم. ترد كل بضع سنين أخبار تتحدث عن تلوث مياه النيل بنفايات الصناعات ثم يلف هذه الأخبار غبار النسيان . وآخر هذه الأخبار كان في بداية هذا الأسبوع في الجولة الناجحة التي قام بها الزميل محمد كشان بهذه الصحيفة.حيث رصد كشان بالصورة والقلم شكل المادة المكونة في شكل طحالب تغطي أجزاء كبيرة من سطح مياه النيل مما أثار تخوف المواطنين من شربها .قابلت الكارثة البيئية ردود فعل رسمية متباينة ، أهل العلم والناس العاديين يقولون أن هذه المادة الخضراء المزرقة السامة هي سبب رئيسي في موت مرضى الفشل الكلوي ونفوق عدد كبير من الأسماك ، والمسئولون يقولون أن من أراد "أن يشرب من البحر " فليفعل ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ومن أراد الحيطة والحذر أكثر فعليه بشراء قناني المياه المعدنية. آفتنا الحقيقية ليست في جزر الطحالب السامة العابرة لنهر النيل ولكن في التصريحات الرسمية التي وإن جاءت في وقتها ، عندما يحتاج الناس إلى معرفة كيف من المفترض أن يتصرفوا مع ظاهرة كهذه ، وكيف سيتصرف من هو مسئول عن حياة الناس ومعاشهم في مشكلة بيئية كهذه، فإنما تجيء أيضاً عابرة للوعي العام والإدراك وكأنها تخاطب قوماً في كوكب آخر. مشكلتنا الحقيقية مع المسئولين عن أمور حياتنا أننا "نحن المواطنين" لم ننتظر إذناً بالشراب مرة واحدة من قبل وإلا كنا الآن في عداد الميتين عطشاً.كنت أتوقع مثل غيري أن تكون التصريحات بحجم الحدث أي أن تعد بالنظر في حل المشكلة لا أن تعطي المواطنين سماحاً بحرية الشرب أو عدمه. ما بقي من النيل في ذاكرة بنيه جمال لا تحده حدود وللنيل حدود صنعتها النفايات ، فمن أي شاطيء نبحر ومن أي مياه نأخذ قطرات يخيروننا فيها بأن في الإمكان شربها أولا .وما بقي في ذاكرة بنيه أيضاً دواوين شعر وأغنيات تحكي سحر التقاء زرقة سمائه مع مياهه لتكوين لوحة واحدة اسمها الوطن فبأي روح نقلب الصفحة مع التجاني يوسف بشير لنغني : أنت يا نيل يا سليل الفراديس نبيل موفق في مسابك ملء أوفاضك الجلال فمرحى بالجلال المفيض من أنسابك حضنتك الأملاك في جنة الخلد ورفت على وضيء عبابك ثم أخيراً وبأي لسان يمكننا أن نحدث العالم وبأي مداد سنكتب للتاريخ أن مدناً وقرىً كثيرة نشأت في أحضان النيل وترعرت ، أرضعت أهلها ورشف ضيفها من مناهلها الروية وأمنت ملتجئها من خوف ، اليوم يهرم فيها الخير وتلفح وجهها الوضيء ذرات الغبار ثم لن تسعفها أشجار تنبت من جديد ولن يعمّد جسدها ماء النيل الموحي . عن صحيفة "الأحداث".