ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    السعودية..فتح مركز لامتحانات الشهادة السودانية للعام 2025م    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون ينقلون معهم عاداتهم في الأعراس إلى مصر.. عريس سوداني يقوم بجلد أصدقائه على أنغام أغنيات فنانة الحفل ميادة قمر الدين    الجزائر تتفوق على السودان بثلاثية نظيفة    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    البرهان يزور تركيا بدعوة من أردوغان    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    تقارير: الميليشيا تحشد مقاتلين في تخوم بلدتين    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    سيدة الأعمال رانيا الخضر تجبر بخاطر المعلم الذي تعرض للإهانة من طالبه وتقدم له "عُمرة" هدية شاملة التكاليف (امتناناً لدورك المشهود واعتذارا نيابة عنا جميعا)    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    مكافحة التهريب بكسلا تضبط 13 ألف حبة مخدرات وذخيرة وسلاح كلاشنكوف    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    وفاة مسؤول بارز بناد بالدوري السوداني الممتاز    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    تونس.. سعيد يصدر عفوا رئاسيا عن 2014 سجينا    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مُكَاءُ التُّرَابِي وتَصْدِيَتِهِ!
نشر في حريات يوم 17 - 09 - 2011

إهتمَّت الصَّحافة الورقيَّة والإليكترونيَّة العربيَّة بمحاضرة د. حسن الترابي بمركز شباب الدَّوحة، نهاية مايو الماضي، حول (ربيع الثورات العربيَّة: المتطلبات والمأمول)، ولا غرو؛ فالمحاضر هو الزعيم المطلق، اتفق الناس أم اختلفوا، لأهمِّ حركات الاسلام السِّياسي في السُّودان، وقد أمسك، طوال تسعينات القرن الماضي، بدفة السُّلطة في دولة (إسلاميَّة) أقامها بقوَّة انقلاب 1989م، وأقصى منها خصومه، وقصر (الحرِّيَّة) فيها على أتباعه، وأدار حرباً دينيَّة ضدَّ غير المسلمين في جنوب البلاد، قبل أن يقصيه تلاميذه عن سدة الحكم، ويكرِّروا اعتقاله إداريَّاً، حيث أفرج عنه، آخر مرَّة، قبيل محاضرته المشار إليها بأسابيع.
(1)
قرعت المحاضرة في الأذهان، ولا بُدَّ، ذكرى محاضرة أخرى سبق للترابي نفسه أن قدَّمها بالدَّوحة، عام 1981م، بعنوان (خواطر في الفقه السِّياسي لدولة إسلاميَّة معاصرة)، وقد تعهَّدتها دار (عالم العلانيَّة) بالخرطوم، لاحقاً، بالتنقيح والإضافة، لتخرجها بين دفتي كتاب، بنفس العنوان، عام 2000م. لكن، كما في غالب تناول الترابي لقضيَّة (الحرِّيَّة)، بلغت كلتا المحاضرتين نتيجة مختلفة باختلاف (الظروف). فعلى أيَّام المحاضرة الأولى كان الزعيم الاسلاموي متحالفاً مع الدكتاتور نميري، ومدافعاً عن نظامه الشُّمولي، قبل أن تطيح به انتفاضة أبريل 1985م. لذا لم يكن أمامه سوى اتقاء حرج (الفقه) الذي يحتوش موقفه إزاء قضيَّة (الحرِّيَّة) ب (فقه) مضاد، خصوصاً وأن بعض رموز الاسلام السِّياسي في المنطقة بدأوا يصدرون عن موقف متقدِّم، كراشد الغنوشي الذي لخَّص الأمر بقوله إن “النضال من أجل (الحرِّيَّة) هو من جوهر النضال من أجل الإسلام، وإذا اعتبرت الحركة الإسلاميَّة أن (الحريَّة) ليست قضيَّة جوهريَّة فذلك سقوط رهيب! والذي أخشاه أن تكون (الحريَّة) قضية (ظرفيَّة) بالنسبة لنا، نطالب بها عندما يكون (الظرف) غير مناسب لنا. وهنا يكون السقوط الرهيب. إننا نطالب ب (الحريَّة) للإنسان أياً كان” (محاور إسلاميَّة، بيت المعرفة، الخرطوم 1989م، ص 143)؛ علماً بأن الغنوشي أطلق طرحه هذا، ابتداءً، مطلع الثمانينات، ضمن الموسم الثقافي لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم الذي كان، أوان ذاك، في قبضة الاسلامويين، مثلما كانت الحركة الاسلامويَّة كلها شريكة في السُّلطة.
إذن، فقد كان الترابي يتطلع، وقتها، إلى تقدير (واسع) ل (فقه الأحكام السُّلطانيَّة)، ولو لتحقيق أغراض سياسيَّة (ضيِّقة)، حيث احتاج الرَّجل إلى (كلمة حقٍّ) توفر ل (باطل) تحالفه مع الشُّموليَّة تبريراً دينيَّاً يقلل من أثر (الفقه) الرَّافض، إطلاقاً، لقمع (الحرِّيَّة)!
(2)
هكذا انطلقت محاضرة 1981م من إقرار صحيح، أساساً، بأن (الفقه) استند، تاريخيَّاً، إلى فهوم الفقهاء الخاضعة ل (ظروف) الزمان والمكان، لتؤكد، ضمناً، على ثنائيَّة (الأصول) الثابتة، و(الفروع) المتغيِّرة، ناسبة قضايا (السِّياسة)، بحق، إلى هذه (الفروع)، وواصفة (فقهها) بأنه كسب المسلمين في فهم الإسلام، وتطبيقه في كلِّ واقع، لا سيَّما أنْ قد تبدَّلت (ظروف) الحياة، وبالتالي “لا بُدَّ من تنظيم تقديرات (الحُريَّة!) .. وسائر الشئون السُّلطانيَّة، بتوخِّي أحكام فقهيَّة جديدة” (خواطر في الفقه السياسي ..، ط 1، 2000م، ص 3 4).
مربط الفرس، هنا، وما كان يهمُّ الترابي أكثر من غيره، هو رخصة هذه “الأحكام الفقهيَّة الجَّديدة”. لكن، عند التطبيق، ثبت أن معيار (الجدَّة) لدى الرَّجل أبعد ما يكون عن المعيار الذي يُنتظر، عادة، من الأئمة (المجدِّدين)؛ فبعد أقلِّ من عقد من محاضرة 1981م، ثمَّ على مدى عقد آخر (1989م 1999م)، تكشَّف، عمليَّاً، أن دلالة هذا المعيار هي أقصى ما يمكن أن يبلغه (فقه الضَّرورة) من طلاقة وتحلل وتفلت من أيِّ ضابط أو رابط، حيث (الظروف) هي الكلمة المفتاحيَّة، والتكأة التي يستند إليها الترابي كلما احتاج لتغيير اتجاه (الفقه)، ولو بالمصادمة لثوابت الدين، فإذا ب (الحرِّيَّة)، لديه، مجرَّد قضيَّة (ظرفيَّة)، وإذا بحديثه الموسمي عنها محض مكاءٍ وتصدية!
تأكد ذلك، أكثر، ليس، فقط، بإقرار الترابي بأن الدَّولة الإسلاميَّة الأولى “لن تكون، روحاً وصورة، إلا كالمثال الأعلى للحكم” (خواطر في الفقه السياسي ..، ص 3 4)، وإنما فى الخلاصة (الخاطئة) التى استخلصها، للعجب، من هذا الحكم (الصائب)، بقوله: “نبدأ اليوم من (واقع) مثقل ب (العجز) .. فلا بُدَّ من أن ننسب الحديث عن النظام السّياسي الإسلامي إلى (الواقع) حتى يكون (هادياً) في حركة حياة المسلمين” (المصدر).
(واقع العجز)، إذن، وليس (المثال الأعلى) هو ما يريد له الترابي أن يكون (الهادي) لحياة المسلمين، فتأمَّل!
وللرَّجل عودة مستفيضة إلى مكانة (الظروف) من إشكاليَّة (المثال والواقع)، حيث أكد أن حركته انتقلت من (المجرَّد) إلى (الواقعي)، “وبدأ الفقه لديها، بعد التنطع النظري، .. يتصوَّب نحو الأوضاع الراهنة .. ويتكيَّف حسب وجوه تطوُّراتها، ووقائع تقلباتها .. (و) اكتسب صفة .. البيان الذي يشرح ليَهدي” (الحركة الإسلاميَّة في السودان، ط 2، بيت المعرفة، الخرطوم 1992م، ص 218 219 220). أما الاستراتيجيَّة الشَّاملة فيحدِّدها الترابي بأنها “إدراج المجتمع كله في الحركة؛ فقد أخذت الجَّماعة تتحوَّل، بطبيعتها، نحو أن تكون المجتمع” (المصدر، ص 35). ولا تقتصر هذه الذهنيَّة على مفاوضة المجتمع لإقناعه بجدوى تمكينها منه، بل تجعل من مهمَّة تذويبه، بأسره، في ذاتها، غاية سلطويَّة تتصوَّب نحوها باعتبارها (الجَّماعة الهادية) التي “ينبغي أن تسعى .. للتمكن في مجتمعها، تدرُّجاً، حتى تستنفد جدوى تميُّزها عنه بصفٍّ وصورة”، وبالنتيجة “تصبح هي المجتمع الجديد القائم بالدين” (المصدر، ص 130).
إحالة المجتمع، هنا، طوعاً أو كرهاً، إلى (مرجعيَّة الجَّماعة)، أجهرُ من أن تعتمها غلالة الدَّعوة الناعمة لاستنفاد الجَّماعة لجدوى تميُّزها عن هذا المجتمع؛ مثلما أن مشروع تأسيس المجتمع القائم ب (الدّين)، في هذه الحالة، لا يبرح كونه محض غطاء لمشروع المجتمع المحكوم ب (الدَّولة الدّينيَّة)! ولعلَّ أظهر ما يكون ذلك في قول الترابي، ضمن محاضرة 1981م، بأن “الشَّريعة (الواحدة) .. هي ضمان (الوحدة) بين كلّ (واحد) من الرعيَّة وبين كلِّ (واحد) من ولاة الأمر” (خواطر في الفقه السِّياسي ..، ص 8). وقوله، كذلك، بأن (الوحدة) تنبثق عن معاني (التوحيد) “إذ ما دام الربُّ (واحداً)، وما دام الشَّرع .. (واحداً)، فالناس على طريق (الوحدة) سائرون” (المصدر، ص 13).
هكذا يسحب الترابي، منذ محاضرة 1981م، مقولة (الوحدانيَّة والتوحيد) من حقل (الإيمان) إلى حقل (السِّياسة)، فليست (الوحدانيَّة) صفة مقصورة، لديه، على حقيقة الوجود الإلهي المطلقة، المحكومة بمعايير (الإيمان والكفر)، إنما اختلطت بمفاهيم (السِّياسة) حالة كونها بعض تدابير العقل البشري المحكومة بمعايير (الصواب والخطأ)!
أمَّا (التعدُّديَّة) فقيمة مدَّخرة للممارسة داخل (الجَّماعة) وحدها، والتي “.. عرفت التعدُّد وجوداً، كما عرفت التوحُّد وجوباً، لكنها لم تبلغ بعد أن .. تطوِّر تصوُّرات التعدُّد في سياق مجتمع إسلامي متمكن ذي سلطان سياسي متوحِّد” (المصدر، ص 115 116)؛ وأما (الحرِّيَّة) فقضيَّة (ظرفيَّة) ينظر الرَّجل إليها من زاوية المصلحة الحزبيَّة فقط. فالجَّماعة، حين نالت، دون باقي الشَّعب، هامشاً من (الحرِّيَّة)، بناءً على صفقتها مع النميري، “.. توخَّت رخصة تلك (الحرِّيَّة) لتبنى قاعدتها وقوَّتها .. فقدْرٌ من (الحريَّة) ل (الأعضاء) .. ضمانٌ ل (تديُّن) أوسع” (المصدر، ص 34 ، 78).
(3)
تجلت، أكثر مِمَّا في أطروحاته الفقهوفكريَّة، خصائص الدّلالة المعياريَّة ل (جدَّة الأحكام الفقهيَّة) لدى الترابي، من خلال عشرة المواطنين مع الهيكلة والمنهج اللذين اعتمدهما لدولته، ونظامه، وحزبه الحاكم، منذ إطاحته، عام 1989م، بالنظام الدِّيموقراطي، وبحكومة السَّيِّد الصَّادق المهدي المنتخبة، عبر انقلاب عسكري خطط له بنفسه، وأوكل قيادته إلى العميد، آنذاك، عمر البشير، حيث فرض، بالقوَّة المادِّيَّة، دولة إسلاميَّة أنكر فيها على خصومه مشروعيَّة المشاركة في العمليَّة السِّياسيَّة؛ وأعدم، وعذب، واعتقل، ولاحق، وشرَّد الآلاف من كوادر المعارضة، بل ومن المواطنين العاديين، في سجون علنيَّة وسرِّيَّة؛ ونفذ، فضلاً عن كلِّ ذلك، برامج شيطانيَّة لقطع الأرزاق لا تقلُّ بشاعة عن قطع الأعناق، من خلال عمليَّات واسعة للإقصاء والإحلال شملت كلَّ المؤسَّسات المدنيَّة والعسكريَّة، وراح ضحيَّتها عشرات الآلاف من المشتبه في ولائهم، بينما تكسَّب منها أهل الولاء للنظام وحزبه، مِمَّا دفع بالملايين لهجر البلاد إلى شتات المهارب في قِبَل الأرض الأربع، وأصقاعها كافة، مثلما شنَّ، إلى ذلك كله، حرباً دينيَّة غير مسبوقة ضدَّ الأغلبيَّة غير المسلمة في جنوب البلاد.
مع ذلك، وفي مشهد شكسبيري شديد الندرة، انقلب تلاميذ الرَّجل عليه، ما بين خواتيم 1999م ومطالع 2000م، ليقصوه عن سدة الحكم، وليستهدفوه بالاعتقال الإداري، المرَّة تلو المرَّة، بلا محاكمة أو حتى تهمة محدَّدة، ليس تعبيراً عن موقف رافض للشُّموليَّة والاستبداد، وإلا لكان ذلك قد انعكس في سياسات مغايرة؛ وإنما تعبيراً، فحسب، عن الأثرة وشُحِّ النفس حين تفشو بين أبناء التنظيم الباطني الواحد المغلق، وعن تصفية الحسابات المعقدة بشأن (السُّلطة)، وقسمة كراسيِّها، وإجابة سؤالها الأزلي: من يحكم؟!
(4)
كان ممكناً، بطبيعة الحال، تلقي كلِّ ذلك كمحض اجتهاد بشري حول سياسة الحياة الدُّنيا، لو لم يؤثِر الترابي أن يردَّه إلى (التديُّن بالسِّياسة)، أو (توبة الدولة إلى الدِّين)، أو ما إلى ذلك من شائع مسكوكاته الاصطلاحيَّة.
مهما يكن من شئ، فبالنظر لمحاضرة 1981م، وما سبقها وتبعها من أطروحات، فضلاً عن الأبنية التي أقامها الرَّجل لدولته وحزبه، في عقابيل انقلاب 1989م، حقَّ لبعض المصادر أن تشير لمحاضرة مركز شباب الدَّوحة، مؤخَّراً، بأن ذلكم هو “الترابي في نسخته الجَّديدة” (سودان تريبيون، 2/6/2011م)، كناية عن الدَّهشة إزاء تباين طرحه (الجَّديد) عن السَّابق! مع ذلك لم تستطع هذه الدَّهشة إخفاء تعبير هذا التباين عن أزمة فكر الترابي، في (تناقضه)، لا في (تطوُّره)، إذ من شروط (التطوُّر) أن يتأسَّس على (مراجعة) واضحة، و(نقد ذاتي) مستقيم، وهو ما ظلَّ الزعيم الإسلاموي يتحاشاه، طوال السَّنوات الماضية، بعناد ومكابرة، مطلقاً قولته الشهيرة: “أتوب إلى الله، لا إلى البشر”، مع أن من المعلوم أن الله قد يغفر التعدِّي على حدوده، لكنه، بالقطع، لا يغفر التعدِّي على حقوق البشر، إلا إذا عفوا هم.
لقد عبَّر، مثلاً، قبل عام واحد من انقلابه، عن بَرَم واضح ب (المُساكنة) المتنوّعة في نسق البنية الهيكليَّة لعلاقات الثقافة والسِّياسة في السُّودان، بقوله: “.. كان قدرنا .. أن (نبتلى) ببلد مركب معقد البناء يكاد يمثل كل الشُّعوب الأفريقيَّة بلغاتها وسحناتها وأعراقها وأعرافها” (م/الصَّياد، ع/مايو، بيروت 1988م). لكنه عاد، في محاضرة الدَّوحة الأخيرة، ليجزم بأن “التنوع العرقي والدِّيني لا يشكل خطراً على مستقبل السُّودان”، متمثلاً بخبرة أمريكا التي “ضمُّ أعراقاً مختلفة لم تنتظم، بعد، لكنها تساهم في تقدُّم البلد”، ومؤكداً على أن “الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة تدعو للاتفاق والائتلاف، ويمكن في ظلها أن يسهم الكلُّ بما عنده” (الرَّاية، 2/6/2011م).
أزمة فكر الترابي ليست في تناقض أطروحاته بين حاضرها وماضيها، فحسب، بل وفي تناقضها الدَّاخلي أوان ذات الحيِّز الزَّمني لتقديمها. وبما أننا بصدد معالجاته لإشكاليَّات الإسلام السِّياسي، فسنغضُّ الطرف عن تناقض تحذيره، في المحاضرة الأخيرة، من إغفال الثورات الاستعداد لما بعدها (المصدر)، مع دعوته، قبل أيَّام من ذلك، لإسقاط النظام، أوَّلاً، ثم البحث عن البديل (موقع “آخر لحظة” على الشَّبكة، 12/5/2011م)، وذلك كي نركز على إبراز أهمِّ تلك المعالجات.
في هذا الإطار شرح الرَّجل صدراً، في محاضرته الأخيرة، بالثورات العربيَّة الباحثة عن (الحريَّة)، ناسباً فضل ربيعها، بلا حيثيَّات مقنعة، إلى ما أسماه (المدَّ الإسلامي)، قائلاً إنه “الوحيد الذي يفرض الشِّعارات على الشَّارع العربي، وإذا ما قامت ثورة في السُّودان فسيكون المدُّ الإسلامي الأكثر حضوراً” (المصدر)؛ وإن الغربيين يدركون أن الإسلام قادم للحكم بنمط غير الذي يخيفهم، وقد بدأوا يتفاعلون مع الحركات الإسلاميَّة لأن “بعض الإسلاميين القادمين متعلمون في الغرب!” (الرَّاية، 2/6/2011م). وربَّما لا نجد تفسيراً لما ينضح به هذا التقدير الأخير من سذاجة غير معتادة في الرَّجل إلا بكونه مهجوساً بإسقاط ذاتي معلوم المصدر (!) أما المفارقة الكبرى فتتمثل، هنا، في كون معظم (إسلامويي القاعدة) الذين نفذوا هجمات 11 سبتمبر لم يكتفوا بالتعلم في الغرب، فحسب، وإنما حملوا جنسيَّته، كمواطنين فيه، أيضاً!
غير أن الترابي ما لبث، على أيَّة حال، أن عاد، أوَّلاً، ليصم عموم المسلمين، الذين يبشِّرهم بمستقبل باهر، بأنهم أبعدوا السِّياسة عن الدِّين منذ الخلافة الراشدة، وثانياً ليقرَّ بفشل تجربة الحكم الإسلامي، بنموذجيها السُّنى في السُّودان، والشِّيعى في إيران، وما (ثقة) الناس في حكم الإسلاميين في طهران والخرطوم “إلا لجهلهم بتاريخ الشُّعوب، خصوصا تاريخ الإسلام، حيث من يتسلم السلطة يتشبث بها، وينقلب على أقرب الناس إليه” (الرَّاية، 2/6/2011م)؛ ورغم حكمه بفشل التجربة السُّودانيَّة إلا أنه عدَّد إنجازات حركته هناك، والتي تتجاوز تحرير المرأة إلى نشر لغة الضاد “لأن السودان على ثغر من جغرافيا العرب” (المصدر) .. حركة الإسلام السِّياسي في السُّودان، تحت قيادة الترابي، هي التي “حرَّرت المرأة”، و”نشرت اللغة العربيَّة”.. فتأمَّل! وثالثاً ليحمِّل الفقه الإسلامي مسئوليَّة تردِّي الممارسة السِّياسيَّة في المنطقة كونه “نصب علينا خليفة وحرَّم علينا الخروج” (المصدر)؛ ورابعاً ليصف الثقافة الإسلاميَّة بالجمود كونها رهنت الناس للانتماء المذهبي حتى في النحو، حيث الانقسام بين البصريين والكوفيين (المصدر)؛ وخامساً لينبِّه إلى أن الغرب يفضِّل الحكام العرب على الإسلاميين، رغم أنه يعلم عن فسادهم أكثر مما تعلم شعوبهم (العرب، 2/6/2011م) .. فاعجب، كيف شئت، لهذه العصيدة اللبيكة من التناقضات!
(5)
ما كان أغنى الترابي عن كل هذا التناقض لو لم تتعاور أداءه موجبات (التمكين)، ومقتضيات (الكسب) السُّلطاني، في وسط سياسي غير مُواتٍ، وبيئة شديدة الفرادة، تعدُّداً وتنوُّعاً.
ولعلَّ من أكثر المفارقات الباكرة لهذه الموجبات والمقتضيات جلاءً أن الترابي كان قد أثنى على (حركته)، مطلع تسعينات القرن الماضي، ضمن كتابه (الحركة الإسلاميَّة في السودان)، قائلاً إنها “أحاطت .. بالمجتمع .. وتأهلت لأن توحِّده كله في إطارها، وتتمكن فيه بنمطها من التديُّن الأتمِّ، والولاء الأرشد .. (و) أخذ توجُّهها .. يتزكى .. نحو صفّ مطهَّر في كيفه، مقدَّر في كمِّه” (ص 44 50 51).
لكنه سرعان ما اضطر لأن يعود، آخر تلك التسعينات ذاتها، ليصبَّ جام غضبه على حركته التي انقلبت عليه، في جحود مشهود، وأقصته من سلطتها، بقوله عن حزبها، المؤتمر الوطني، إنه “مجهول الهويَّة .. اختلطت فيه رابطة الدِّين برابطة السُّلطان .. وضعف فيه متوسط التديُّن والتربية .. وضعفت أمانة السِّر، وأمانة المال .. وغابت الشُّورى .. وماتت خطة الحركة لإقامة دولة إسلاميَّة .. والاقتصاد خرج من الدِّين .. وإن بعضاً ممَّا جرَّه ذلك .. انحطاط أخلاق بعض الذين دخلوا السُّوق!” (الرأى العام، 11/2/2000م) .. وكفى بذلك مكاءً وتصدية!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.