أواخر مايو 2011م اهتمَّت الصَّحافة الورقيَّة والإليكترونيَّة العربيَّة بمحاضرة د. حسن الترابي بمركز شباب الدَّوحة، حول (ربيع الثورات العربيَّة: المتطلبات والمأمول)، ولا غرو؛ فالمحاضر هو الزعيم المطلق في السُّودان لإحدى أهمِّ حركات الإسلام السِّياسي في المنطقة، وقد أمسك، طوال تسعينات القرن الماضي، بدفة السُّلطة في دولة (إسلامويَّة) أقامها بقوَّة انقلاب 1989م، وأقصى منها خصومه، وقَصَر (الحرِّيَّة) فيها على أتباعه، وأدار حرباً دينيَّة ضدَّ غير المسلمين في جنوب البلاد، قبل أن يقصيه تلاميذه عن سدة الحكم، ويكرِّروا اعتقاله إداريَّاً، حيث أفرج عنه، آخر مرَّة، قبيل محاضرته المشار إليها بأسابيع. (1) قرعت المحاضرة في الأذهان، ولا بُدَّ، ذكرى محاضرة أخرى سبق أن قدَّمها الترابي نفسه، بالدَّوحة ذاتها، عام 1981م، بعنوان (خواطر في الفقه السِّياسي لدولة إسلاميَّة معاصرة)، وقد تعهَّدتها دار (عالم العلانيَّة) بالخرطوم، لاحقاً، بالتنقيح والإضافة، لتخرجها بين دفتي طبعة أولى من كتاب بنفس العنوان، عام 2000م. لكن، كما في غالب تناول الرَّجل لقضيَّة (الحرِّيَّة)، بلغت كلتا المحاضرتين نتيجة مختلفة باختلاف (الظروف)! فعلى أيَّام المحاضرة الأولى كان الزعيم الإسلاموي متحالفاً مع الدكتاتور نميري، ومدافعاً عن نظامه الشُّمولي، قبل أن تطيح به انتفاضة أبريل 1985م. لذا لم يكن أمامه سوى اتقاء حرج (الفقه) الذي وجده يصادم، في تلك الأيَّام، موقفه من قضيَّة (الحرِّيَّة) ب (فقه) مضاد، خصوصاً وأن بعض رموز الإسلام السِّياسي في المنطقة كانوا قد بدأوا يصدرون، أوان ذاك، عن موقف فقهي مخالف، كراشد الغنوشي الذي لخَّص الأمر بقوله إن "النضال من أجل (الحرِّيَّة) هو من جوهر النضال من أجل الإسلام، وإذا اعتبرت الحركة الإسلاميَّة أن (الحريَّة) ليست قضيَّة جوهريَّة فذلك سقوط رهيب! والذي أخشاه أن تكون (الحريَّة) قضية (ظرفيَّة) بالنسبة لنا، نطالب بها عندما يكون (الظرف) غير مناسب لنا. وهنا يكون السقوط الرهيب. إننا نطالب ب (الحريَّة) للإنسان أيَّاً كان" (محاور إسلاميَّة، بيت المعرفة، الخرطوم 1989م، ص 143)؛ علماً بأن الغنوشي أطلق طرحه هذا، ابتداءً، مطلع الثمانينات، ضمن الموسم الثقافي لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم الذي كان، وقتها، في قبضة الإسلامويين، مثلما كانت الحركة الاسلامويَّة كلها شريكة للنميري في السلطة! إذن، فقد كان الترابي يتطلع، في ذلك الزمان، إلى تقدير واسع ل (فقه الأحكام السُّلطانيَّة) يعينه على تحقيق أغراضه السِّياسيَّة الضَّيِّقة، أي إلى كلمة (حقٍّ) توفر ل (باطل) تحالفه مع الشُّموليَّة تبريراً دينيَّاً يقلل من أثر (الفقه) الرَّافض، إطلاقاً، لقمع (الحرِّيَّة)! (2) محاضرة 1981م انطلقت من إقرار صحيح، أساساً، بأن (الفقه) قد استند، تاريخيَّاً، إلى فهوم الفقهاء الخاضعة ل (ظروف) الزمان والمكان، لتؤكد، ضمناً، على ثنائيَّة (الأصول) الثابتة، و(الفروع) المتغيِّرة، ناسبة قضايا السِّياسة، بحق، إلى هذه (الفروع)، وواصفة (فقهها) بأنه كسب المسلمين في فهم الإسلام، وتطبيقه في كلِّ واقع، لا سيَّما أنْ قد تبدَّلت (ظروف) الحياة، وبالتالي "لا بُدَّ من تنظيم تقديرات (الحُريَّة!) .. وسائر الشئون السُّلطانيَّة، بتوخِّي أحكام فقهيَّة جديدة" (خواطر في الفقه السِّياسي، ص 3 4). مربط الفرس، هنا، وما كان يهمُّ الترابي أكثر من غيره، هو رخصة هذه "الأحكام الفقهيَّة الجَّديدة". لكن، عند التطبيق، ثبت أن معيار (الجِّدَّة) لدى الرَّجل أبعد ما يكون عن المعيار الذي يُنتظر، عادة، من الأئمة (المجدِّدين)؛ فبعد أقلِّ من عقد من محاضرة 1981م، ثمَّ على مدى عقد آخر (1989م 1999م)، تكشَّف، عمليَّاً، أن دلالة هذا المعيار هي أقصى ما يمكن أن يبلغه (فقه الضَّرورة) من طلاقة وتحلل وتفلت من أيِّ ضابط أو رابط، حيث (الظروف) هي الكلمة المفتاحيَّة، بل الوسادة المريحة التي يلجأ الترابي للاتكاء عليها كلما احتاج لتغيير اتجاه (الفقه)، ولو بالمصادمة لثوابت الدِّين، فإذا ب (الحرِّيَّة)، لديه، مجرَّد قضيَّة (ظرفيَّة)، وإذا بحديثه الموسمي عنها محض مكاءٍ وتصدية! تأكد ذلك أكثر، ليس بإقرار الترابي بأن الدَّولة الإسلاميَّة الأولى "لن تكون، روحاً وصورة، إلا كالمثال الأعلى للحكم" (المصدر نفسه)، وإنما بالخلاصة (الخاطئة) التي استخلصها، للعجب، من نفس هذا الحكم (الصائب)، باستدراكه العدمي عليه قائلاً: "نبدأ اليوم من (واقع) مثقل ب (العجز) .. فلا بُدَّ من أن ننسب الحديث عن النظام السِّياسي الإسلامي إلى (الواقع) حتى يكون (هادياً) في حركة حياة المسلمين" (المصدر). (واقع العجز)، إذن، وليس (المثال الأعلى) هو ما يريد له الترابي أن يكون (الهادي) لحياة المسلمين، فتأمَّل! وللرَّجل عودة مستفيضة إلى مكانة (الظروف) من إشكاليَّة (المثال والواقع)، حيث أكد على أن حركته انتقلت من (المجرَّد) إلى (الواقعي)، "وبدأ الفقه لديها، بعد (التنطع النظري!)، .. يتصوَّب نحو الأوضاع الرَّاهنة .. ويتكيَّف حسب وجوه تطوُّراتها، ووقائع تقلباتها .. (و) اكتسب صفة .. البيان الذي يشرح ليَهدي" (الحركة الإسلاميَّة في السودان، ط 2، بيت المعرفة، الخرطوم 1992م، ص 218 219 220). أما الاستراتيجيَّة الشَّاملة فيحدِّدها الترابي بأنها "إدراج المجتمع كله في الحركة؛ فقد أخذت الجَّماعة تتحوَّل، بطبيعتها، نحو أن تكون المجتمع" (المصدر، ص 35). ولا تقتصر هذه الذهنيَّة على مفاوضة المجتمع لإقناعه بجدوى (تمكينها) منه، بل تجعل من مهمَّة (تذويبه)، بأسره، أو ما يعكس، بالضَّرورة، دلالة (قسره) على (الذوبان) في ذاتها، غاية سلطويَّة تتصوَّب نحوها الحركة باعتبارها (الجَّماعة الهادية) التي "ينبغي أن تسعى .. للتمكن في مجتمعها، تدرُّجاً، حتى تستنفد جدوى تميُّزها عنه بصفٍّ وصورة"، وبالنتيجة "تصبح هي المجتمع الجديد القائم بالدين" (المصدر، ص 130). إحالة المجتمع، طوعاً أو كرهاً، إلى (مرجعيَّة الجَّماعة)، أجهرُ، هنا، من أن تعتمها غلالة الدَّعوة الناعمة "لاستنفاد الجَّماعة جدوى تميُّزها" عن هذا المجتمع؛ مثلما أن مشروع تأسيس المجتمع القائم ب (الدِّين)، في هذه الحالة، لا يبرح كونه محض غطاء لمشروع المجتمع المحكوم ب (الدَّولة الدّينيَّة)! ولعلَّ أظهر ما يكون ذلك في قول الترابي، ضمن محاضرة 1981م، إن "الشَّريعة (الواحدة) .. هي ضمان (الوحدة) بين كلّ (واحد) من الرعيَّة وبين كلِّ (واحد) من ولاة الأمر" (خواطر في الفقه السِّياسي، ص 8). وقوله، كذلك، بأن (الوحدة) تنبثق عن معاني (التوحيد) "إذ ما دام الربُّ (واحداً)، وما دام الشَّرع .. (واحداً)، فالناس على طريق (الوحدة) سائرون" (المصدر، ص 13). هكذا يسحب الترابي، عام 1981م، على أيَّام حكم (الفرد) المطلق في السُّودان، مقولة (الوحدانيَّة والتوحيد) من حقل (الإيمان) إلى حقل (السِّياسة)، فليست (الوحدانيَّة) قيمة مقصورة، لديه، على حقيقة الوجود الإلهي المطلقة، المحكومة بمعايير (الإيمان والكفر)، بل لقد اختلطت بمفاهيم (السِّياسة) حالة كونها بعض تدابير العقل البشري المحكومة، على العكس من ذلك، بمعايير (الصواب والخطأ)! أمَّا (التعدُّديَّة) فقيمة يدَّخرها الترابي لتمارس، فقط، داخل (جماعته) التي ".. عرفت التعدُّد وجوداً، كما عرفت التوحُّد وجوباً، لكنها لم تبلغ بعد أن .. تطوِّر تصوُّرات التعدُّد في سياق مجتمع إسلامي متمكن ذي سلطان سياسي متوحِّد" (المصدر، ص 115 116)؛ وأما (الحرِّيَّة) فقضيَّة (ظرفيَّة) ينظر إليها الرَّجل من زاوية المصلحة الحزبيَّة وحدها. فالجَّماعة، حين نالت، دون باقي الشَّعب، هامشاً من (الحرِّيَّة)، بناءً على صفقتها مع النميري، ".. توخَّت رخصة تلك (الحرِّيَّة) لتبنى قاعدتها وقوَّتها .. فقدْرٌ من (الحريَّة) ل (الأعضاء) .. ضمانٌ ل (تديُّن) أوسع" (المصدر، ص 34، 78). (3) تجلت، أكثر مِمَّا في أطروحاته الفقهوفكريَّة، خصائص الدّلالة المعياريَّة ل (جدَّة الأحكام الفقهيَّة) لدى الترابي، من خلال عُشرة المواطنين مع الهيكلة والمنهج اللذين اعتمدهما لدولته، ونظامه، وحزبه الحاكم، منذ إطاحته، عام 1989م، بالنظام الدِّيموقراطي، وبالحكومة المنتخبة، عبر انقلاب عسكري خطط له بنفسه، وفق اعتراف جهير شهير، وأوكل قيادته إلى العميد، آنذاك، عمر البشير، حيث فرض، بمحض القوَّة المادِّيَّة، دولة إسلامويَّة أنكر فيها على خصومه مشروعيَّة المشاركة في العمليَّة السِّياسيَّة؛ فانطلقت أجهزة قمعها، على مدى ربع قرن حتى الآن، تعدم، وتعذِّب، وتعتقل، وتلاحق، وتشرَّد الآلاف من كوادر المعارضة، بل ومن المواطنين العاديين، في سجون علنيَّة وسرِّيَّة؛ وتنفذ، فضلاً عن كلِّ ذلك، برامج شيطانيَّة لقطع الأرزاق لا تقلُّ بشاعة عن قطع الأعناق، من خلال عمليَّات واسعة للإقصاء والإحلال شملت كلَّ المؤسَّسات المدنيَّة والعسكريَّة، وراح ضحيَّتها عشرات الآلاف من المشتبه في ولائهم، بينما تكسَّب منها أهل الولاء للنظام وحزبه، مِمَّا دفع بالملايين لهجر البلاد إلى شتات المهارب في قِبَل الأرض الأربع، وأصقاعها كافة؛ وإلى ذلك كله شنَّ النظام الذي أرسى الترابي قواعده، بالتآمر على الدِّيموقراطيَّة ونظامها، حرباً دينيَّة غير مسبوقة ضدَّ الإثنيَّات غير المسلمة في جنوب البلاد، قبل أن ينتقل ليشنَّ ذات الحرب حتى على الإثنيَّات المسلمة في دارفور، فضلاً عن المزيد من الإثنيَّات غير المسلمة في جبال النوبا وجنوب النيل الأزرق، ضمن أحد أكثر المشاهد بشاعة في تاريخ الإنسانيَّة. مع ذلك، وفي مشهد شكسبيري شديد الندرة، انقلب تلاميذ الرَّجل عليه، ما بين خواتيم 1999م ومطالع 2000م، ليقصوه عن سدة الحكم، وليستهدفوه بالاعتقال الإداري، المرَّة تلو المرَّة، بلا محاكمة أو حتى تهمة محدَّدة، ليس تعبيراً عن موقف رافض للشُّموليَّة والاستبداد، وإلا لكان ذلك قد انعكس في سياسات مغايرة؛ وإنما تعبيراً، فحسب، عن الأثرة وشُحِّ النفس، حين تفشو بين أبناء التنظيم الباطني الواحد المغلق، وعن تصفية الحسابات المعقدة بشأن (السُّلطة)، وقسمة كراسيِّها، والإجابة على سؤالها الأزلي: من يحكم؟! (4) كان ممكناً، بطبيعة الحال، تلقي كلِّ ذلك كمحض اجتهاد بشري حول سياسة الحياة الدُّنيا، لو لم يؤثِر الترابي أن يردَّه إلى ما يسمِّيه (التديُّن بالسِّياسة)، أو (توبة الدَّولة إلى الدِّين)، أو ما إلى ذلك من شائع مسكوكاته الاصطلاحيَّة. مهما يكن من شئ، فبالنظر لمحاضرة 1981م، وما سبقها وتبعها من أطروحات، فضلاً عن الأبنية التي أقامها الرَّجل لدولته وحزبه، في عقابيل انقلاب 1989م، حقَّ لبعض المصادر أن تشير لمحاضرة مركز شباب الدَّوحة، في مايو 2011م، بأن ذلكم هو "الترابي في نسخته الجَّديدة" (سودان تريبيون، 2/6/2011م)، كناية عن الدَّهشة إزاء تباين طرحه (الجَّديد) عن السَّابق! مع ذلك لم تستطع هذه الدَّهشة إخفاء تعبير هذا التباين عن أزمة فكر الترابي، في (تناقضه)، لا في (تطوُّره)، إذ من شروط (التطوُّر) أن يتأسَّس على (مراجعة) واضحة، و(نقد ذاتي) مستقيم، وهو ما ظلَّ الزعيم الإسلاموي يتحاشاه، طوال السَّنوات الماضية، بعناد ومكابرة، مطلقاً قولته الشهيرة بأنه إنما "يتوب إلى الله لا إلى البشر!"، مع أن المعلوم من الدِّين بالضرورة أن الله قد يغفر ما يلي حقه هو، لكنه لا يغفر، قط، ما يلي حقَّ البشر، اللهمَّ إلا إذا عفوا هم وتجاوزوا. الشَّاهد أن عدم اعتياد الترابي على (المراجعة) و(النقد الذَّاتي) هو الذي يوقع منطقه، بين كلِّ آن وآخر، في التناقضات والالتباسات. لقد عبَّر، مثلاً، قبل عام واحد من انقلابه، عن بَرَم واضح ب (المُساكنة) المتنوِّعة في نسق البنية الهيكليَّة لعلاقات الثقافة والسِّياسة في السُّودان، بقوله: ".. كان قدرنا .. أن (نبتلى) ببلد مركب معقد البناء يكاد يمثل كل الشُّعوب الأفريقيَّة بلغاتها وسحناتها وأعراقها وأعرافها" (م/الصَّياد، ع/مايو، بيروت 1988م). لكنه عاد، في محاضرة الدَّوحة الثانية، عام 2011م، ليجزم بأن "التنوُّع العرقي والدِّيني لا يشكل خطراً على مستقبل السُّودان"، متمثلاً بخبرة أمريكا التي "تضمُّ أعراقاً مختلفة لم تنتظم، بعد، لكنها تساهم في تقدُّم البلد"، ومؤكداً على أن "الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة تدعو للاتفاق والائتلاف، ويمكن في ظلها أن يسهم الكلُّ بما عنده" (الرَّاية، 2/6/2011م). أزمة فكر الترابي ليست في تناقض أطروحاته بين حاضرها وماضيها، فحسب، بل وفي تناقضها الدَّاخلي أوان ذات الحيِّز الزَّمني لتقديمها. وبما أننا بصدد معالجاته لإشكاليَّات الإسلام السِّياسي، فسنغضُّ الطرف عن تناقض تحذيره، في المحاضرة الثانية، من إغفال الثورات الاستعداد لما بعدها (المصدر)، مع دعوته، قبل أيَّام من ذلك، لإسقاط النظام، أوَّلاً، ثم البحث عن البديل (موقع "آخر لحظة" على الشَّبكة، 12/5/2011م)، وذلك كي نركز على إبراز أهمِّ تلك المعالجات. في هذا الإطار شرح الرَّجل صدراً، في محاضرة مايو 2011م، بالثورات العربيَّة الباحثة عن (الحريَّة)، ناسباً فضل ربيعها، بلا حيثيَّات مقنعة، إلى ما أسماه (المدَّ الإسلامي)، قائلاً إنه "الوحيد الذي يفرض الشِّعارات على الشَّارع العربي، وإذا ما قامت ثورة في السُّودان فسيكون المدُّ الإسلامي الأكثر حضوراً!" (المصدر)؛ وإن الغربيين يدركون أن الإسلام قادم للحكم بنمط غير الذي يخيفهم، وقد بدأوا يتفاعلون مع الحركات الإسلاميَّة لأن "بعض الإسلاميين القادمين متعلمون في الغرب!" (الرَّاية، 2/6/2011م). وربَّما لا نجد تفسيراً لما ينضح به هذا التقدير الأخير من سذاجة غير معهودة في الرَّجل إلا بكونه مهجوساً بإسقاط ذاتي معلوم المصدر (!) أما المفارقة الكبرى فتتمثل، هنا، في كون معظم (إسلامويي القاعدة) الذين نفذوا هجمات 11 سبتمبر لم يكتفوا بتلقي تعليمهم في الغرب، فحسب، وإنما اكتسبوا جنسيَّات بلدانه، أيضاً، كمواطنين فيها! غير أن الترابي ما لبث، على أيَّة حال، أن عاد، من جهة، ليصِم عموم المسلمين، الذين ما انفكَّ يبشِّرهم بمستقبل باهر، بأنهم أبعدوا السِّياسة عن الدِّين منذ الخلافة الرَّاشدة! وليقرَّ، من جهة أخرى، بفشل تجربة الحكم الإسلامي، بنموذجيها السُّنى في السُّودان، والشِّيعى في إيران، قائلاً إن (ثقة) الناس في حكم الإسلاميين في طهرانوالخرطوم ليست "إلا لجهلهم بتاريخ الشُّعوب، خصوصا تاريخ الإسلام، حيث من يتسلم السُّلطة يتشبَّث بها، وينقلب على أقرب الناس إليه" (الرَّاية، 2/6/2011م)؛ وليعدِّد، من جهة ثالثة، رغم حكمه بفشل التجربة السُّودانيَّة، إنجازات حركته التي تتجاوز تحرير المرأة إلى نشر لغة الضاد "لأن السُّودان على ثغر من جغرافيا العرب" (المصدر)؛ أي أنه لولا حركة الإسلام السِّياسي في السُّودان، تحت قيادته، لما "تحرَّرت المرأة"، ولما "انتشرت اللغة العربيَّة".. فتأمَّل! وليحمِّل الفقه الإسلامي، من جهة رابعة، مسئوليَّة تردِّي الممارسة السِّياسيَّة في المنطقة كونه "نصَّب علينا خليفة وحرَّم علينا الخروج" (المصدر)؛ وليصف الثقافة الإسلاميَّة، من جهة خامسة، بالجمود كونها رهنت الناس للانتماء المذهبي حتى في (النحو)، حيث انقسموا بين بصريين وكوفيين (المصدر)؛ ولينبِّه، من جهة سادسة، إلى جريرة الغرب الذي يفضِّل الحكام العرب على الإسلاميين، رغم أنه يعلم عن فسادهم أكثر مما تعلم شعوبهم (العرب، 2/6/2011م) .. فاعجب، كيف شئت، لعصيد التناقضات اللبيك هذا! (5) ما كان أغنى الترابي عن كل ذلك لو لم تتعاور أداءه موجبات (التمكين)، ومقتضيات (الكسب) السُّلطاني، في وسط سياسي غير مُواتٍ، وبيئة شديدة الفرادة، تعدُّداً وتنوُّعاً. ولعلَّ من أكثر المفارقات الباكرة لهذه الموجبات والمقتضيات جلاءً أن الترابي نفسه هو مَن كان قد أثنى على (حركته)، مطلع تسعينات القرن الماضي، ضمن كتابه (الحركة الإسلاميَّة في السودان)، قائلاً إنها "أحاطت .. بالمجتمع .. وتأهلت لأن توحِّده كله في إطارها، وتتمكن فيه بنمطها من التديُّن الأتمِّ، والولاء الأرشد .. (و) أخذ توجُّهها .. يتزكى .. نحو صفّ مطهَّر في كيفه، مقدَّر في كمِّه!" (ص 44 50 51). لكنه سرعان ما اضطر لأن يعود، آخر تلك التسعينات، ليصبَّ جام غضبه على حركته ذاتها، بعد أن انقلبت عليه، في جحود مشهود، وأقصته من سلطتها، بقوله عن حزبها، المؤتمر الوطني، إنه "مجهول الهويَّة .. اختلطت فيه رابطة الدِّين برابطة السُّلطان .. وضعف فيه متوسط التديُّن والتربية .. وضعفت أمانة السِّر، وأمانة المال .. وغابت الشُّورى .. وماتت خطة الحركة لإقامة دولة إسلاميَّة .. والاقتصاد خرج من الدِّين .. وإن بعضاً ممَّا جرَّه ذلك .. انحطاط أخلاق بعض الذين دخلوا السُّوق!" (الرأى العام، 11/2/2000م) .. وكفى بذلك مكاءً وتصدية! * نقلاً عن "الجزيرة نت" ***